-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القراءة وروحُ القراءة

القراءة وروحُ القراءة

اعتدنا عند بداية كل دخول مدرسي، أن نتناول المسائل التي تتعلق بالمدرسة، مثل: البرامج البيداغوجية، وحالة بعض المؤسسات التعليمية، والمعاناة التي يواجهها بعض التلاميذ فيما يسمى بـ”مناطق الظل”، والحالة الاجتماعية والنفسية للأساتذة والمعلمين، ووضعية العلم والتعليم في البلاد بصفة عامة… ونذهب في ذلك مذاهب مختلفة، منّا من يثمِّن ما أنجِز وما حققته الجزائر من بنية تحتية في هذا القطاع الهام؛ قطاع التربية والتعليم بمختلف مراحله وأطواره، خاصة فيما يخص العدد الكبير من المدارس الابتدائيات والمتوسطات والثانويات والجامعات الذي تمّ بناؤه عبر مختلف ولايات الوطن. وهناك من له رأي آخر في هذه المسألة، فيعتبر بأن إشكالية التعليم في الجزائر هي إشكالية نوعية قبل أن تكون إشكالية كمية؛ أي أن مخرجات المدرسة والجامعة الجزائرية لم تصل بعد إلى المستوى المنتظَر والمطلوب منها، ويضربون على ذلك عدة أمثلة، من أهمها المستوى العام للتلاميذ وللطلبة الذي يعتبرونه دون المستوى بل وحتى ضعيف جدا.

شخصيا، أعتقد بأن هذا الموضوع جديرٌ بالاهتمام والدراسة والمناقشة، وإذا أردنا حقا أن نجد حلولا ناجعة لكل هذه المسائل المطروحة، لابد من شجاعة التقييم، شجاعة النقد والحوار المفتوح والصريح، إذ يتولى هذه المهمة الحضارية، كل من له صلة بقطاع التعليم، من مفتشين ومديرين وأساتذة ومعلّمين وأهل الاختصاص في علم النفس وعلم الاجتماع التربويين وجمعيات أولياء التلاميذ، وكل من يمكنه أن يقدِّم إضافة علمية تفيد القطاع وتنهض بالمستوى العلمي إلى المكانة المطلوبة.

ومن بين ما يُطرح من نقاش في هذا الشأن، وحول ما له صلة بقطاع التربية والتعليم مسألة القراءة، فيذهب البعض ليذكّرنا بأننا شعبٌ لا يقرأ، وبأن الإحصائيات تشير إلى أن معدل قراءة المواطن العربي في السنة لا تتعدى الخمس دقائق، وأننا متخلفون جدا في البحث العلمي وفي الدراسات الاجتماعية والفلسفية مقارنة مع بقية العالم، وأن معدل طباعة الكتب في الوطن العربي وفي الجزائر خصوصا لا يمكن مقارنتُه أمام ما تطبعه وما تقدمه دور النشر العالمية للإنسانية عموما، وبأن التطور الحقيقي والرقيّ الاجتماعي والنهضة الحضارية تبدأ من خلال الكتاب ومن خلال القراءة المستمرّة، بل وهناك حتى من يجزم بأننا إذا ما ارتبطنا بالكتاب، فإننا حتما سنتحوّل من حال إلى حال أفضل، وأن كل أزماتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية ستجد طريقها إلى الحل!.

والسؤال الذي لابد أن نوجهه إلى أصحاب هذا الطرح: أيُّ كتبٍ تريدون من الأجيال أن تقرأها حتى تصل إلى ما تعِدونها به؟ هل يتحقق ذلك بقراءة الروايات العربية والعالمية؟ أم بقراءة الكتب الفكرية؟ أم قراءة الكتب الدينية وكتب التراجم والتاريخ؟ أم كتب القصص والخيال..؟ وبأيِّ لغة تريدون من الأجيال أن تقرأ حتى يتحقق لها هذا الحلم الحضاري والتاريخي؟.

في اعتقادي، المسألة ليست لها أي علاقة بالقراءة، بالرغم من أن فعل القراءة مسألة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها في أي مرحلة من مراحل البناء الحضاري، ولكن أهم من ذلك هو الوصول إلى روح القراءة.

