الفهم الجيد للسيناريوهات الأوروبية والعالمية
يدرس الأوروبيون احتمالات تطور الأوضاع جنوب المتوسط بجدية كبيرة، ذلك أنهم يدركون أن مصيرهم مرتبط أيضا بمصير الجنوب، وأنهم لا يمكن أن يستمروا في حالة الرّفاه والاستقرار التي يعيشونها بدون استقرار جيرانهم في الضفة الأخرى، الأقل تطورا والأكثر صعوبات.
ويُفترض أن تقوم دول الجنوب بذات الشيء لتعرف كيف تتكيف مع التطورات المحتملة اللاحقة، وكيف تتمكن من توفير أنسب إطار للتعامل مع الضفة الشمالية التي سبقتها بعقود في مجال بناء الدولة وتوفير الأمن والاستقرار لشعوبها.
مثل هذا التحدي ينبغي أن يدرج ضمن عناصر الرؤية التي نسعى لصوغها بالنسبة للجزائر.
لقد كانت لي فرصة المشاركة سنة 2009 في دراسةٍ عن مستقبل المتوسط سنة 2030 تحت إشراف معهد الاستشراف الاقتصادي المتوسطي IPEMED. وكان هدف الدراسة الخروج بسيناريوهات عن مستقبل هذا الفضاء المتوسطي الكثير التعقيد ثم متابعة تطور هذه السيناريوهات على فترات تتراوح بين السنتين وثلاث سنوات لمعرفة أي منها يسير باتجاه التجسيد، للتكيف معها والدفع بأفضلها إلى التحقيق.
وقد كانت السيناريوهات المطروحة بعدد أربعة:
1 – سيناريو الاختلافات المتوسطية ويتضمن استمرار نمو الدول المتقدمة وتخلف الجنوب، وسيكون فيه رابحون على رأسهم سلوفينيا وكرواتيا وتركيا وخاسرون وعلى رأسهم الجزائر ومصر ولبنان أي مجمل الدول العربية.
2 – سيناريو أزمة المتوسط التي ستَنتج عن تفاقم الأزمة الاقتصادية في أوروبا من جهة، وعن فشل الربيع العربي من جهة أخرى. ولن يكون هناك فائز في هده الحالة سوى دول جنوب أوربا وفي حدود أقل تركيا والبلقان.
3 – سيناريو التطابق المتوسطي الذي سينبثق عن توزيع جيد للثروة بين الشمال والجنوب وعن اندماج في المعايير، يتمتع الجميع فيه بكل الحريات بما في ذلك حرية تنقل الأشخاص.
4 – سيناريو التطابق بين دول الجنوب المتوسطي فيما بينها والذي سيعني إمكانية أكبر للتعامل مع الشريك الأوروبي بطريقة مختلفة عن السابق وبإمكان أن يؤدي ذلك إلى عدة بدائل في صالح الطرفين.
ولحد الآن لم يكتمل بعد التقييم الميداني لمعرفة أي من السيناريوهات نحن باتجاهه، سواء كدول جنوب أو دول شمال، بالرغم من أن هناك العديد من المؤشرات توحي أننا نسير باتجاه تجسيد السيناريو الثاني على حساب السيناريوهات الأخرى، بما يعني أن المتوسط سيعرف أزمة أكثر تفاقما وينبغي الاستعداد لها من الآن أو العمل على صناعة مستقبلات أخرى بديلة، من خلال التأثير في معطيات الحاضر اليوم. ذلك أن أيا من السيناريوهات ليس قدرا محتوما، بل بإمكان الفاعلين الذين يمتلكون رؤية واضحة أن يصنعوا البديل الذي يريدونه، فالمستقبل هو مجال حرية وإرادة وفعل أكثر من أي زمن آخر.
لذلك يبدو لنا من اللائق اليوم أن ندعو إلى أخذ مثل هذه المعطيات بعين الاعتبار لضبط رؤيتنا المستقبلية في السنوات القادمة، وذلك لا يمكنه أن يتم من غير أن نتحكم في المناهج والأدوات الخاصة بالاستشراف، وهو ما نريد أن ننوه إليه في هذه الحلقة، باعتباره مفتاح التأثير في المستقبل.
