-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المنطق الرقمي.. أو كيف نتخلّص من عادات الحِقبة الورقية في الجزائر

المنطق الرقمي.. أو كيف نتخلّص من عادات الحِقبة الورقية في الجزائر
أرشيف
الحِقبة الورقية!

قبل بضعة أشهر، اشتريت تذكرة من منصة “تذكرتي” الإلكترونية لوزارة الشباب والرياضة، لمشاهدة مباراة ربع نهائي رابطة أبطال إفريقيا، بين فريق محلي وآخر أجنبي على ملعب كرة القدم الأحدث في الجزائر، وهو ملعب نيلسون مانديلا بالعاصمة. وكان عليّ طباعة التذكرة على الورق لأتمكن من الدخول إلى الملعب، على الرغم من كونها تذكرة رقمية.

لكن يوم المباراة تزامن مع ثاني أيام عيد الفطر، ولم تكن هناك مقاهي إنترنت مفتوحة لطباعة التذكرة، كما أنني لم أشعر بالحاجة لامتلاك طابعة في المنزل منذ سنوات.

فما كان مني إلا أن أخاطر بالانتظار في طوابير طويلة لدخول الملعب من دون حمل تذكرة، بالمعنى الورقي المتعوّد عليه لتذاكر الدخول إلى أي مكان، على الرغم من أن نفس التذكرة التي كانت ستظهر على الورق، ستكون ظاهرة بذات الوضوح على شاشة الهاتف مع إضاءة وسطوع أفضل، وعلى الرغم من أن ثمنها كان مدفوعا في حساب إدارة الملعب.

ومع ذلك فقد كنت وحدي، بين جموع المتفرّجين المصطفّين في الطوابير، ألوّح بهاتفي أمام الأعوان المكلّفين بمراقبة الدخول، بدلا من ورقة A4 البيضاء التي يحملها الآخرون.

لم يكن الأمر سهلا، لكنني تمكنت من الدخول بتذكرتي الرقمية، بعد إقناع المراقبين بأن الآلات المركّبة في ساحة الملعب، لن تسمح لي، ولا لأي أحد، بالمرور إلى داخل المدرّجات مالم يكن الرمز المربع الظاهر في أعلى التذكرة (QR Code) حقيقيا.

وبأن أهمّ شيء في التذكرة، هو هذا المربع الأسود، الذي يثبت أنني دفعت ثمن الدخول بالفعل، وليس ورقة الطباعة البيضاء.

وبأن نظام التذاكر الإلكتروني في هذا الملعب الذكي والحديث، يفترض به أن يعفي المتفرّج من عناء تكرار استخراج التذكرة على دعامة إضافية، في حركة زائدة غير ضرورية، وغير منطقية من الناحية العملية والتقنية، لمجرد التعوّد على الحالة الورقية للتذكرة.

افتتح ملعب نيلسون مانديلا في جانفي 2023 لاحتضان دورة 2022 من منافسات كأس أمم إفريقيا للمحليّين (الشان)

الجزائر “بلا ورق”.. خطوات إلى الأمام

تتّجه الدعائم والوثائق والمستندات والمسارات الإدارية الورقية إلى أن تصبح جزءا من حِقبة ماضية في الجزائر، أو هذا ما ترغب به السلطات في أعلى مستوياتها على الأقل، فقد أمهل رئيس الجمهورية في اجتماع لمجلس الوزراء شهر أفريل الماضي، 6 أشهر لرقمنة قطاعات أملاك الدولة والضرائب والجمارك، على سبيل المثال.

ولعلّ أبرز المؤشرات العملية على ذلك وأكثرها جرأة، كان تنظيم البلاد في نوفمبر 2022، لأول قمة عربية “بلا ورق” على الإطلاق. حيث تمكّنت الجزائر من توفير ما يناهز 1.5 طن من الورق، كانت ستُستهلك في أشغال القمة خلال يومين فقط، بعد تعويض 150 نسخة ورقية مطبوعة من جميع الوثائق التي كانت توزّع في كلّ اجتماع على المسؤولين الحاضرين، بالدعامة الرقمية، بحسب ما كشف عنه عقبة شابي مدير عصرنة العمل الدبلوماسي بوزارة الخارجية آنذاك.

وفي غضون 6 أشهر أيضا، ابتداء من ماي 2023، سيكون قيد المؤسسات التجارية الجديدة عبر البوابة الرقمية للمركز الوطني للسجل التجاري، هو التسجيل الوحيد لدى جميع الإدارات المعنية بالعملية.

