-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين العربية والإنجليزية.. الحقائق المغيَّبة

محمد بوالروايح
  • 6291
  • 0
بين العربية والإنجليزية.. الحقائق المغيَّبة

ليس من المبالغة القول إن اللغة العربية عروة من عرى الإسلام لأنها لغة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ووصفُها بالقصور طعنٌ في الدين لأن الله سبحانه وتعالى قرن بينها وبين القرآن فقال: “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” (يوسف 2).

وحده الضليع بقضايا اللسان ومسائل البيان من يفقه هذه الحقيقة القرآنية التي مفادها على نحو ما ذكر المحققون أنه ليس هناك لغة يمكنها أن تستوعب بلاغة القرآن ومقاصد الأحكام التي شرّعها الإسلام إلا اللغة العربية لأنها اللغة الوحيدة بين لغات العالم التي تجمع في كنانتها حشدا من المرادفات التي لا قبل للغة أخرى بها، وقد فصل صبحي الصالح رحمه الله هذه المسألة تفصيلا فيما كتبه عن فقه اللغة المقارن.

من الحقائق التي كشفت عنها التقارير الإخبارية أن تعلم اللغة العربية ينتشر في بريطانيا بوتيرة سريعة أكثر بكثير مما هو في الدول الأوروبية، وحسب تقرير نشره القسم الثقافي لقناة “الجزيرة” فإن المجلس البريطاني قد أعدَّ دراسة خلص فيها إلى أن العربية ستكون مستقبلا في بريطانيا اللغة الأجنبية الثانية بعد الإسبانية بالنسبة إلى أصحاب الوظائف والأعمال التجارية.

لقد سادت اللغة العربية على غيرها من اللغات ردحا طويلا من الزمن ويتجلى ذلك من العدد الهائل من الألفاظ العربية التي اقتبسها أهل اللغات الأخرى من اللغة العربية وخاصة في فترة اختلاطهم واحتكاكهم بالعرب. قبل بضعة قرون كانت اللغة العربية اللغة الأولى التي انفردت بالأولية مدة من الزمن لا يستهان بها ثم نازعها في الأولية لغاتٌ أخرى ثم تراجعت بعد أن تخلى عنها أهلها لصالح لغات كانت بالأمس نسيا منسيا.

اللغة العربية لغة حية أماتها أهلُها، حقيقة لا يماري فيها إلا جاهلٌ بتاريخ لغة الضاد، ولكن من جعل من العربية لغة ميتة ومن الإنجليزية لغة حية؟ سؤال لا يريد المفتونون بالإنجليزية الجواب عنه لأنه يهدم فكرة أسطورية نسجت خيوطها في زمن هيمنة الإمبراطورية البريطانية التي وُصفت بأنها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، والحقيقة أنها لم تكن كذلك إلا بعد أن أفلت شمس الحضارة العربية الإسلامية وتساقطت قلاعها واحدة تلو الأخرى. لقد ارتقت الإنجليزية إلى مصاف اللغات الحية بارتقاء أهلها، وتراجعت اللغة العربية بعد أن أضحى أهلها رقما مهملا في المعادلة الحضارية.

إن إطلالة سريعة على تاريخ اللغة العربية والإنجليزية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأنه لا مجال للمقارنة بين لغة صانعة للحضارة ولغة وارثة للحضارة، وبين لغة حافظت على وجودها وكيانها في بيئة غير بيئتها ولغة استنجدت بغيرها لتواري سوءاتها.

قرأت في موقع “الألوكة الأدبية واللغوية” الذي يشرف عليه الدكتور سعيد بن عبد الله الحميد مقالا لأنور محمود زناتي بعنوان: “أثر اللغة العربية في اللغة الإنجليزية”، وقد تضمن المقال حقيقتين اثنتين، أولاهما “أن اللغة العربية قد ظلت لخمسمائة عام أو ما يناهز ذلك لغة المعرفة والثقافة والتقدم الفكري. وتمت ترجمة معظم المؤلفات الإغريقية الكلاسيكية العلمية والفلسفية إلى العربية في القرن التاسع”، وثانيهما “أن تعلم اللغة العربية كان شائعاً على نطاق واسع في إنجلترا العصور الوسطى من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر، بل وحتى بعد ذلك. وقد قام أبيلارد من باث Abelard of Bath الذي كان آنذاك من أهم أهل العلم والمعرفة في أوروبا، بترجمة جداول الخوارزمي الفلكية من العربية إلى اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر”.

وأضيف إلى هاتين الحقيقتين اللتين ذكرهما أنور محمود زناتي حقيقة ثالثة وهي أن المملكة المتحدة حريصة منذ مدة على إعطاء دور ريادي للغة العربية عملا بتوصيات فقهاء اللغة بأن العربية ستشكل مع مرور الوقت رافدا لسانا وإثنيا في المملكة المتحدة لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال.
قد يتهمنا البعض بالماضوية وبالبكاء على الأطلال بقولهم ذاك زمن ولى ونحن في زمن مختلف فإن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي، وهم محقون في ذلك لأن قيمة اللغة من قيمة أهلها وقد هان العرب خاصة في عصر ما بعد الموحدين هوانا لافتا للنظر ويهن يسهل الهوان عليه فعثرة اللسان لا تنفك عن عثرة الإنسان طالما أن هذا الأخير هو مركز ثقل الحضارة فإذا اختل اختلت معه كل الموازين.

