-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الممارسة السِّياسية بين الفقه السِّياسي والفكر السِّياسي

ناصر حمدادوش
  • 392
  • 0
الممارسة السِّياسية بين الفقه السِّياسي والفكر السِّياسي

يعترف محمد عابد الجابري – وهو من أساطين الحداثة العربية المعاصرة – في كتابه “تكوين العقل العربي” (ص: 57) الصادر سنة 1984م: “أنَّ وضعية العرب بعد الإسلام هي غير وضعيتهم قبله، وأنَّ تحوُّلاً أعمق وأشمل من الانتقال وَقَع من مجتمعٍ قبليٍّ منغلقٍ بدون دولةٍ وبدون قانونٍ إلى مجتمعٍ منظمٍ عالميٍّ متفتِّح، تقوده دولةٌ تتوافر لديها كلِّ مقوِّمات الدولة، ومن جملتها القانون المسطور..”..

وهو ما يعني أنَّ الإسلام يتوفَّر على نظامٍ سياسيٍّ متكامل، وأنَّ وجود السُّلطة السِّياسية في الإسلام، كما نصَّ على ذلك “ابن خلدون”(ت: 1406م) في “مقدمته” هي: “ضرورة عقلية وفريضة شرعية”، وأنَّ هناك قيمةً شرعية ومصلحة دنيوية لهذه الضَّرورة البشرية، كما نصَّ على ذلك شيخ الإسلام “ابن تيمية” (ت: 1324م) في كتابه “السِّياسة الشَّرعية في إصلاح الرَّاعي والرَّعية” بقوله: “يجب أنْ يُعرف أنَّ ولاية أمر النَّاس من أعظم قربات الدِّين، بل لا قيام للدِّين ولا للدنيا إلا بها”.

إلاَّ أنَّ ظاهرة السُّلطة ومعادلة الحكم وواجب السِّياسة لا يتوقَّف على المعالجة الفقهية لمسائلها، إذْ أنَّ قضاياها تتجاوز ما هو منصوصٌ عليه شرْعًا، وهو ما يقتضي الاجتهاد في إعمال القواعد الكلية والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، بالاعتماد على مصادر غير نقليةٍ للتشريع في المجال السِّياسي، وهو ما يتطلب الانتقال من “الفقه السِّياسي” إلى “الفكر السِّياسي” في الممارسة السِّياسية، سواء كانت ممارسةً رسميةً من ولي الأمر (السُّلطة السِّياسية) أو ممارسةً غير رسميةٍ كالأحزاب والحركات السِّياسية.

وقد فرَّق الدكتور “نصر محمد عارف” في كتابه: “في مصادر التراث السِّياسي الإسلامي.. دراسةٌ في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل” (ص: 82) الصَّادر سنة 1994م بين “الفقه السِّياسي” و”الفكر السِّياسي”، وذلك من خلال استقراء الدراسات المعاصرة في الفكر السِّياسي الإسلامي، والتي تنصرف إلى ثلاثة أبعاد:

1/ المرجعية العلمية والمعرفية: إذْ تتحدَّد مرجعية الفقيه في مصدريْن هما: الوحي والواقع، فيستنبط الفقيه الأحكام الشرعية السياسية التفصلية من أدلتها الشَّرعية، وينزِّلها على الواقع المتجدِّد، بينما تتحدَّد مرجعية المفكِّر في الوحي كإطارٍ عامٍّ يهتدي به، ويتخذ من الواقع موضوعًا له، يسعى إلى توصيفه وتحليله، وتحديد كيفية التعامل معه

2/ المنهجية: الفقيه والمفكِّر كلاهما يتعامل مع النَّص والواقع، إلاَّ أنَّ أسلوب التعامل ومقاصده تختلف بينهما، فمقصد الفقيه من تحليل النَّص وفهم الواقع هو الوصول إلى حكمٍ شرعي، أمَّا المفكِّر فهو يبتغي الوصول إلى التوصيف الدقيق للواقع، وتقديم الأفكار والمقترحات لعلاجه، وهي ليست بالضَّرورة أحكاما تكليفية.