فحسب ما ينصّ عليه مرسوم تنفيذي وقّعه الوزير الأول، فإن المعني بطلب إنشاء المؤسسة غير مُلزَم، بعد تسجيل طلبه عبر البوابة، بأي تنقّل إلى أي إدارة أخرى لتسليم الوثائق الورقية، لأنه لن تكون هناك أي وثائق ورقية مطلوبة. ويشمل هذا مصالح الضرائب، وصندوقي الضمان الاجتماعي للأجراء وغير الأجراء، والديوان الوطني للإحصائيات.

وسيعوّض رقم التعريف الوطني على بطاقات الهُوية، جميع الوثائق التي تسمح بالتعرّف على هُوية مقدّم الطلب، لتقوم مصالح المركز الوطني للسجّل التجاري، والإدارات الأخرى المذكورة، بالمصادقة على طلب التسجيل في أجل لا يتعدّى 3 أيام.

وبعد ذلك، لن يستدعى مقدّم الطلب إلى أي مكان لاستلام أي شيء، بل سيصله إلكترونيا مرة أخرى وعن طريق نفس البوابة مستخرج السجل التجاري، وأرقام التعريف الجبائي والإحصائي، وشهادة الانتساب إلى صندوق الضمان الاجتماعي.

وفي الجامعة، حيث تُتداول سنويا أكوام كبيرة من الورق، سيصبح تسجيل الطلبة الجدد من حاملي شهادة البكالوريا 2023، للاستفادة من خدمات الإيواء والمنحة الجامعية، رقميا بالكامل، عبر منصة إلكترونية تخصّصها وزارة القطاع لهذا الغرض، ومن دون الحاجة للتنقّل إلى مكاتب ديوان الخدمات الجامعية، أو لتقديم أي وثائق أو مستندات ورقية.

وكذلك الأمر بالنسبة لإجراء توثيق الشهادات الجامعية، بالنسبة لجميع الطلبة، سواء كانوا متخرّجين جددا أم قدامى. وعندما تؤكد الجهات الإدارية المعنية، أن هذه الإجراءات أو تلك، ستتمّ من الآن فصاعدا عبر المنصات الرقمية بشكل حصري، فإن هذا يدلّ على أن عصر استخدام الورق لإثبات الهوية أو التسجيل للاستفادة من خدمات من أي نوع، قد أصبح من الماضي.

فالرقمنة التي تسعى الجزائر للمضيّ فيها قدمًا، وتعتبرها هدفا حيويا للدولة وقضية أمن قومي لا تتوقّف عند عصرنة وتحديث المعاملات الإدارية، التي يعدّها رئيس البلاد تحصيل حاصل، مثلما جاء في اجتماع مجلس الوزراء، تهدف في جوهرها إلى تعميم اللجوء إلى الحلول الرقمية في مختلف الميادين، من شراء التذاكر والدخول إلى ملاعب كرة القدم، إلى معاملات الضرائب والجمارك، مرورا بالملفات الطبية للمرضى والتسجيل للاستفادة من خدمات الإطعام الجامعي، من أجل تحقيق النجاعة في هذه الإجراءات، وهي الحصول على نفس النتائج، أو نتائج أكبر في معظم الأحيان، من خلال جهد ووقت أقل، وورق أقل أيضا بطبيعة الحال.

جانب من اجتماع مجلس الوزراء

معاملات رقمية.. لكن على الورق!

لكن الورق وآلة الطباعة و”الفوتوكوبي” لا تزال تتدخّل كحلقة زائدة في المسارات الإدارية المرقمنة. وإذا كانت لا تزال هناك حاجة لبذل نفس الجهد والوقت، والقيام بنفس التنقّلات، واستهلاك نفس الكمية من الورق، من أجل إتمام معاملات يفترض أن تكون رقمية، فلا بدّ من أن هنالك خطأً ما في العملية.

فمن غير المنطقي رقميا، أن تكون هنالك حاجة لنسخ أسطح بطاقة التعريف البيومترية على ورقة من الحجم الكبير، ثم قطع الورقة حتى تصبح النسخة المطابقة للأصل، وهي ليست مطابقة للأصل في حقيقة الأمر، بنفس مقاسات البطاقة البيومترية، التي يفترض أنها تحتوي على كلّ المعلومات الظاهرة على وجهيها في ذاكرة الشريحة الرقمية التي زوّدت بها.

أو أن تكون هناك حاجة للطباعة على الورق، من أجل استظهار نفس المعلومات المتوفرة على الدعامة الرقمية، مثل تذاكر الملاعب ووثائق حجز المواعيد، أو الإصرار على توفير المعلومات الرقمية على أي دعامة فيزيائية ولو لم تكن ورقية، مثل اشتراط تسليم النسخة الرقمية لنص إعلان نشر العقد التأسيسي للشركات في النشرة الرسمية للإعلانات القانونية (BOAL)، على قرص مضغوط، بدلا من إتاحة الإمكانية لإرسالها عبر البريد الإلكتروني مثلا.