لقد سبقتنا الولايات المتحدة وأوروبا والدول الآسيوية التي رسمت طريقها نحو المستقبل إلى هذا المجال بعدة عقود، وليس أمامنا سوى الشروع في تدارك الأمر بمختلف السبل. ليس أمامنا أن نُهمل التكوين أو الأبحاث الميدانية أو التنسيق والتشاور مع المؤسسات الأوروبية الحكومية وغير الحكومية التي تسهر على التفكير في أفضل السيناريوهات التي تخدمها منذ تسعينيات القرن الماضي مثل (مشروع فرنسا 2025) أو مشروع السيناريوهات الأوروبية، مشروع المستقبلات “فيوتورس futurs، ومشروع “المنظورات” visions… الخ)، أو المشاريع الأمريكية المختلفة (أفريكوم، الشرق الأوسط الجديد… الخ)، بل كان الأولى ببلدان الضفة الجنوبية التي سارعت للعمل فرديا في هذا الجانب أن تنسق وتتشاور فيما بينها بشأن مستقبلها الذي سيكون بالضرورة مشتركة قبل أن تشرع في التفكير في مستقبلها بشكل فردي وأحيانا بشكل فيه الكثير من التناقض والتنافس غير المجديين (المغرب 2030، موريتانيا 2030، تونس 2030، مصر 2030، الأردن 2020 …الخ) .
هذه البلدان جميعها حاولت صوغ رؤية لنفسها بعيدا عن الآخرين. لم تكلف نفسها عناء التفكير الجماعي لأنها ربما اعتقدت أن مصيرها غير مشترك، بل لم تسع للتفكير جماعيا في تعميم آليات ومناهج البحث التي تكون قد اكتسبتها من بلدان الشمال على بعضها البعض باعتبارها مفتاح استمرار اليقظة الإستراتجية في هذا المجال، هذا إذا لم تكن قد صاغت هذه الرؤية من خلال خبراء أجانب دون أن تكلف نفسها عناء التفكير، الأمر الذي يتنافى مع موضوعية الاستشراف ذاته ومع قواعده المنهجية.
ولعل ذلك ما يدفعنا اليوم، بعد أن استمرت بلداننا تجانب الإقلاع الجماعي، إلى دعوة مؤسسات اتحاد المغرب العربي، على الأقل، إلى توحيد التفكير في المستقبل الذي ينتظرها بين بعضها البعض ومع الضفة الأخرى إذا لم تستطع الشروع في البناء الوحدوي الحقيقي المنتظر منذ أكثر من نصف قرن (مؤتمر طنجة)، باعتبار أن الفكر ينبغي أن يسبق العمل إذا لم يرافقه جنبا إلى جنب. أي أنه علينا أن نفكر معا لنعرف لماذا لم نستطع العمل معا قبل أن نشرع في أي جهد خال من أية إستراتيجية أو مدى بعيد، قد يؤدي بنا نحو أسوأ السيناريوهات.
وقد انتبه الأوروبيون إلى هذا، باعتبار أن مصيرهم هم أيضا سيكون مهددا إذا ما استمرت سياستنا على هذا النحو، وبخاصة إذا ما استمرت بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وبخاصة الصين القادمة من بعيد تملآن هذا الفراغ الاستراتيجي بما يخدم مصالحها ويتناقض في كثير من الأحيان مع المصالح الأوروبية.
فهل ننتبه نحن لنشرع بحق في التفكير البعيد والجماعي والقائم على أسس منهجية، مع أنفسنا أولا، ومع جيراننا في كل الشمال الإفريقي باعتبار مصيرنا المشترك، ثم مع شركائنا الأوروبيين، وغير الأوروبيين لنبني ذلك المستقبل الذي يجنب الأجيال القادمة الصراع ويمكنهم من العيش بطريقة أفضل في ظل الاستقرار والأمن.
إننا ندرك أن بلادنا والضفة الجنوبية وكل الجنوب مقبل على تبدلات عميقة في كل المستويات. وسنعرف جميعا تهديدات لم يسبق لنا أن عرفناها من قبل تمس استقرار وأمن بلداننا، كما ندرك أن أوروبا بالتحديد هي الأخرى تعرف أن المجال المتوسطي حيوي بالنسبة لأمنها الاستراتيجي، والقوى الكبرى الأخرى يمكنها ان تنافس غيرنا من خلالنا، وعليه ليس أماننا سوى أن نصوغ رؤيتنا ضمن سياق محلي ومتوسطي وعالمي يأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار إذا أردنا أن نستمر فاعلين في محيطنا وقادرين على تجاوز ما ينتظرنا من تهديدات في كافة المجالات. وليس هناك أفضل وأنسب من أن نبدأ من بوابة الإلمام بقواعد التفكير الإستشرافي وتوطين مناهجه في بلداننا لكي نتمكن من بلورة تفكير جماعي أساس العمل الجماعي وأساس أي وحدة منشودة في المستقبل داخليا أو بين دول ذات سيادة في محيط مناوئ بكل المقاييس.