-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدارس القرآنيّة.. بين الإنجازات والتَّحديات

جمال غول
  • 2487
  • 0
المدارس القرآنيّة.. بين الإنجازات والتَّحديات

تُعدُّ المدارس القرآنيّة منارة من منارات المجد في تاريخ أمَّتنا، وقلعة من قلاع الإسلام في ربوع جزائرنا الحبيبة، فتاريخها ناصعٌ بالمواقف المجيدة، وحاضرها خيرُ شاهد على أهدافها النَّبيلة، وإنجازاتها التي لا يُنكرها إلّا جاحد أو حاقد. فقد كان لها دور بارز أثناء الحقبة الاستدماريّة في الحفاظ على الشَّخصيّة الجزائريّة العربيّة المسلمة، فأفشلت سياسات فرنسا في تنصير الشّعب الجزائريّ وتجهيله، حيث عنيت بتحفيظ أبناء الجزائر القرآن الكريم، وتعليمهم الحرفَ العربيّ، فحافظت على الإسلام والعربيّة في الجزائر.

 كانت للمدارس القرآنية جهود قبل ذلك في الدِّفاع عن حياض الجزائر في وجه الغزاة المعتدين، فشارك طلبة مازونة في ردّ العدوان الإسبانيّ على وهران، وشارك طلبة الزّوايا في المقاومات الشّعبية، وكان لأبناء الجزائر من خريجي المدارس الحرّة والكتاتيب القرآنيّة صفحات ناصعة أثناء الثّورة التّحريرية الكبرى، فكان منهم الجنود والقادة الذين ألحقوا بفرنسا الهزائم في ميدان الشّرف والبطولة.

ارتباط الجزائريِّين بالقرآن قديمٌ، وحبُّهم له أصيلٌ، وذلك منذ أن دخل الإسلام أرض الجزائر، حيث تعزّز الحبُّ عبر القرون، وتوثّق عبر الحقب، وقد تجلَّت مكانة القرآن الكريم في قلوب الجزائريِّين من خلال الأوقاف الكثيرة التي أوقفوها على بناء المساجد، والمدارس القرآنيّة، والكتاتيب، وبفضل دعمهم المالي السَّخي استمرَّ التّعليم القرآنيّ، ولم ينقطع في أيِّ لحظة من لحظات تاريخ الجزائر العصيب، واليوم نشهدُ -بحمد الله- نهضة قرآنيّة أسهم فيها المحسنون، فبنَوا المدارس والأبراج القرآنيّة الضّخمة، والمجهزة بكلِّ المرافق؛ للمساعدة على أداء رسالة نشر القرآن العظيم، وغرس قيمه في نفوس أبناء الجزائر. وبفضل الله -تعالى- ثمّ بفضل تلك الجهود السَّاهرة على التّعليم القرآنيّ تمّ تخريج مئات الآلاف من الحافظين والحافظات لكتاب الله في شتّى ربوع الوطن، وصاروا يُشرِّفون الجزائر في المسابقات العالميّة، والمحافل الدّوليّة، ويفتكّون المراتب الأولى بجدارة واستحقاق.

وفاعليّة المدارس القرآنيّة ودورها لا يقتصر على تحفيظ القرآن فحسب، بل تسهم إسهاماً فاعلا في استقامة النَّشء، وتهذيب أخلاقه، حيث تختفي كثير من الظّواهر والانحرافات السّلوكيّة لدى طلبة القرآن الكريم، وكذلك الأحياء التي تتواجد بها المدارس القرآنيّة، فهي بهذا الوظيفة خير معين على تحقيق الأمن الاجتماعيّ، ومحاربة الجريمة. وتمتدُّ الآثار الكريمة والثِّمار الطيِّبة للمدارس القرآنيّة في المجال الدِّراسي، حيث كان لها الأثر في تحقيق التّفوّق الدِّراسي لأبنائنا، فأصحاب المعدّلات الكبرى في الباكالوريا وغيرها من المراحل التّعليميّة من حملة كتاب الله تعالى، وما يُقال عن التّفوّق الدِّراسي يُقال عن التّفوّق في مناحي الحياة الأخرى، فحاملُ القرآن شخص إيجابيّ وفاعل ومثمرٌ، ينفع نفسه وأمّته.

