-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

النشر العلمي : مُضْـحكات مُبْـكيات!

النشر العلمي : مُضْـحكات مُبْـكيات!
ح.م

لازالت معضلة النشر العلمي عبر بلدان العالم تعرف هزات عنيفة غير متوقعة، إذ أصبح فيها كل شيء مباحا، بعضهم يحتال ليترقّى ويتباهي، وبعضهم يسرق ويحتال لينال شهادة لعله يتوظّف. وفي المقابل، نجد آخرين ينددون بتلك الممارسات وبغياب وسائل الردع وبمحاباة المخلّين بقواعد أخلاق النشر من الباحثين ودور النشر. ومن الخبراء من ينادون بإيقاف المهزلة بطريقة لا ترضي الكثيرين، رغم قوة صداها في أسرة الجامعيين والباحثين.

11 ألف مجلة “مفترسة”

ومن آخر ما طالعنا به الإعلام العلمي والجامعي أن جائحة كورونا أوْحت لأربعة باحثين فرنسيين -طالب دكتوراه في كيمياء الأحياء، وطبيب، وفيلسوف، ومدير عيادة طبية- بموضوع بحث وهمي نصبوا به مقْلبًا للمجلات العلمية “المفترسة”، أي تلك التي تدّعي أنها محكّمة وتنشر أي مقال يصلها بمجرد الحصول على مقابل مالي يدفعه صاحب البحث أو مؤسسته. ويقدّر المتتبعون اليوم أن عددها وصل نحو 11 ألف مجلة”! وقد تمثّل هذا المقلب في اختيار عنوان مثير يتحدث عن دور دواء الهيدوكسي كرولوكين (الذي يدخل الآن في علاج المصابين بفيروس كورونا) في الوقاية من حوادث الدُّرَيْجات (دراجات الأطفال)!

وزعمت هذه الدراسة أن تناول هذا الدواء يحدّ من خطر حوادث الدُّرَيْجات!… وهو مقال ساخر لا يمتّ للعلم بصلة. ورد في مقدمة البحث أن الدراستين الأوليين فيه قد أُنجزتا “على كرسي المكتب” حول عدد حوادث الدُّرَيْجات في فرنسا وارتباطها بتناول مزيج من دواءيْ الهيدوكسي كرولوكين والأزيتروميسين. ويضيف المؤلفون أن في الدراسة الثالثة طلبوا من المشاركين النزول بسرعة فائقة بدريجاتهم في منحدر مساحة مهجورة حتى يرتطموا بجدار من الآجر! ويستخلصون من ذلك أنهم اكتشفوا بأن هذا المزيج بالغ الفعالية في الوقاية من هذا النوع من حوادث الدُّرَيْجات في العالم، بل إنه مزيج يستطيع حلّ كل مشاكل العالم بما فيها المعضلة الفلسطينية-الإسرائيلية!!!

ويضيف هؤلاء الباحثون أنهم استقبلوا رئيس الجمهورية (الفرنسي) لمناقشة هذه النتائج فابتهج لما سمعه منهم؛ وأن على إثر اللقاء، ألقى الرئيس خطابا متلفزا مؤكدا على ضرورة التعمق في سبل تفادي حوادث الدُّرَيْجات! وليس هذا فحسب من الكلام الغريب، بل إن من يلقي نظرة على أسماء المؤلفين الوهميين (وعددهم ثمانية في البحث المرسل) وعلى المخابر التي ينتمون إليها كان ينبغي أن يتفطن إلى أن الأمر يتعلق بمقال غير جدّي. فأحد هؤلاء المؤلفين يحمل اسم كلب الرئيس الفرنسي، أما مخبره فاسمه “قصر الإليزي”! كما نجد من بين أسماء المؤلفين Otter F. Hantome الذي هو تحريف لـ auteur fantôme  (مؤلف شبح).

