-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ذكرى استقلال الجزائر.. انتصار ثورة وشبه إجهاض للاستقلال

عثمان سعدي
  • 8290
  • 0
ذكرى استقلال الجزائر.. انتصار ثورة وشبه إجهاض للاستقلال

في خمسة تموز ــ يوليو 2017 تحل الذكرى السنوية الخامسة والخمسون لاستقلال الجزائر التي سبقت بسبع سنوات ونصف من ثورة دفع فيها شعب الجزائر 15 % من تعداده شهداء، سبقت باحتلال استعماري استيطاني دام قرنا وثلث قرنا مرت كلها حركات مقاومة قتل فيها المستعمر نصف الشعب الجزائري. وسطا خلالها على أجود الأراضي وملّكها لمليون من مستوطنين فرنسيين. الثورة الجزائية سارت تحت راية الإسلام والعروبة:

 قامت الثورة الجزائرية بين 1954 و1962 تحت شعار الإسلام والعروبة، حيث لخصها أبوها الروحي عبد الحميد بن باديس (1889 ـــ 1940 ) في الأبيات التالية:

 شعب الجزائر مسلــــــــــــم وإلى العروبة ينتسبْ

من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذبْ

 هذا لكم عهدي بـــــــــــــــــــــه حتى أُوسّد بالتــــــــــــــــــربْ

 فإذا هلكت فصيحتـــــــــــي تحيا الجزائر والعــــــــربْ

 تدور في هذه الأيام أقوال عن الإسلام والتيار الإسلامي والانحراف باسم الإسلام، وأوضح أن الشعب الجزائري حافظ على الجزائر من استعمار استيطاني رهيب بالإسلام دينا والعربية لغة القرآن الكريم وعنوان للهوية الوطنية. أقول هذا وأنا لست إسلاميا إيديولوجيا مع ممارستي للإسلام بل أنا قومي عربي أومن بالوحدة العربية للوطن العربي، فمحمد صلوات الله عليه وسلامه وحد الخارطة الجغرافية العربية أولا ومنها انطلقت دعوته بحيث إنه في خلال عقود وصلت جنوب باريس غربا وسور الصين شرقا.

 يقول بوجولا: POUJOULA الصديق الحميم للماريشال بوجو قائد جيش الاحتلال الفرنسي للجزائر، في تصريح له أمامه، وهو يزور الجزائر سنة 1844 م: ”تحية يا كنيسة إفريقيا الحديثة، ابنة سيبريان وأوغسطين، لقد استُخرجتِ من القبور بواسطة عبقرية وإيمان بلدي، إنني أعتز شامخ الأنف لأنني أراك بُعثت من جديد تحت علم بلدي.. إن حربنا بإفريقيا، امتداد للصليبية”. ويذكر المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان أن البابا أرسل رسالة تأييد لاحتلال الجزائر قال فيها: ”ضرورة افتكاك الأرض التي شرفها القديس أوغستين من البرابرة”.

 وأقول لهذه الأصوات التي تصف حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني بالإرهاب لأنهما يرتكزان على الإسلام المقاوم للاحتلال، إن الثوار الجزائريين الذين يمثلهم الفلاح الجزائري كانوا في معظمهم أميين أو من حفظة القرآن، انخرطوا في صفوف الثورة طالبين تحرير الجزائر متمنين الشهادة والجنة. وكدليل على ما أقول فإن والدتي الفلاحة أنجبت ستة: ولدين وأربع بنات، أحد الولدين سليمان شقيقي مات شهيدا وهو جندي في جيش التحرير الجزائري سنة 1959، وبنتين أرملتي شهيدين إحداهما اسمها (شهباء) ترك لها الشهيد سبعة، والثانية (ونّاسة) ترك لها خمسة، واكتسبت شرف رعاية قائمة طويلة من أرامل وأيتام الشهداء بعد الاستقلال؛ في جولة تفتيشية استعمارية في قريتنا قصد ضابط فرنسي سنة 1958 الوالدة وسألها: أين يوجد ولداك عثمان وسليمان، فأجابت لا أعرف أين هما، فضربها بعقب بندقيته بحيث كون لها فتقا في بطنها، استقلت الجزائر ونقلتها إلى العاصمة بحيث تجرى لها العملية سنة 1963 أدخلت المستشفى، ونامت ليلة به، وأعدّت للعملية. في الصباح، حضر الجراح السوري ووضع الكمامة على أنفه، وتوجه بها إلى قاعة العمليات، لكن الوالدة طلبت منه أن يجيبها عن السؤال التالي: (هل أموت لو لم تجرَ لي العملية؟) أجابها: لا، لكن تعيشين متعبة بالفتق، فأجابته قائلة: (خلّيهولي يا ولدي هذا اللي باش نقابل بيه غدوة وجه ربي)، وترجمت قولها للجراح بما يلي: (دعه لي يا بني.. هذا هو الذي سأقابل به غدا وجه الله)، دمعت عينا الجراح وهو يقول لها: (موتي بجواز سفرك إلى الجنة تقطع اليد التي تجري لك العملية). وبعد عشر سنوات ماتت بجواز سفرها إلى الجنة…

