-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المظاهر الطّاغية.. تتمّة

سلطان بركاني
  • 1011
  • 0
المظاهر الطّاغية.. تتمّة

مع أنّنا نجد في كتاب ربّنا وفي سنّة نبيّنا، آيات وأحاديث صريحة واضحة تؤكّد أنّ التعلّق بالعرض الفاني والعبودية للمظاهر الزائلة، لا تقود إلا إلى التّعاسة والشّقاء، يقول الله تعالى: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا))، ويقول النبيّ المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم-: “تعس عبد الدّينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش”، مع علمنا بهذا إلاّ أنّنا نظلّ مصرّين على طلب السّعادة في المظاهر الفانية، وعلى اعتبار “رقيّ” المظهر هو وحده المعيار لمعرفة من يعيش حياته ممّن هو مغبون!
نبحث عن السّعادة في ما يفعله النّاس، ونترك هدي أسعد السّعداء قدوتنا وشفيعنا محمّد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- الذي علّمنا أن نستهين بالمظاهر الفانية ونبحث عن هدأة البال وراحة النفوس في الدّين وفي البساطة والتواضع، وحذّرنا من أن تكون المظاهر هي معيارنا في الحكم على النّاس؛ فقد مرّ به يوما مر رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: هذا من أشراف الناس، حري إن خطب أن يزوّج، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مر رجل آخر، فقال -عليه الصّلاة والسّلام-: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا من فقراء المسلمين، حري إن خطب لا ينكح، وإن شفع لا يشفع، وإن قال لا يسمع لقوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لَهذا خير من ملء الأرض مثل ذاك”.
النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مع أنّه كان في حاجة إلى التميّز ليُعرف بين النّاس، إلا أنّه لبس ممّا يلبسه قومه، ولم يتميّز بزيّ ولا هيئة ولا لباس، إنّما تميّز بأخلاقه العالية وابتسامته التي لا تفارق محيّاه الشّريف.. وقد روى البخاريّ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوسٌ مع النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في المسجدِ، دخل رجلٌ على جَمَلٍ، فأناخه في المسجدِ ثم عَقَلَهُ، ثم قال لهم: أَيُّكم مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مُتَّكِئٌ بين ظَهْرَانِيهِم، فقلنا: هذا الرجلُ الأبيضُ المُتَّكِئُ…”.
وفي ميدان الزّواج الذي تطغى فيه المظاهر؛ تزوّج النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- 11 امرأة، وزوّج 4 بنات، وكان حريصا على البساطة وعدم التكلّف في زواجه وفي تزويج بناته، حتّى قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: “لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثني عشرة أوقية”.. 12 أوقية من الفضة وزنها بالغرام 480 درهما فضيا، والدرهم الفضي وزنه 3 غرام تقريبا، فيكون الصداق الأعلى لزوجات وبنات النبيّ -عليه الصّلاة والسلام- 1440 غ من الفضة، وهو أقصى ما دفعه أو طلبه النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- في زمن كانت فيه الفضة متوفّرة.
أمّا الوليمة أو عشاء الزّفاف فكانت آصعا من تمر أو شعير، بل قد أولم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بمدّين من الشّعير، أي كانت وليمته مدّين من الشعير، أي ما قدره أقلّ من 1.5 كلغ من الشّعير. وأقصى ما أولم به شاة عندما تزوّج أمّ المؤمنين زينب رضي الله عنها.
ابنته فاطمة رضي الله عنها، أفضل نساء أهل الدّنيا، التقية النقية الحصان الرزان، بضعة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأحبّ بناته إلى قلبه. فاطمة التي زوّجها ابن عمّه عليّ بن أبي طالب أسد الوغى وليث الشرى وأفضل من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين وبعد أبي بكر وعمر وعثمان ذي النورين.. كيف كان صداقها وكيف كان زواجها بعلي وكيف كانت وليمتها؟ تأمّلها يا من تقول: ابنتي عزيزة عليّ، مع أنّ ابنتك لا تصلّي الصبح في وقتها إلا في رمضان.. تأمّليها يا من تقولين: ابنة فلانة ليست خيرا من ابنتي.. تأمّلها يا من تقنعك زوجتك بقولها: “ولدنا العزيز، لا بدّ أن يتسامع بعرسه أهل المدينة كلّهم”، وهو الذي لا يضع جبهته على الأرض ساجدا لله.. عن علي رضي الله عنه قال: “قالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة خُطِبَت من رسول الله؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوجك بها؟ فقلت: أوَ عندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجك. فو الله ما زالت ترجّيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أن قعدت بين يديه أُفْحِمْتُ، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما جاء بك، ألك حاجة؟” فسكتّ، فقال: “لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم، فقال: “وهل عندك من شيء تستحلها به؟” فقلت: لا والله يا رسول الله! فقال: “ما فعلت درع سلحتكها؟” لت: فوالذي نفس عليّ بيده إنها لحُطَمِيَّة ما قيمتها أربعة دراهم، فقلت عندي، فقال: “قد زوجتكها” فابعث إليها بها، فاستحلّها بها، فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم”.. فاطمة بنت محمّد صداقها 4 دراهم، أي 12 غراما من الفضة، وقيمتها حاليا: 1200 دج.. هذا الصّداق، فماذا عن جهاز فاطمة الذي حملته معها؟ يقول عليّ رضي الله عنه: “جهَّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في خميل (قطيفة)، وقِرْبة، ووسادة أدم (جلد) حشوها إذخر (نبات رائحته طيبة)” (رواه أحمد).
ثمّ كيف عاشت فاطمة رضي الله عنها في بيت علي؟ عاشت حياة بسيطة متواضعة، كانت تطحن الشّعير في الرحى بيدها، وتحمل الحطب على ظهرها، وتعجن خبزها، وتكنس بيتها، وتغسل ثوبها وثياب زوجها وبنيها بيدها الطّاهرة، وكانت تعلف فرس زوجها بيدها.. وحين تعبت من عمل البيت وأثَّرَ عمل الرَحَى في يديها، طلبت من أبيها -صلى الله عليه وسلم- خادماً يساعدها، فقال -عليه الصّلاة والسّلام–: “ألا أدُلُّكِ على ما هو خيرٌ لك من خادمٍ؟ تسبِّحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمَدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعَك”.
هكذا يُستهان بالمظاهر الفانية عندما تكون العقول كبيرة تطلب السعادة الحقيقية في الدنيا، وما عند الله في الآخرة.. أما عندما تكون العقول صغيرة، فإنّها تتحنّث للمظاهر الفانية وتتنافس في الزّخارف التافهة.