ومن غير المنطقي أن تتمّ طباعة المستندات والعقود الرقمية على الورق، من أجل توقيعها بالقلم الأزرق، ثم تصويرها بكاميرا الهاتف، أو مسحها ضوئيا لإعادة إرسالها بعد التوقيع، بدلا من الاكتفاء بتوقيعها إلكترونيا.

وقد أصبح التوقيع والتصديق الإلكتروني قانونيا في الجزائر منذ تاريخ صدور القانون رقم 15-04 في فيفري 2015، وعمليًا منذ مارس 2021، عندما قامت الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة بإصدار أول شهادة منشأ، وهي وثيقة رسمية تثبت جنسية المنتج الموجّه للتصدير وغالبا ما تكون مطلوبة من قبل سلطات الجمارك في بعض البلدان، لفائدة مصدّر جزائري عن بعد، بعد أن كانت تتمّ في السابق على المستوى المركزي، قبل تطبيق التصديق والتوقيع الإلكترونيين.

ويُرجع الخبير في تكنولوجيا المعلومات يزيد أقدال هذا الوضع الهجين بين الرقمي والورقي الذي لا يزال يميّز المعاملات الإدارية المرقمنة في الجزائر، إلى أن “مشاريع رقمنة القطاعات الحكومية في البلاد لم تُسيّر بشكل مركزي ومتناسق بين مختلف هذه القطاعات”.

ويتساءل أقدال في هذا الصدد:”لماذا توجد منصات حكومية توفر خدماتها للمواطن لاستخراج الوثائق وطباعتها، ثم حملها كأوراق لإدارات أخرى، لنتحصل على مشهد يسميه البعض بالورقنة، وهي رقمنة لا تزال حبيسة للنسخ الورقية التي لا تزال ترهن تعاملاتنا مع الإدارة؟”. كما يشير الخبير إلى تباين مستويات ما يسمّيه بـ”النضج الرقمي” من قطاع لآخر.

فمن الطبيعي بالنسبة له “أن نلاحظ كل هاته المشاكل، رغم وجود المنصات، ورغم كل الجهود والاستثمارات التي بذلت”. “فنحن الآن في مرحلة انتقالية، من حقبة ورقية صرفة، نحو معاملات رقمية بالكامل.

وهذه المرحلة، وللأسباب المذكورة، يمكننا اختصارها في كلمة الورقنة، حيث التعامل الهجين بين الرقمي والورقي، في انتظار استكمال الربط والتبادل البيني للبيانات بين المنصات الحكومية، وفي انتظار استراتيجية وخطة واضحة تثمن ما جرى استثماره”، يقول أقدال.

الأوراق “فيها المشاكل”!..

وفي ملعب كرة القدم الأكثر حداثة وذكاء في الجزائر، لا تسبّب التذاكر الرقمية أي مشكلات تُذكر، ولكن الأوراق تفعل ذلك.

فقد كشف إسلام سوامي منسّق تكنولوجيا المعلومات في ملعب نيلسون مانديلا الذي احتضن أهمّ مباريات كأس أمم إفريقيا للمحليّين (الشان) بين 13 جانفي و4 فيفري الماضيين، لـ”الشروق”، عن حدوث صعوبات جمّة في تسيير دخول المتفرّجين في مقابلات بحجم نهائي “الشان” ونهائي كأس “الكاف”، بسبب استخدام بعض المتفرّجين لتذاكر ورقية مزوّرة.

بوّابات التذاكر الإلكترونية في ملعب نيلسون مانديلا

فقد كانت بوّابات مراقبة التذاكر الرقمية تتوقّف ما بين 3 إلى 4 دقائق كلّما مُرّر عليها رمز QR غير صالح أو مستخدم من قبل، وبسبب تكرّر ذلك لعدّة مرات، كانت البوّابات تتوقّف عن العمل بشكل تلقائي في نهاية المطاف، وهو ما يستدعي تدخّل التقنيين في كلّ مرة لإعادة تشغيلها من جديد.

ولم يكن ذلك ليحدث، لو أن دخول المتفرّجين كان مقتصرا على التذاكر الرقمية، خاصة بعد تزويد معظم الملاعب الجديدة في الجزائر بجيل جديد من هذه البوّابات الإلكترونية. مع العلم بأن التقنية التي كانت تستخدم لتزوير التذاكر كانت غاية في البساطة، ومرتبطة بالورق إلى حدّ بعيد، وهي: “الفوتوكوبي” يا سادة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!