من الحقائق التي كشفت عنها التقارير الإخبارية أن تعلم اللغة العربية ينتشر في بريطانيا بوتيرة سريعة أكثر بكثير مما هو في الدول الأوروبية، وحسب تقرير نشره القسم الثقافي لقناة “الجزيرة” فإن المجلس البريطاني قد أعدَّ دراسة خلص فيها إلى أن العربية ستكون مستقبلا في بريطانيا اللغة الأجنبية الثانية بعد الإسبانية بالنسبة إلى أصحاب الوظائف والأعمال التجارية. واستندت الدراسة إلى جملة من المعطيات بينها العلاقات التجارية والسياسية بين بريطانيا والمنطقة العربية التي تضم ثلاثمائة مليون شخص.

وقد يكون من المفيد أن أذكر هنا خاصة بعد إقرار إدراج اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية في المدارس الجزائرية اعتبارا من الموسم المدرسي القادم أن المجلس التربوي الأعلى في بريطانيا قد أقر تدريس اللغة العربية في المراحل الابتدائية في المدارس البريطانية لاعتبارات كثيرة أهمها العدد الهائل المتزايد للبريطانيين من أصول عربية ونتائج الدراسات الاستشرافية التي تشير إلى أن العربية لغة لا مناص منها لأنها ستشكل مستقبلا جزءا لا يستهان به من المكون الثقافي الحضاري في بريطانيا.

إننا نثمن قرار إدراج اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي لأنه لا يمكن للجزائر أن تظل رهينة لغة فرنسية ليس لها مكانة في البحث العلمي كالإنجليزية؛ فحصيلة الأبحاث المنشورة باللغة الإنجليزية في فرنسا وسائر الدول الفرنكوفونية أكثر بكثير من الأبحاث المنشورة باللغة الفرنسية، فقد هزمت اللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية في عقر دارها فأنى لمتيم بها أن يقفز على هذه الحقيقة التي أصبحت أمرا واقعا ليس له دافع.

نثمن قرار إدراج اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي، ولكننا نشدد على أن يظل ولاؤنا للغة العربية أولا وأخيرا، ونشدد أيضا على أن الانفتاح على اللغة الانجليزية ينبغي أن لا يكون على حساب اللغة الأم ويجب أن لا يمس بطبيعة منظومتنا القيمية، فالانفتاح في ظل المساس بهذه المنظومة أو تحريفها أو تدجينها يعدّ بيقين شكلا من أشكال الاستلاب الحضاري الذي لا نرضاه لأنفسنا ولا نرضاه من باب أولى لناشئتنا.

نظَّم المجلس الثقافي البريطاني في لندن بالتعاون مع مؤسسة قطر وسلطة لندن الكبرى في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من شهر مارس من عام 2015 المؤتمر السنوي التاسع لتعزيز تعليم اللغة العربية والثقافة العربية في المملكة المتحدة، ومن المداخلات اللافتة للنظر في هذا المؤتمر مداخلة المتحدث باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “إدوين سموأل” التي أقتبسُ منها هذه العبارة: “كوني أجنبيا تعلمت العربية في مرحلة عمرية متقدمة من أجل أن أنقل الرؤية البريطانية حول الشؤون العالمية ضمن مهامي الحالية، أدرك تماما مدى أهمية التحدث باللغة العربية كوسيلة حيوية لتعزيز أواصر التواصل مع الجمهور العربي، ناهيك عن تميز المملكة المتحدة بتقليد سائد منذ زمن طويل باعتماد تدريس اللغة العربية في الجامعات البريطانية”.

من الحقائق التي لا مناص من ذكرها في سياق الحديث عن الإنجليزية أن الشارع الجزائري قد سبق المشرِّع إلى تبني اللغة الإنجليزية، ولكن الفرق أن الشارع اختارها للاعتبار التجاري، وأما المشرّع فقد اختارها للاعتبار المعرفي. إنني من الصنف متعدد اللغات الذي لا يضيق باللغة الإنجليزية ولا بغيرها من اللغات، ولكنني أجد في نفسي كغيري من الجزائريين غيرة على اللغة العربية. لقد افتتن كثير من تجار “الكابة” كما يسمّون في الجزائر بالماركات العالمية فكتبوها على واجهات المحلات فهاهنا محل “لاكوست” وإلى جانبه محل “ماركة” وبالقرب منه محل “قريفة” والقائمة طويلة، والخلاصة أن مشهد واجهات المحلات المكتوبة باللغة الإنجليزية في تغييب تام للغة العربية دليل على أن قومنا قد زهدوا في اللغة العربية وشروها بثمن بخس واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

لم أطلع بعد على محتوى كتاب اللغة الإنجليزية الذي سيُدرَّس لتلاميذ الطور الابتدائي، ولكنني أرجو أن يكون عامل بناء لشخصية التلميذ الجزائري ببُعديها العربي والإسلامي وليس عامل هدم للقيم بدعوى أن اللغة لا وطن لها، فكم أتمنى أن تأتي الشواهد في كتاب اللغة الإنجليزية مستوحاة بالدرجة الأولى من تاريخ نضال الجزائريين ومن وحي ثوراتهم على مدار التاريخ. إننا نرحِّب وبكل رحابة صدر بفكرة التعايش بين اللغات والثقافات ولكننا نعلن ولاءنا المطلق للغتنا وثقافتنا الوطنية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!