-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دور القراءة في تحديد عمر الإنسان

دور القراءة في تحديد عمر الإنسان

تزخر الموسوعة النفسية والتربوية والتعليمية والبيولوجية والفيزيائية بشتى النظريات التي تتعرض لتحديد عمر الإنسان وسنه العمري الزمني والنفسي والتعليمي، وتختلف تلك المقاربات والنظريات فيما بينها وتتنوع باعتبار زاوية الأخذ والنظر والمعالجة والتقييم والفاعلية.. ولكنها كلها تتفق أن تحديد العمر الزمني للفرد هو القاسم المشترك الأعظم بينها على اعتبار ما عاشه أو سيعيشه الفرد من أيام وشهور وسنين محددة تنتهي بالموت.. وهذا هو التقييم الطبيعي والبيولوجي للمسألة من جانبها الزمني، فيقال فلانٌ عاش مائة سنة وفلانة عاشت تسعين سنة وهكذا.. فالمسألة مرتبطة بعامل السن فقط، الذي لا يمكن أن يتخطاه الإنسان أبدا حسب تقدير المولى تبارك وتعالى ليعيش تلك السنين المحدودة.

وعلى ضوء السنين التي يعيشها الإنسان وظروفها ونوعيتها وثرائها وغناها تتحدد نوعية الخبرات والمعارف والتراكمات التي يتلقاها ويكتنزها في تجربته الشخصية، فقد يُحصّل على معارف عامة أو مهنية أو علمية أو عملية تبعا لما تلقاه من تكوين وإعداد وتهيئة، فتكثر أو تقل الخبرة بحسب نوعية وطبيعة ذلك التكوين، وقد يكتفي الفرد بما يمنحه مجتمعُه له من الخبرات والتراكمات والمعارف، وقد لا يكتف بذلك القدر الممنوح له في ومن خلال تجارب وخبرات الحياة، فيوسع خبراته عن طريق مصادر وسبل المعرفة الأخرى، والتي منها القراءة والمطالعة والاطلاع، أو بطريقة السماع أو بواسطة المشاهدة وطرق التعلم الأخرى.. وبالتالي يزيد من فرص تنوع وثراء خبراته، فيزداد بذلك عمره المعرفي أكثر بكثير من عمره الزمني.. إذْ يشارك الآخرين في أزمانهم وأحداثهم ونشاطاتهم وأعمارهم على سبيل المشاركة المعنوية والوجدانية..

غير أنّ المسألة التي نحن بصدد عرضها لا علاقة لها بتحديد السن من الناحية البيولوجية أو الفيزيقية الزمنية، أو الدخول في متاهات البحث العلمي الغربي المادي الإلحادي الذي يذهب إلى التخمين في زيادة عمر الإنسان الزمني. بل لها ارتباط وثيق بفتح سنين الحياة إلى نقطة وسنوات غير محدودة، فتتحول سنون الإنسان المحددة والمعدودة من لدن المولى تبارك وتعالى والتي قدرها له أن يعيشها في الحياة الدنيا نحو نقطة اللامحدود، أي تمكّنه أن يضمن من خلالها أعمار وسنين الآخرين التي عاشوها، وذلك ليس بالتعبير والمعنى الزمني المادي الحقيقي، بل بالمعنى الأدبي والمعنوي والمجازي للعمر، فيعيش ويشارك الآخرين في أعمارهم وتجاربهم من خلال القراءة والمطالعة لما تركوه من مؤلفات وكتب ومنشورات ومخطوطات..

وعبر قراءته لتلك المؤلفات والكتب ومطالعاته الدقيقة والعميقة لها، يستطيع أن يضم أعمار الآخرين إلى عمره بشكل تلقائي واعتيادي، كما يستطيع أن يشاركهم أفكارهم ومعارفهم وأحاسيسهم ومشاعرهم، ويطلع على قيمهم ومُثلهم ومبادئهم وتصوّراتهم وعقائدهم ونظرتهم للكون وللطبيعة وللحياة وللنظام وللإنسان وللوجود وللمجتمع.. وأن يتميز أيضا عن جيله ومجتمعه بالنظر لمجموع الخبرة والتجربة التي راكمها بفعل قراءاته المتعددة.

وهكذا تصبح القراءة رافدا عُمْريا إضافيا وحقيقيا للإنسان الراغب في إطالة عمره المحدود، وهي ليست فقط رافدا خبراتيا وتراكميا فحسب، بمقدار ما هي سياحات ورحلات هادئة ومنظمة باتجاه مختلف الأمكنة والأزمنة والبيئات والمجتمعات.. ولكن كيف يكون هذا كله؟

يكون كل ذلك سهلا وميسَّرا للإنسان باكتسابه عادة المطالعة الدائمة، وتعميق خُلق القراءة في أعماق النفس البشرية، وتحوّله إلى سلوك دائم وغالب ينحو فيه منحى التعبّد والتديّن الوظيفي والنفعي الخيري في ممارسة هذه العادة والعبادة معا.. وذلك عبر صحبة الكتاب إلى درجة الاحترام والتبجيل والتقدير والتفضيل.. واستئناس مواطن وبيئات ومقرات الكتاب كالمكتبات العمومية أو الخاصة.. واسترفاق الكتاب كصديق وولي حميم ووحيد في الحياة.. بل ترى الإنسان الواله بالقراءة والمطالعة يجعل الكتاب ويرتبه في أول قائمة الأصدقاء الحياتيين الذين نوّه بهم المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (أمه، أبيه، صاحبته، بنيه، أهله، إخوانه، أصدقائه، عشيرته، قبيلته، قومه..).. وبهذه الطريقة والمنهج يتمكن هذا النوع من بني الإنسان أن يزيد من عمره لآلاف السنين، ولكن كيف يكون ذلك أيضا؟

