-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المظاهر الطّاغية!

سلطان بركاني
  • 1269
  • 0
المظاهر الطّاغية!

لو أردنا أن نجد وصفا دقيقا يصدق على زماننا، لقلنا إنّه زمان المظاهر. والمصيبة، أنّ الأمر لم يتوقف عند حدّ المبالغة في الاهتمام بالمظاهر، بل وصل عند بعض المسلمين إلى حدّ العبودية للصّور الفانية.. أصبح كثير من عباد الله المسلمين عبيدا للمظاهر الزّائلة، لا همّ لهم في هذه الدّنيا إلا ما يلبسون وما يسكنون وما يركبون وما يأكلون ويشربون، ولا يهمّهم في كلّ هذا ما يرضي الله ويفي بالغرض من العيش في هذه الدنيا الفانية، إنّما أضحى الهمّ الأكبر هو أن يأكل الواحد منهم ما يعجب النّاس، ويلبس ما يلفت أنظارهم ويثير إعجابهم، ويركب ما يدهشهم ويستجدي إكبارهم!
ليس حراما أن يهتمّ المسلم بما يقيم دنياه، بل إنّ ذلك مطلوب ومفروض، لكنّ المؤسف هو أن يصبح الهمّ الأكبر لعبد يؤمن بالله واليوم الآخر لا يتعدّى الطعام والشراب واللباس والمتعة، واللهُ -جلّ وعلا- قد جعل هذه الحال وصفا للذين كفروا بالله واليوم الآخر، فقال جلّ شأنه: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ))؛ هذه الحال لا تليق أبدا بعبد مسلم يؤمن بأنّ الحياة الدنيا دار فانية لا تساوي شيئا أمام الدار الباقية.
عندما نرمق حال كثير من نسائنا وبناتنا في الشوارع، وكيف أنّ الواحدة منهنّ تمشي متبخترة متمايلة بزيّ يلفت الأنظار، رافعة هامتها واضعة نظارات كبيرة على عينيها أو رأسها، تحرّك فكّيها بعلكة تمضغها، وعطرها يغمر الأجواء، كأنّها ستخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولا.. ونَراهنّ كلّ صبيحة يطُفن بأسواق الملابس ويسعين بينها، لا شغل للواحدة منهنّ إلا أن تسأل عن الجديد في عالم الموضة حتّى لا يسبقها إليه غيرها من النّساء، ثمّ تردف على الصّاغة لتسأل عن جديد الأسعار وجديد المصوغات، لا يهمّها حرام ولا حلال ولا تسأل عن حكم هذه المعاملة في الذهب أو تلك، إنّما همّها الأكبر أن تلبس ما لم تلبسه صديقتها وجارتها وقريبتها. المهمّ بالنسبة إليها أن تكون أوّل من يلبس ذلك الخاتم وأن تسألها الجارة والقريبة والصديقة من أين اقتنته وكم بذلت ثمنا له! حينما نسمع عن أحاديث نسائنا وبناتنا في اللقاءات والمناسبات وكيف أنّها لا تتجاوز الكلام عن المظاهر وعن فلانة التي لها ذوق جيّد في اللّباس وعلانة التي تملك ذوقا رديئا، وعن سعر ذلك الفستان الذي لبسته تلك، والمحلّ الذي يباع فيه الحذاء الذي انتعلته الأخرى… ندرك أنّ الصّور الفانية هي ما يملأ القلوب ويشغل التفكير!
وبإزاء كلّ هذا؛ حينما نرى كثيرا من شبابنا لا همّ للواحد منهم إلا أن يلبس حذاءً غالي الثّمن وسروالا يناطح ثمنه المليون سنتيم أو يتجاوز.. لا همّ له إلا أن تكون قيمة ما يلبسه تقدّر بالملايين لا بالآلاف… حينما نرى هذا وغيره، ندرك أنّنا أصبحنا -إلا من رحم الله منّا- عبيدا للمظاهر، وأنّ المظاهر أضحت هي الهمّ الأكبر الذي نحمله في حياتنا!
وتتأكّد هذه القناعة حينما يحلّ موسم الأعراس ونرى كيف أنّ المظاهر هي أهمّ ما يدور الحديث حوله في أفراحنا.. البريستيج أصبح هو الميدان الوحيد للتنافس في أعراسنا. ما عاد هناك من يقول: فلان ظفر بزوجة صاحبة خلق ودين، أو فلانة فازت بزوج صالح يحافظ على دينه ويأكل الحلال.. إنّما الكلّ -إلا من رحم الله- يقول: فلان تزوّج امرأة جميلة وموظّفة، وفلانة تزوّجت رجلا يشتغل في المؤسّسة الفلانية، ويملك سيارة وسكنا مستقلا… كلّنا نحفظ ونردّد حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم: “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”، ونحفظ وصية الشّفيع -عليه الصّلاة والسّلام-: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”، لكنّنا في الواقع نلقي هذين الحديثين وراء ظهورنا ويصبح التنافس على ذات المنصب والجمال، وصاحب الوظيفة والسيارة والمسكن.
