-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثورة فلاحية

ثورة فلاحية

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما باشر الرئيس الراحل هواري بومدين، ثورته الزراعية الشهيرة، كان يسير بخلفية معاناة الفلاح الجزائري مع “الخمّاسة” في زمن الاستعمار الفرنسي، فوضع الفلاحة على سكة اجتماعية بحتة، فكان يفكر في إنجاز ألف قرية اشتراكية لتستقبل عائلات الفلاحين وتمنحهم المستوصف وجهاز التلفزيون والثلاجة ومساحات لعب لأبنائهم ومقهى يجتمعون فيه، أكثر من تفكيره في تطوير الإنتاج والمردودية، وفي المقابل كان يبني المصانع لأبناء الفلاحين بطابعها الاجتماعي من أجل أن يعيش الجزائريون بعضا من الرفاهية بعد عشر سنوات فقط من الاستقلال، لينسوا معاناة عقود طويلة من الحرمان، فكان طبيعيا أن لا تحقق الثورة الزراعية ولا الصناعية التي أعلنها بومدين عن حسن نية، كل أهدافها، بدليل تراجع الفلاحة، وعدم انطلاق الصناعة بالشكل الذي خطّط له وتمناه كل الجزائريين، فوجدت الجزائرُ نفسها تستورد الإبرة والطائرة، كما تستورد البيض والسمك…

ويبدو أن الأمور اختلفت هذه المرة، والاهتمام بالجانب العلمي لعالم الفلاحة هو الذي سيُحدث الثورة الحقيقية، بعد أن تبلورت الدروسُ في الداخل، من خلال صور متباينة من شمال يغرق في الماء والإمكانات المادية ولا يمنح المنتوج، وجنوب يفتقر إلى الماء ولكنّه يوفر الغذاء، بعد أن تمكن الجانبُ العلمي من قلب الموازين. وكل البلدان التي نجحت فلاحيا في العالم وسيطرت على غذاء الشعوب، إنما كان تفوُّقها علميا بإقحام هذا العصب الحياتي، في الكليات الجامعية الكبرى، مع الطب والهندسة والتكنولوجيا والإعلام الآلي.

أسعدنا قيام جامعة ميلة بإدراج شعبة خاصة بزارعة الثوم ضمن الفروع العلمية، لا يدخلها إلا الحاصلون على شهادة البكالوريا للسنة الحالية، وفتح فرع ماستر خاص بالتفاح بجامعة حنشلة، وأسعدنا فتح فروع في مراكز التكوين المهني تهتم بالفلاحة بكل أنواعها، والتفات مجلس الوزراء بكثير من التركيز والجدية إلى عالم الفلاحة، وبمنح الضوء الأخضر لاستيراد الآلات الفلاحية بكل أنواعها، والاهتمام بالجانب التنظيمي للصيد البحري، هو دعمٌ حقيقي لهذه الثورة أو الثروة التي لم يعُد لنا من خيار سوى خوضها والانتصار فيها، لأن كل شروط النجاح متوفرة، وقادرة على أن تجعل الجزائر، كما استشرف لها خبراء أجانب، سلّة عالمية لمختلف المنتجات الفلاحية بما في ذلك الاستوائية، التي تُدخل أسواقنا بين الحين والآخر في أزمة بُنّ وسكّر وزيوت…

إدخال فروع فلاحية متعدِّدة من زيتون وثوم وتمر وتفاح في مقررات دراسية جامعية، سيُكسر بعض الصور البالية عن رؤية بعض الناس للفلاحة، وسيجعل بعض الطلبة من المتفوِّقين في دراستهم الثانوية ينضمون إلى صف الفلاحة العلمية، ويجعل عائلاتِهم تفتخر بهم، وتنتظرهم في الحقول لأجل تحويل هذه الأراضي المترامية الأطراف إلى جنَّات خضراء، مما تُنبت الأرضُ من بقلها وقِثّائها وفومها وعدسها وبصلها، ضمن ثروةٍ خالدة، لا تنتظر بورصات ولا أسعار عُملة ولا أسواق نفط، وإنما عقل يفكر بعلم، وساعد يخدم الأرض بحبّ.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!