يكون ذلك أيضا عبر طرائق منهجية شتى، ومذاهب بحثية واستطلاعية قددا، وذلك تبعا لأدبيات ونوعية وتوجّه وسمت الكتاب المقروء، فإن كان الكتاب قد استُلّ من رف المكتبة التاريخية فلقارئه الفوز بالامتدادات المختلفة عبر الأزمنة والأمكنة والكيانات والأحداث والوقائع المتنوعة والمتباينة التي تعود لمئات بل لآلاف السنين.. وإن كان الكتاب سُحب من رف المكتبة الدينية ويتناول قصص الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ودعواتهم، فقد زاد ذلك القارئ من عمره خبرة ومعرفة وتكوينا واطّلاعا في التعرّف على منهج الأنبياء والمرسلين وعلاقتهم بأقوامهم وسلوكاتهم وأساليبهم ووسائلهم وأدواتهم في تبليغ داعي الله.. وبذلك تنمو معارفُه ومداركه في التعرّف على عبادة وعادات وأخلاق وطقوس وممارسات تلك الشعوب والأقوام، كما هو الحال في القصص القرآني الكريم المأثور من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهَّرة.

وهكذا سائر رفوف المكتبة من علوم الحديث والقرآن والتفسير والتوحيد والعقائد والأديان والملل والنحل والفلسفة والمنطق والأدب واللغة والشعر والنثر والنقد وسائر الفنون والآداب.. وذلك لمن وفقه المولى تبارك وتعالى.. ولكن كيف يصل إلى مرتبة مخاطبة الرفوف، ومصادقة المكتبات، واصطحاب الكتاب.. والاعتياد عليه في سائر تاراته وأحواله؟

يكون ذلك كله، بالجلوس والتعلم والتأدب والطاعة والإصغاء لمن هو أهلٌ لذلك.. وقد تعددت المقاربات والنظريات في طريقة تعويد الأجيال على القراءة والمطالعة، فمنهم من ذهب إلى أهمية دور الأسرة والمنزل والأبوين والإخوة الكبار أو أي من أعضاء الأسرة المتميزين والمدركين لأهمية القراءة والكتاب. ومنهم من ذهب إلى إيلاء دور المعلم والمدرسة الأهمية الأولى والكبرى في تعويد الأطفال عادة المطالعة. ومنهم من ذهب إلى دور بعض المعلمين المتميزين في مراحل التعليم الثلاثة الأول (ابتدائي، إعدادي، ثانوي). ومنهم من ذهب إلى أهمية دور الشيخ والعالم في المسجد، فهو مناط التعليم والمهابة والغرس الحقيقي للعلم ولوسيلته الوحيدة مع السماع من أفواه العلماء. ومنهم من أرجعها إلى الجامعة ودور الأساتذة الجامعيين المتميزين والمؤلفين ممن يحملون الطلاب طواعية أو كرها لتحصيل الحد الأدنى من نقطة النجاح في الامتحان عبر دفع الطلبة لممارسة عادة القراءة والمطالعة القسرية. ومنهم من ذهب إلى أهمية دور المجتمع المثقف والمتعلم في ترسيخ هذه القيمة في أفراده. ومنهم من ذهب إلى أهمية سياسة الدولة وما توليه من أهمية وقيمة للعلم والمتعلمين والمعلمين والخريجين.. ومنهم من يرى دور النخبة المثقفة في المجتمع ويولي أهمية كبيرة لدورها القيادي النخبوي في ترسيخ هذه العادة الحضارية.. فالنخبة القيادية السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والأدبية لها دورها في ترسيخ عادة المطالعة بين صفوف وشرائح الأجيال الناشئة والراسخة في عالم المطالعة أيضا.

وأذكر أنني زرت جامعة حديثة العهد في إحدى البلاد الإسلامية، واستقبلني عميدُها بكثير من الاحترام التقدير، لأنني حملت بيدي نسخة من كتبي الثلاثين هدية لكلّيته الناشئة، ولما سألته عن عمرها، قال لي: عمرها ثمانمائة سنة. فقلت له: ولكنها أنشئت منذ عشر سنين؟ فقال لي: ذاك زمانها المادي العمودي. وأما زمانها المعنوي الأفقي فهو ثمانمائة سنة. فقلت له: كيف؟ فقال لي: نحن نعتبر عمر كل أستاذ بمقدار ما ألّف من الكتب، وكل كتاب بسنة، فمن ألّف ثلاثين كتابا مثلك فعمرُه ثلاثين سنة.. وهكذا، وثمة من يُدرِّس عندنا ومجموع كتبه ستون كتابا أو سبعون.. ومجموع مؤلفات أساتذتها تقارب الثمانمائة سنة، فعدت إلى بلدي وكتبت مقالا نشرته تحت عنوانه: (الزمن الأفقي والتصنيف العالمي للجامعات).. وساعتها نميز بين الزمن العمودي والزمن الأفقي حق تمييزه.. وحينها:

أقول لك: ماذا قرأت؟ فتقول لي: ما عمرك؟..فأقول لك: قرأت عشرين ألف كتاب.. فأقول لك: أنت عشت أربعين ألف سنة من الزمن الأفقي بكل ما حوته قراءاتك من معارف.. فهل وعينا فريضة القراءة؟ هذه القراءة الواجبة التي ضيعها المسلمون اليوم؟ أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • المتنبي

    جربوا عادة القراءة العلمية أو الأدبية أو الثقافية او قراءة الإسترخاء او نحوها.. وستجدون انفسكم كيف تغير فيها كل شيء..