وماذا بعد؟
ليس مطلوبا منّا أن نعتنق التصوّف، وليس واجبا علينا أن نكون من الزّهاد المنقطعين عن الدّنيا، ولا من المتنطّعين الذين يحرّمون على أنفسهم ما أباح الله من الزّينة، 00يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون)) (الأعراف: 31- 32).. إنّما المطلوب منّا أن نخرج التعلّق بالمظاهر من قلوبنا، فلا تأخذ من مساحة اهتمامنا إلا ما تستحقّه من همّ عابر ووقت قصير.
قد آن لنا بعد كلّ الهمّ الذي حصدناه باللّهث خلف المظاهر والتنافس فيها، أن نعود إلى ديننا وعقولنا.. الإنسان مجبول على الاهتمام بمظهره، لكنّ المظهر لا يجوز أن يكون الهمّ الأوحد في حياته، ويكون مظهره أغلى من شخصيته وفكره وأخلاقه.
الزّواج ميثاق شرعيّ غليظ، وهو شطر الدّين، فينبغي أن نهتمّ فيه بشرع الله وبما يحبّه الله ويرضاه، ونجتنب فيه ما يسخط المولى جلّ في علاه.. على الرّجال أن يكونوا رجالا في بيوتهم، ويوقفوا هذا التنافس المحموم في المظاهر. ماذا تفيد هذه المظاهر إذا كان بيت ابنك أو بيت ابنتك ستهجره الملائكة ويعمره الشياطين؟ بيتا لا يذكر فيه اسم الله إلا قليلا. تنشب فيه الخصومات والخلافات لأتفه الأسباب. في كلّ أسبوع تتصل بك ابنتك باكية، أو في كلّ أسبوع يأتيك ابنك شاكيا زوجته العنيدة التي لا تطيع له أمرا ولا تسمع له رأيا ولا تقيم له قدرا؟ ماذا تفيد هذه المظاهر إذا كان الزوج سيكره زوجته بعد الزّفاف بسبب الديون التي تثقل كاهله؟ ماذا ينفع أن يقيم الزّوج حفلا يسمع به النّاس ثمّ يأوي إلى امرأة لا تقيم لله فرضا ولا ترعى لزوجها حقا؟ ما فائدة أن تحمل الزوجة إلى زوجها الأحمال المحمّلة ثمّ تجده ذَكرا لا رائحة للرجولة في حياته وتصرفاته ولا أثر للدّين في واقعه؟
وأنتم أيها الشباب.. كفاكم لهثا خلف المظاهر والعرض الفاني. مِن حقّ الشاب أن يبحث عن الجمال، لكن أن يكون الجمال هو المعيار الوحيد للزّواج، فهذا والله هو الخسران المبين.
حرام أن يكون المظهر هو الهمّ الوحيد للعبد في هذه الدّنيا، به وحده يهتمّ، ولأجله يفرح أو يحزن، وعليه ينافس النّاس، ولأجله يعيش.. إن العبودية للمظاهر الفانية لن توصلنا إلى السعادة في الآخرة بل ولن تحقق لنا السعادة في الدنيا؛ فلنسأل عن حال هؤلاء النّساء المتكبّرات المتخيلات اللاتي لا همّ لهنّ إلا المظاهر، تلبس الواحدة منهنّ من أحدث ما ينزل إلى الأسواق وتضع على عينيها أو على رأسها نظارة كبيرة وتمشي كالطاووس مختالة في مشيتها؛ لنسأل عن أحوالهنّ من الدّاخل. لنسأل عن الهمّ الذي يعشعش في قلوبهنّ ويخنق صدورهنّ.. لنسأل عن دواخل هؤلاء الرجال الذين يختالون بسياراتهم ونظاراتهم ومناصبهم، لنسأل عن علاقتهم بزوجاتهم وأهليهم وسنسمع العجب العجاب.. لا ينبغي أن تغرّنا المظاهر الخادعة، فخلف كثير منها قلوب تئنّ وتصرخ من الألم. يقول الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: “إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!