3/ وحدة التحليل الأساسية: الفقيه يبحث عادةً في الظواهر الفردية، فيكون الفرد هو وحدة التحليل لديه، أمَّا المفكِّر فيبحث في الظواهر الاجتماعية، فتكون الجماعة أو المجتمع وحدة التحليل لديه”.

وإذا كان “الفقه” بالمعنى اللغوي والأصلي هو: العلم والفهم والإدراك والفطنة، وهو ما يتوجَّب إعمال العقل وشحذ الذِّهن وبذل الجهد بما يشمل الدِّين كلَّه، كما قال تعالى: “فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ..” (التوبة:122)، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “اللَّهم فقِّهه في الدِّين، وعلِّمه التأويل”، فقد استقرَّ المعنى الاصطلاحي على تعريف العلماء له بقولهم: “هو استنباط الأحكام الشَّرعية العملية من أدلتها التفصيلية”، وهو ما يعني أنَّ إطلاق مصطلح “الفقه السِّياسي” سيكون قاصرًا وغير شاملٍ لمسائل السِّياسة، إذْ أنَّ مسائلها غير متناهية، وبالتالي: لا تستوعبها الأدلة النَّصية، وقد نقل “ابن القيم الجوزية” (ت: 1350م) في كتابه “الطرق الحُكمية” عن العلَّامة “ابن عقيل الحنبلي” (ت: 1119م) في كتابه “الفنون” حوارًا ردَّ فيه على شافعيٍّ قال: “لا سياسة إلا ما وافق الشَّرع”، فقال “ابن عقيل”: “السِّياسة ما كان فِعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصَّلاح وأبعد عن الفساد، وإنْ لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، فإنْ أردت بقولك: إلا ما وافق الشَّرع، أي لم يخالف ما نطق به الشَّرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشَّرع فغلط، وتغليطٌ للصحابة..”.

نقل “ابن القيم الجوزية” في كتابه “الطرق الحُكمية” عن العلَّامة “ابن عقيل الحنبلي” في كتابه “الفنون” حوارًا ردَّ فيه على شافعيٍّ قال: “لا سياسة إلا ما وافق الشَّرع”، فقال “ابن عقيل”: “السِّياسة ما كان فِعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصَّلاح وأبعد عن الفساد، وإنْ لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، فإنْ أردت بقولك: إلا ما وافق الشَّرع، أي لم يخالف ما نطق به الشَّرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشَّرع فغلط، وتغليطٌ للصحابة”.

وهو ما يفرض علينا الانتقال في الممارسة السِّياسية من “الفقه السِّياسي” في دائرة “الحلال والحرام” إلى “الفكر السِّياسي” في “دائرة الخطأ والصواب”، إذْ أنَّ السِّياسة لا تخضع إلى حكم النَّصِّ فقط، بل إلى الاجتهاد فيما هو غير منصوص عليه أيضًا، ولا يُحرم المجتهد عندئذٍ من الأجر، سواء أخطأ أم أصاب، كما ورد في الحديث الشَّريف عن الاجتهاد السِّياسي للحاكم: “إنَّ الحاكم إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد”.

ويرى الدكتور “عادل فتحي ثابت” في كتابه “الفكر السِّياسي الإسلامي” الصادر سنة 2022م أنَّ “الفكر السِّياسي” هو كلُّ نتاجٍ ذهنيٍّ بشريٍّ جاء منفعلاً بعالم السِّياسة، ومن هنا فإنَّ الفكر السِّياسي الإسلامي هو ذلك الفكر المنظَّم، الذي ينهج أصحابه أحد مناهج المعرفة السِّياسية الثلاثة: المنهج الاستنباطي (استنباط الأفكار السِّياسية من الكتاب والسُّنة)، والمنهج الاستقرائي، والمنهج العلمي التجريبي في الظواهر الاجتماعية والسِّياسية، وأن يكون أصيلاً، أي أنَّ صاحبه قد ابتدعه ولم ينقله على أحد، وهو ما يعني أنَّ “الفكر السِّياسي” أوسع وأرحب من “الفقه السِّياسي” الذي يعتمد على الاستنباط من النُّصوص فقط.