 واندلعت الثورة وكان الذي فجرها شباب حزب الشعب، لكن جيش التحرير الوطني تكون في السنوات الثلاث الأولى للثورة من عنصرين: جنود، فلاحين، أميين، وإطارات لهم من طلاب العربية ومن حفظة القرآن، وتلاميذ الزوايا، وخريجي الزيتونة، ومدرسة الكتانية، وعلى رأسهم تلاميذ مدارس جمعية العلماء ومعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. فمن يحفظ حزب (عمّ) يجند الجماهير أفضل من حامل شهادة الدكتوراه من جامعة السربون أو من جامعة الجزائر.

 بداية الانحراف الهُوِيّي

 وبعد ثمانية عشر شهرا من اندلاع الثورة (مايو ــ أيار 1956) أعلن طلبة المدارس الفرنسية إضرابهم عن التعليم. وكونوا إدارة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية باللغة الفرنسية في القاهرة، كنواة لإدارة الجزائر المستقلة، وتوّجوا ذلك بتوقيع اتفاقية إيفيان لاستقلال الجزائر بنص واحد مثل الوفدين وهو النص الفرنسي، بينما أبرمت اتفاقية جنيف التي أنهت الاستعمار الفرنسي بفييتنام سنة 1954 بنصين النص الفرنسي ومثل الوفد الفرنسي، والنص الفييتنامي ومثل الوفد الفييتنامي. ودخلوا الجزائر وجلس على الإدارة العامة للوظيف العمومي قطب من أقطاب حزب الشعب الجزائري هو عبد الرحمن كيوان، ولمدة أربع عشرة سنة فرنس فيها إدارة الدولة الجزائرية وهمش اللغة العربية، وخان بذلك حزب الشعب نفسه. محمد الصديق بن يحيى العضو المفاوض في اتفاقيات إيفيان، وقع سنة 1981 بصفته وزير خارجية الجزائر (اتفاقية الجزائر) المشهورة التي حُرر بموجبها الديبلوماسيون الأمريكان المعتقلون بسفارة أمريكا بطهران، صيغت هذه الاتفاقية الدولية الهامة والغريبة بثلاث لغات: الإنجليزية ومثلت الوفد الأمريكي، والفارسية ومثلت الوفد الإيراني، والفرنسية ومثلت الوفد الجزائري الوسيط… وأحتفظ بمقال كتبه الصحفي الفرنسي بروشنيني، مراسل صحيفة لوفيغارو الفرنسية بنيويورك، يعبر فيه عن سعادته لأن هذه الاتفاقية التي صارت تدرس في كليات حقوق العالم حررت باللغة الفرنسية وتسببت في تأخير توقيعها 24 ساعة. وقد أثرتُ هذه المسألة في اجتماع اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، ولمت بن يحيى على جعل الفرنسية تمثل الجزائر المستقلة، فما كان منه إلا أن ضرب جبهته بيده وقال: “نعم، لم أنتبه إلى هذا الخطإ”. وعند انتهاء الاجتماع حاورته وقلت له: “لا يشك أي واحد في وطنيتكم لكن أنتم واقعون تحت مخدر اللغة الفرنسية”، فوافقني.. علما بأن اتفاقية باريس التي وقعت سنة 1975 وأنهت الحرب الأمريكية على فييتنام، وقعت بثلاثة نصوص: النص الفييتنامي ومثل وفد الفييتنام، والنص الإنجليزي ومثل الوفد الأمريكي، والنص الفرنسي ومثل الوفد الفرنسي الوسيط مثل باريس التي أبرم بها الاتفاق.

 الخلاصة:

 أولا: عرضنا كيف كانت الثورة في سنواتها الأولى تتكون من الفلاحين الأميين مؤطرين بطلاب اللغة العربية، كانت تسيّر باللغة العربية، ويتغنى بها شعراء الملحون الفلاحون بالعربية الدارجة بعشرات الآلاف من الأبيات. ويشهد الطيار الفرنسي كلوسترمان أنه في السنتين اللتين عمل فيهما بولاية أوراس اللمامشة، قتل من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية خمسة عشر ألف (15000) شاب، بالإضافة إلى قتلى المتطوعين من اللفيف الأجنبي وغيره.

