-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الطّريق إلى عرفات

جمال غول
  • 447
  • 0
الطّريق إلى عرفات

ضُحى اليوم الثّامن من ذي الحجّة (يوم التّروية)، يحرم الحجّاج بالحجّ من مكّة المكرّمة، لترتفع أصواتهم بالتّوحيد الخالص لله ربّ العالمين، مردّدين تلك الكلمات اليسيرات في النّطق، العظيمات في معنى العبودية والافتقار لله خالقِ كلّ شيء: (لبيّك اللهم لبيّك. لبيّك لا شريك لبيّك. إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك. لا شريك لك)..

ما أجمله من هتاف! وما أعمقه من نداء! لتتنزيّن شوارع مكّة بوفد الله تعالى، فلا تسمع صوتاً إلَا صوت التّلبية، ولا ترى حركة إلّا حركة الحجيج، في اتجاه واحد، وبلباس واحد، وهتاف واحد، رغم اختلاف الأعمار والأجناس، والألوان والصُّور والأشكال، وتوقّفت كلّ المشاغل والمواعيد والالتزامات، في متعة أنسَتْهم حرَّ الشّمس، وطول المسافة، والضّجر من الزّحمة، لا تسمع لهم إلّا أزيزاً كأزيز الْمِرجَل، وقد تجرّدوا من المحيط والمخيط، والصِّفات والأوصاف، وتجنّبوا الرّفث والفسوق، متوجّهين إلى منى اتباعاً لسُنَّة النَّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- القائل: “خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ” [سنن أبي داود]، ليبيتوا فيها ذاكرين مهلِّلين ومكبِّرين، يدعون الله الكريم أن يُتم عليهم النِّعمة والفضل بإكمال المناسك، كما أتمّ لأمّة الحبيب هذا الدِّين. منتظرين طلوع الفجر الجديد الذي ستبزغ معه رحمات ومغفرة وعتق من النِّيران، لينطلقوا انطلاق اللَّهفان لحاجة عزيزة، باتجاه عرفات، وقد رتّبوا الأمنيات، وسطّروا الطّلبات. قلوبهم خافقة، ونفوسهم مستبشرة، وقد وضعوا الخطوات في طريق عرفات، طريق الإيمان والأمل، والتّغيير والتّجديد، طريق ضارب في عمق التّاريخ إلى آدم عليه السّلام، بداية الحياة البشرية في هذه الدّنيا، ليشقّه بعد ذلك إبراهيم -عليه السّلام- عندما سلكه منيباً مستسلماً لله في كلّ أوامره، تاركا أهله وولده في واد غير ذي رزع، بل وصل استسلامه لله إلى درجة العزم على ذبح فِلْذة كبده، مؤذِّناً في النّاس جميعاً ليسلكوه، فقال تعالى: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحجّ: 27]، ليسلكه فيما بعد رسولُ العالمين، إتباعاً لسنّة أبيه إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ومغيّراً لعادة الجاهليّة القبيحة في عدم خروج قريش لعرفات في حجّهم، بزعمهم أنّهم أشراف البيت، طريق سلكه نبيُّ الرّحمة ليشقَّ لأمّته أعظم طريق وأوسعه إلى مغفرة الله ومرضاته، طريق لا تَشعُر فيه بالمشقّة وإن طال، ولا تُفكِّر في مشاغل الدّنيا وهمومها وإن كثرت، فتشعر بخفّة وانشراح في الصّدر كما لم تشعر به سابقاً أبداً.

إنّه يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة، يوم يقف فيه الحجّاج في موقف أشبه بموقف الحشر، أين تشرئِّبُّ الأعناق لله الكبير الخلّاق، طامعة في رحمته وعفوه. إنّه يوم عرفة الذي قال فيه النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم -وهو على ناقته يوم عرفة-: “جاءني جبريل فبشّرني قائلًا: إنَّ الله غفر لأهل الموقف جميعاً، وتحمَّل عنهم التّبعات”، فقال عمر -رضي الله عنه- ألنا خاصّة يا رسول الله؟ فقال عليه الصّلاة والسّلام: “بل إلى يوم القيامة”، فصاح عمر: كثر خير ربِّنا وطاب [رواه ابن المبارك]، إنّه اليوم الذي: “مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ” (موطأ مالك).

عند غروب شمس عرفة يفيض الحجّاج فيضان الماء، باتجاه المشعر الحرام ومزدلفة، ممتثلين أمر الله تعالى القائل: ((فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)) [البقرة: 198]. يُفيضون وقد منَّ الله عليهم بعظيم العطايا، وجزيل المثوبة، وقد غفرت خطاياهم وإن كانت مثل زبد البحر، وأُعتقت رقابهم من النّار مهما كان عددهم، فيبيتون ليلتهم في مزدلفة مبيتاً لن يجدوا راحته ولو في أفخر فنادق العالم رغم أنّهم يبيتون في العراء، لا حرم الله مسلماً من سلوك هذا الطّريق، طريق الخير، الطريق إلى عرفات، آمين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!