وجاء في كتاب “نشأة الفكر السِّياسي الإسلامي وتطوُّره.. دراسةٌ في المثلث الإشكالي: المدنية والأصالة والعقلانية السياسية” للدكتور “امحمد جبرون”، (ص: 142)، الصادر سنة 2015م، أنَّ “الفقه السِّياسي” من أجناس الفكر السِّياسي الإسلامي الرئيسة التي ظهرت تعبيراتها الأولى مبكرًا وقبل عصر التدوين، إذ قصدت كتب الفقه السِّياسي الحكم على التصرُّفات والأفعال السِّياسية الصَّادرة عن الإمام وأعوانه، وكذا الحكم على مؤسَّساته بإحدى مراتب الحكم الشَّرعي (الوجوب، النَّدب…)، وأنَّ معظم مسائل وأجوبة الفقه السِّياسي كانت ممزوجةً بأبواب الفقه الأخرى قبل التدوين (بداية القرن الثاني للهجرة)، وأنَّ فضل فقهاء عصر التدوين ومفكِّريه السِّياسيين يتجلَّى أساسًا في جمعها وتبويبها بحسب أبواب وفصول الواقع (الدولة) حتى يسهل الانتفاع بها، كما نصَّ على ذلك الإمام الماوردي (ت: 1058م) في كتابه الشهير “الأحكام السُّلطانية”، وأنَّ هَمَّ الفقيه في مجال السِّياسة والتدبير هو بيان الحكم الشِّرعي في التصرُّفات السِّياسية الفردية والمؤسَّساتية، وإيضاح الضَّوابط الشَّرعية في ذلك، وأنَّ الهواجس الرئيسة التي شغلت الفقيه والمفكِّر في المجال السِّياسي الإسلامي خلال عصر التدوين، والتي شكَّلت أحد أبعاد الفكر السياسي الإسلامي، هي:

– فقه المالية العمومية: والمتمثلة في “الخَراج”، وبسط الأحكام الفقهية في مصادر أموال الدولة الإسلامية، والحكم في مدى شرعيتها، والاختيارات الفقهية والمذهبية فيها، والتي هي في غالبيتها “عسكرية” (الغنائم والفيء والجزية..).

– فقه القضاء: وقد تجلَّت أهمُّ مظاهر النضج القضائي في الإسلام في أمرين أساسيين هما: مأسسة الوظيفة القضائية، وإنتاج جملةٍ من القواعد والنصوص الفقهية المؤطِّرة لها، والوعي بالمصادر الشرعية للأحكام القضائية.

– فقه الأحكام السُّلطانية: والذي تناول الهيكل المؤسَّساتي لنظام الحكم في الإسلام، ودسترة الصُّورة الفقهية للدولة، وخاصة في شكلها الأموي والعباسي، وقد امتزجت الرؤية الفقهية مع التجربة السِّياسية والتاريخية، وهو ما دفع بشيخنا العلامة فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي عليه رحمة الله (ت: 26 سبتمبر 2022م) إلى الاتجاه في كتابه “السِّياسة الشَّرعية في ضوء نصوص الشَّريعة ومقاصدها” إلى رحابة المنهج المنشود في الفقه السِّياسي المعاصر، بتجاوز النظرة الفقهية النَّصية للعمل السِّياسي، وذلك بالحديث عن معنى الشَّرع الذي تنطلق منه السِّياسة، والتفصيل في مسألة تعارض النُّصوص مع المصالح، والتأكيد على أُسُس ومرتكزات فقه السِّياسة الشَّرعية، والتي ترتقي من “الفقه السِّياسي الإسلامي” إلى “الفكر السِّياسي الإسلامي”، وهي: فقه النُّصوص في ضوء المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير.

إن الممارسة السياسية لا تقف عند أطلال الماضي، ولا تقتصر على النصوص الشرعية، بل تتطلب الإبداع والتجديد في الفقه السياسي، وتفرض الاجتهاد والتطوير في الفكر السياسي، وذلك بإعمال العقل في النص والواقع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!