ومع دخول أبنائنا في العطلة الصَّيفيّة فإنّنا نهيبُ بالعائلات الجزائريّة أن تُقبل على تسجيل أبناءها بالمدارس القرآنيّة؛ ليأخذوا حظّاً من حفظ كتاب الله عزّ وجلّ، ويُشغلوا أوقاتهم بما يُحصِّن شخصيّتهم، ويُعزز ثقافتهم الدِّينيّة، ولا يتركوهم فريسة الإدمان على المخدرات والألعاب الإلكترونيّة، والتّسكّع في الشّوارع يلتقطُهم أصحاب السّوء، فبالتفافنا حول القرآن الكريم تعلُّما وتعليماً نكون قد حقَّقنا الخيريّة، وجنّبنا شبابنا الشُّرور والآثام، والضَّياع والخسران، روى البخاريّ في صحيحه من حديث سيِّدنا عثمانَ بنِ عفّان رضي الله عنه أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ).

إنَّ منافع المدارس القرآنيّة المذكورة وغير المذكورة هي بعد فضل الله تعالى- نتاج جهود عظيمة بُذلت من قبل القائمين على هذا التّعليم المبارك من معلِّمي القرآن وأساتذة التّعليم القرآني وقيّمين ومؤذّنين، وأئمّة وقائمين بالإمامة، ومفتّشين ومتطوّعين، رابطوا على هذا الثّغر، وأفنوا فيه الأوقات العزيزة، ولم ينتظروا جزاءً ولا شكوراً، واجتهدوا في تنويع وسائل التّعليم واختيار النّشاطات المرافقة والمناسبة لجيل اليوم؛ تشويقاً لهم وتحبيباً في هذه المدارس النّورانيّة، ليكون ارتباطهم بها طيلة أيّام السَّنة، لا في العطلة الصَّيفيّة فقط، وعملوا على اكتشاف المتميّزين منهم، واعتنوا بهم حتّى فاقوهم أحياناً في الأداء والعطاء.

ورغم النّجاحات المحقّقة على مختلف الأصعدة لا تزال العناية بهذا التّعليم في موارده البشريّة (معلِّمين وطلبة)، والماديّة (هياكل وإدارات) محتشمة، وغير منظّمة، وما لم يُنظر إليها على أنّها فريضة شرعيّة، وضرورة واقعيّة، وأمانة في أعناق الرّاعي والرّعيّة فستبقى على حالها، ولهذا فتقنينها كخدمة عموميّة، ورصد ميزانيّة ماليّة محترمة كلَّ عام لتطويرها وتوسعيها واجبٌ على الدَّولة الجزائريّة، وحدود ذلك أن تكون الأموال المرصودة تساوي أو تفوق ما يُرصد للرِّياضة والثّقافة والفنّ من أموال. كما أنّ الفهم الصَّحيح للدّور المهم الذي يؤدِّيه القائمون عليها من الموظفين يُحتّم إعادة تصنيفهم في التّصنيفات الأعلى ضمن الشّبكة الاستدلاليّة المعتمدة لدى الوظيف العمومي. وتعميم صلاحيّة منح الشّهادات المؤهلة للطلبة على جميع المدارس القرآنيّة الدّاخلية وفق دفتر شروط محكّم هو دفع كبير نحو تعميرها، خاصّة بعدما فقدت الكثير من طلبتها بسبب غلقها وقت جائحة كورونا. كما أنّ تكريم الفائزين في المسابقات الوطنيّة والدّوليّة كلّ عام في مختلف المحافل والمناسبات لا بدّ أن تصحبَه رؤية واضحة في كيفيّة الاستفادة من كفاءتهم توظيفاً أو تكليفاً حتّى لا يتعمّق العجز في التّأطير، ولا يحالوا على التّقاعد المسبق مع وجود الحاجة إليهم.

إنّ التأمّل في النّتائج المحققّة والانجازات المجسّدة يجعل من رفع التّحديات أولوية من أولويات الدّولة والمجتمع المدني، تحقيقاً للأمن الاجتماعيّ، وانتصاراً على الجريمة، ودعما للاستقرار، وتوفيراً لفواتير هي أضعاف ما أُنفق على التّعليم القرآني. اللَّهُمّ اجعلْ كلَّ من أسهم واعتنى بهذا التّعليم من أهل القرآن، وهم أهل الله وخاصّته كما نطق بذلك الحديث النّبويّ الشّريف، واستعمل اللَّهمّ كلّ مسؤول في خدمة القرآن وأهله. وحسِّن أخلاقنا جميعاً بالقرآن، واجعله قائدنا في الدُّنيا، ومؤنسنا في القبر، وشفيعاً لنا يوم القيامة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!