وقد عبَّر عالم الاجتماع الألماني كارل ماركس (1818-1883) عن هذه الفكرة في إطار عامّ وهو يتناول مسألة وعي الشعوب بقوله: “ليس وعي الناس من يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم” بمعنى آخر، إذا ما حاولنا أن نضع اسقاطا لمقولة ماركس هذه، ليس ما نحمله من أفكار هو الذي سيغير واقعنا، والأفكار عموما مصدرها كتب الفكر والروايات المختلفة ومصادر القراءة المتنوعة، وإنما ما ينقصنا هو قراءة الواقع، قراءته عن وعي، فهم اللحظة التي نحيا فيها، هذا هو الذي يغيّر واقعنا ويدفعنا إلى تحسين حالنا، وهذا ما قصدته بروح القراءة.

في الجزائر يوجد الملايين من التلاميذ والطلبة يذهبون يوميا للدراسة، فهم يمارسون فعل القراءة بشكل يومي على مدار سنة دراسية كاملة، وهناك ملايين من المصلين يقصدون أسبوعيا بيوت الله لتعلّم دينهم وتفقههم فيه، يقرأون ما تيسّر من كتاب الله ويتدارسون سنّة نبيه. في الجزائر يوجد عدد لابأس به من الجرائد تجود علينا بمقالات لكتّاب في شتى المجالات، كما يوجد قارئون ومتابعون لمختلف ما يصدر من كتب في الرواية والفكر والتاريخ والدين وحتى الطبخ، كما أن هناك ملايينَ من المشتركين في مختلف منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفضاء الأزرق الفايس بوك، فهؤلاء في هذا الفضاء على الأقل وهم يمارسون فيه فعل النزول والصعود سيمرّون على بعض الحِكَم والمقولات المفيدة أو المقالات التي تتناول الوضع السياسي والاجتماعي فيقرأونها.. إذن فعلُ القراءة موجود سواء بطريقة أو بأخرى، وهي ممارسة عقلية لا تتوقف أبدا، وفي غالب الأحيان لا ننتبه إليها، لكن الذي يغيب عنّا هو روح القراءة، القراءة الجيدة لواقعنا، والوعي باللحظة التي نعيش مثل ما ذكرت سابقا.

ما فائدة أن يستمع المصلّون إلى خطبة الإمام أو درس الجمعة ثم بعد انتهاء الصلاة يتدافعون أمام باب الخروج من المسجد أو عند باعة الخضر الذين ينتظرونهم خارج بيوت الله؟ نعم، لقد حضرت القراءة وغابت روحُ القراءة.

ما فائدة أن يذهب التلاميذ والطلبة إلى المدراس والجامعات ثم عند عودتهم يتركون أماكنهم وقد جعلوا عاليها سافلها، وفي الشوارع يرمون الأوساخ عن اليمين وعن الشمال؟ نعم، لقد حضرت القراءة وغابت روح القراءة.

ما الفائدة من رغبة التغيير التي نملك والتي عموما ترسَّخت في عقولنا من خلال مختلف القراءات التي تصادفنا في حياتنا اليومية، ومن خلال الضمير الجمعي الذي نتشارك فيه، وكذا من خلال طرح السياسيين والفاعلين الثقافيين والاجتماعيين، ثم لا نُحوِّل هذه الرغبة إلى فعل لحظي مستمرّ إيجابي ومثمِر؟ نعم، لقد حضرت القراءة وغابت روح القراءة.

إن اللحظة التي أتقن فيها الإنسان الغربي روح القراءة، بعد تخلف وجهل وحروب مدمرة، كانت هي السبب في تغيير واقعه إلى واقع أفضل، هي اللحظة التي أدت به ليغير من حاله إلى الأحسن وبالتالي تَحكُّمه في القيادة واستمراريته فيها.

إن اللحظة التي امتلك فيها الجيل الذي رافق النبي محمد صلى الله عليه وسلم روح قراءة ما بين يديه من رسائل التنزيل، ووعى واجباته وأهمية اللحظة التاريخية التي يعيش، أحدث نهضة عظيمة، ولم تكن لا وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولا البيئة القاسية التي عاش فيها سببا في تقاعسه عن أداء الرسالة.

إن روح القراءة هي التي أوصلت جيل الثورة إلى قناعة راسخة بأن ما أخِذ بالقوة لا يمكن استرجاعُه إلا بالقوة، وبأن الاستعمار الفرنسي الغاشم لا يمكن دحرُه إلا بقوة السلاح وتضحية وصبر الرجال.
إن روح القراءة وليس القراءة فقط، هي أهمّ سلاح لابد أن تكسبه هذه الأجيال إذا ما أردنا تغييرا ناجحا، وازدهارا دائما ومستمرا، إذا ما أردنا وطنا راقيا ومتطورا في كل مجالات الحياة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!