ومن الفقرات الأخرى التي تبيّن عبث المقال، يوضح المؤلفون بإسهاب ظروف البحث في فرنسا ويصفونها بغير المواتية إذ أن اقتناء تجهيزات للمخبر “يتطلب الإتيان بفواتير كراء السكن ورقم السيارة بثلاث نسخ!” ويذكرون أنهم لم يصنّفوا أنواع حوادث الدُّرَيْجات بسبب كسلهم… وأنهم تخلوا عن الدراسة الثانية لأنها أعطت نتائج لا تتماشى مع رغباتهم. وفي باب مساهمة كل مؤلف، يعلنون أن أحدهم لم يقم بأي عمل، لكنه صديق عزيز للفريق فأضافوه؛ وأن مؤلفا آخر كان في عطلة وأضيف اسمه في آخر المطاف، أما في المراجع فنجد مجلات لا أثر لها، مثل مجلة “Scrooge”.

ومع ذلك، يزعم المقال أن هذه النتائج “ستنقذ ملايين الناس عبر العالم”. وفي الختام نجد شكرا موجها إلى شخص وهمي “لكفاحه ضد المجلات المفترسة ونضاله اليومي من أجل العلم النظيف في فرنسا”. ثم تليه الجملة التالية التي من المفروض أنها تكفي لكشف سرّ عبث المقال : “لعل الجملة السابقة هي العبارة الجدّية الوحيدة في المقال”!!

ونُشِر المقال خلال 3 أسابيع!

الغريب أن كل هذه الإشارات والتلميحات التي توضح بأن المقال غير جدي لم تكْفِ لإقناع “مجلة الطب والصحة الآسيوية” الأكاديمية بضرورة رفضه، بل ربما بتوبيخ المؤلفين : لقد أُرْسل المقال يوم 24 جويلية 2020، وتمت مراجعته وقبوله للنشر يوم 11 أوت، ونشر في موقع المجلة يوم 15 أوت… بعد دفع مبلغ 85 دولارا، مع العلم أن المجلة تطلب من المؤلفين دفع مبلغ يتراوح بين 50 و 500 دولار على كل منشور.

ولعل القارئ يعتقد أن المقال لم يتم تحكيمه؟! لا أبدا. فقد نشر المؤلفون الحقيقيون التبادل الذي دار بينهم وبين المحكميْن قبل النشر. وفي هذا التبادل ظهرت سطحية أحد المُحكميْن واستطاع المؤلفون إقناعه بأهمية المقال. أما المحكم الثاني فظهر أكثر جدية واستخلص أصحاب المقال أنه رفض نشره فقامت المجلة بتعيين محكّم ثالث (لأن هدفها الوحيد هو جمع المال) يشبه الأول فوافق على النشر.

يبدو أن أحد أهداف أصحاب المقلب أيضا هو أنهم أرادوا دحض مزاعم أطباء فرنسيين كانوا نشروا مقالا في هذه المجلة بالذات، مدّعين أن دراستهم نشرت في مجلة راقية. وعلى إثر نشر المقال، صدرت العديد من التعقيبات في مختلف قنوات الإعلام تشيد بنتائجه وتضلل بذلك القراء والمستمعين والمشاهدين من حيث لا تدري. وبطبيعة الحال، فبعد الضجّة على المستوى الدولي الذي أحدثها ظهور هذا المقال، قامت المجلة بسحبه من موقعها الإلكتروني.

والسؤال الذي ينبغي طرحه : ما الذي يشجع وجود هذه المجلات؟ الجواب : إنها القواعد السائدة في جميع البلدان التي تعتمد بشكل أساسي على مقياس “عدد المقالات” كطريقة لتقييم نشاط الباحثين. تؤدي هذه الطريقة إلى مثل هذه الكارثة، وهو ما تدركه جميع مخابر البحث. كما يؤدي ذلك إلى احتيال واسع النطاق، وإلى علم غير مفيد بل مضرّ بالمصلحة العامة في بلدان العالم.

ولذا فمن الأهمية بمكان الابتعاد عن مقياس “الكمّ” في تقييم الباحثين ومخابرهم. وفي الواقع، هذا ما يوصي به جميع الخبراء، لكن بين التوصية والتنفيذ طريق طويل لازلنا في بدايته!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • كاااااامل

    نطلب من صاحب المقال ان يتحدث عن النشر العلمي في الجزائر. لان اروبا قد تجاوزتنا الف الاعوام . اتصل باي مجلة عليمة لن تتلقي اي رد كان لا ادا كنت صاحب توصية ولهدا نحن في اخر المراتب . ما يجدث في الجامعات الجزائرية شي مؤسف للغاية .