 ثانيا: بعد السنوات الثلاث الأولى حدث الانحراف الهُويي: التحق المفرنسون بالحكومة المؤقتة بالقاهرة وكونوا إدارتها باللغة الفرنسية، وخرج قادة سيطروا على القيادة، وهرب ضباط من الجيش الفرنسي، وصارت الثورة فرنكفونية بعد أن كانت مسلمة عربية.

 ثالثا: أوقف القتال وتكونت الدولة الجزائرية الفرنكفونية بتهميش لغة البلاد والعباد، وتحول الاستقلال خاليا من المضمون، وباقتصاد تابع للاقتصاد الفرنسي، لأنه لم يحدثنا التاريخ أبدا بأن تنمية اقتصادية واجتماعية ناجحة تحققت بلغة أجنبية. وأكرر ما سبق أن كتبته، بأن القرن العشرين عرف أعظم ثورتين هما ثورة الجزائر وثورة الفييتنام. وأي ثورة لا تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض وتحرير الذات. الثورة الفييتنامية حققتهما معا بتطبيق فتنمة فورية شاملة، وبالتخلص من اللغة الفرنسية تخلصا من سائر الرواسب التي تركتها في الذات الفييتنامية؛ أما الثورة الجزارية فقد أجهضها المفرنسون، فحققت تحرير الأرض فقط، تاركة الذات مستعمرة فرنسية، وما زالت حتى الآن كذلك، وكوّن المفرنسون المُجهضون لها الدولة الجزائرية الفرنكفونية التي أفلست اقتصاد الجزائر، فمداخيل المحروقات تمثل 97 % من مداخيل الجزائر. في سنة 2011 قمت بإحصائية فوجدت أن الفيينتام بالفتنمة صدّر خارج المحروقات ما قيمته أربعة وثلاثون (34) مليار دولار مواد صناعية وزراعية، بينما صدرت الجزائر بالفرْنسة خارج المحروقات، في السنة المذكورة، ما قيمته مليارا دولار فقط، ثلثها خردة مادتها الأولية مستوردة بالعملة الصعبة.

 رابعا: وكدليل على إفلاس الدولة الفرنكفونية، وبعد 55 سنة من الاستقلال، الماء الذي يشربه سكان العاصمة تسيّرة شركة فرنسية، ومطار الجزائر الدولي الجديد تسيره شركة رواسي الفرنسية، فحري به أن يحمل اسم مطار شارل دوغول بدل مطار الهواري بومدين. وفي السنوات الست عشرة الأخيرة دخل خزينة الجزائر من المحروقات تسعمائة (900) مليار دولار دون أن تخرج البلاد من ريع المحروقات.

 خامسا: في 2005 أصدر البرلمان الفرنسي قانونا يمجد فيه الاستعمار الفرنسي بالجزائر، وحاول بعض النواب الجزائريون إصدار قانون مضاد يجرم فيه الاستعمار الفرنسي لكن اللوبي الفرنسي المتحكم بالدولة منع صدوره. واستمرار هيمنة اللغة الفرنسية على الدولة الجزائرية هو تأكيد لتمجيد الاستعمار الوارد بالقانون المذكور.

 سادسا: في 1991 صدر بالجزائر قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وقعه الرئيس الشاذلي بن جديد، أنهيت مهام هذا الرئيس، وجاء بعده محمد بوضياف الذي لا يؤمن بالعربية فجمد القانون. وفي 21/12/1996 أصدر الرئيس اليمين زروال مرسوما يلغي فيه التجميد، فأنهيت مهامه. وفي سنة 1999 جاء بوتفليقة فترك القانون مجمدا دون مرسوم. علما أن الفرنسيين الذين يرفضون قانون الجزائر بواسطة اللوبي الفرنكفوني بالجزائر، لهم قانون حماية اللغة الفرنسية الصادر سنة 1994 بمناسبة مرور قرنين على قانون تعميم استعمال اللغة الفرنسية الصادر من الثورة الفرنسية سنة 1794 الذي تنص مادته الثالثة على ما يلي: “كل موظف أو ضابط عام، أو عامل بالحكومة ابتداء من تاريخ اليوم 20/7/1794 يوقع وثيقة بغير اللغة الفرنسية أثناء ممارسته لعمله، يمثل أمام قضاء دائرته حيث يحكم عليه بستة أشهر سجنا ويطرد من الوظيفة”.

 سابعا: في 5 يوليوـــ تموز 2017 دارت مباراة كأس الجمهورية النهائية بلاعبين كتبت أسماؤهم على ظهورهم باللغة الفرنسية، في مباراة وطنية وليست دولية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!