التنافس المحموم على المظاهر الفانية في أعراسنا يزداد حدّة عاما بعد عام.. في كلّ عام يضع لنا الشيطان أغلالا وأثقالا وبروتوكولات جديدة، ويضيف لنا شروطا جديدة، فنسمع له ونطيع، إلا من رحم الله منّا. حتّى أصبح الزّواج حلما بعيد المنال لكثير من شبابنا، ووصلت كثير من بناتنا إلى سنّ العنوسة.. أمّ العروس تقول: “هذه ابنتي الأولى، أو هذه ابنتي الصغيرة، وجهاز زفافها يجب أن يتسامع به كلّ النّاس. بنت فلانة ليست أفضل من ابنتي”. حتى لو أراد الأب أن يجعل مهر ابنته يسيرا وزواجها متواضعا، فإنّ الأمّ ترفض رفضا قاطعا أن تخالف ما عليه النّاس، وتهدّدُ وتتوعّد وتبكي لأجل أن يكون مهر ابنتها مثل مهر ابنة فلانة وزفافها مثل زفاف ابنة علانة!
أم العريس كذلك تقول: “هذا ولدي البكر (أو الأصغر)، وزواجه يجب أن يسمع به أهل المدينة أجمعهم”! أو تقول: “سهرة عرس ابني لا بدّ أن تترك أفواه النّاس فاغرة”! وأخوات العريس يردّدن نفس الكلام.. لا مكان لقال الله وقال رسوله في أعراسنا واختياراتنا.. لا نسمع من يقول: “ننظر ما يرضي الله رب العالمين ونفعله”، ولا من يقول: “قيمة ابنتي ليست في مهرها وجهازها، إنّما هي في دينها وخلقها وعقلها”، ولا من يرجع إلى عقله ليقول: “المهمّ ألا يضطرّ ولدي إلى الدّيون، وأن يهنأ بعد زواجه بامرأة صالحة”.
كثيرا ما تجد الأمّ تطلب لابنتها شرطا معجزا باهظا، وتقتني من الأمتعة والأثاث ما يملأ شاحنة كبيرة، كلّ هذا ليس لوجه الله إنّما لأجل العيون والألسن، مع أنّ ابنتها لا هي في العير ولا في النّفير، لا علم ولا ثقافة ولا أخلاق، حتّى مظهرها تصنعه بالأصبغة والماكياج.. وكثيرا ما تجد الأمّ تقول: “ولدي سيّد الرجال، عرسه لا بدّ أن يكون عرسا مشهودا”، مع أنّ ولدها ربّما لا يملك من الرّجولة إلا اسمها؛ لا يصلح للزّواج ولا لبناء بيت، ولا تمرّ على زواجه سوى بضعة أشهر حتّى يأتي إلى أمّه يشكو إليها زوجته التي ترفع صوتها في وجهه وتهدّده بالخلع!
ما الذي أوصلنا إلى هذا الواقع البئيس التعيس؟ إنّه اتّباع خطوات الشّيطان. إنّه التقليد الأعمى. إنّه تحكيم النّساء في أمور يفترض أن يبتّ فيها الرّجال.. أصبحت أعراسنا تسيّرها النّساء وتحكم فيها النّساء.. تجد الرّجل السّمين الذي ينفخ صدره أمام الرّجال، عندما تُخطب ابنته لا يستطيع أن يتّخذ قرارا حتى يشاور زوجته وبناته، ويا ليت زوجته وبناته يرجعن إلى الدّين ويحكّمن العقل! وتجد الرّجل إذا أراد أن يزوّج ابنه يقول: “الأمر متروك للنّساء ليتّخذن القرار”، أو يقول: “ولدي رجل سيتدبّر أمره”؛ فيترك أمر العرس لابنه وشلّة أصحابه يفعلون ما يشاؤون.. لذلك أصبحنا نرى ونسمع حفلة عرس صاخبة يتغنّى فيها المغنّي بالخمر والحبّ والغرام في بيت رجل ينادى بـ”الحاجّ” ويصلّي الصلوات الخمس في بيت الله، فإذا ما قيل له: أنى هذا يا “حاجّ”؟! قال: “ماذا نفعل؟! الشباب هم من فعلوها”، أو يقول: “الزوجة والبنات هنّ من دبّرن هذا”! وأنت أيها الحاجّ الذي تقيم الدّنيا ولا تقعدها لأجل خلل بسيط في مسجد الحيّ؛ أين هو رأيك؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!