  • كامر

    أنظم إلى المعلق رقم 6 ... أين هم باحثونا...لماذا لا ينشرون مقالات تبسيطية في الصحف و المجلات العادية حتى يتثقف الناس.

  • طالب جامعي

    تحية للدكتور خالد سعد الله الذي أتحفنا بهذين المقالين الاخيرين عن الواقع المرير للنشر العلمي على المستوى العالمي. فالاستاذ سعد الله يهتم غالبا بالمواضيع التي تخص الباحثين في التخصصات العلمية، أو الفئة المثقفة بصفة عامة، عبر منصة الشروق أو غيرها (مجلة التقدم العلمي، العربي...). صراحة استفدت كثيرا من مقالاته الموسومة بدقة تحليله وسلاسة وسلامة لغته. وأحبذ لو أن الاساتذة ذوو الكفاءة يحذون حذوه في نشر المعرفة وافادة المهتمين بذلك حسب تخصصاتهم. لما ترى أستاذا كبيرا (ذو كفاءة لا بالاسم) له ما يربوا عن 50 مقالا في مجلات علمية محكمة ولا تجد له شيئا يفيد به القارئ العربي فهذا -حسب رأيي- مؤسف ومخجل له،.

  • أبو يونس

    بارك الله فيك على ما تفضلت به ... ما يحدث في بلادنا أمّرُ مما كتبت ...المقالات تنشر بالهاتف والعلاقات محليا ...وبالأورو والدولار دوليا ... واصحاب هاته الأفعال يرقون من الدكتوراه إلى التأهيل إلى الأستاذية...ويتمتعون بإمتيازات تلك الترقيات من سكنات وظيفية إن وجدت ومناصب بيداغوجية وتربصات علمية عفوا عفوا سياحية ...

  • سمير سمير

    ارسلت احدى المرات قالب المجلة نفسه بعنوان خاطئ الى احدى المجلات المفترسة الهندية لاتفاجئ بقبول الورقة ههه وطالبوا مني دفع رسوم النشر 70 دولار ؟؟؟

  • حسين حشايشي

    هدا في فرسا
    فماذا عدنا ؟

  • جبريل اللمعي

    لقد أصاب كورونا الجامعاتِ الغربيّةَ القويَّة والضعيفةَ في مَقتَلٍ. إيراداتُها من الطّلَبَة الأجانب انقطعت. وكرَدِّ فعلٍ يائس، هي الآن تُسوِّقُ لبرامِجَ أكاديميّةٍ عن بُعد، فيها كما يقول "الرُّومِي": "n’importe quoi". وإذا صدَقَت فِراسَتي، فهذه بداية انحِدارِ ما تبَقَّى مِن تعليمٍ جامعيٍّ جادٍّ في العالَم، وهو ما يَخلُق فُرَصاً جيّدة لكل مَوهوبٍ قادِرٍ على التّعَلّم الذّاتيّ المستَمِرّ (self-learning, life-long learning) وعلى الابتكار. وشَرطُ التّعلّم الذّاتيّ هو إتقان اللّغة الإنكليزيّة.

  • جبريل اللمعي

    أعرف دُكتوراً نَشَر 48 بحثا مُحَكَّما (ISI) في سَنَة واحدة. كلُّ بحث فيه قائمةُ أسماءَ طويلةٌ مِن قَبيلِ: "وانغ، شانغ، دونغ، وونغ، ...". وهؤلاء "الوانغات" ينتَسِبون إلى جامعاتٍ بريطانية وأمريكيَّة. كيف؟ فَكِّرْ قليلا! وأَعرِف دكاتِرةً تخرَّجوا من بريطانيا لا يكادُ أحدُهم يُحسِن يَكتُبُ جُملة مُفيدة بالإنكليزيّة. لقد أحْسَن ترمب إذ أصْدَرَ مُؤخَّراً قانونا يَسمح للهيئات الحكومية في بلاده أن تُوظِّف على أساس المَهارة لا الشهادة. ستَتبَع أورُبّا يوماً ثُمّ العالَم الثّالِث والأخير. ولذلك لا أنْفَكُّ أَنصَح: يا بني وطني، عليكم بالمهارة والاختراع!