-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رسالة إلى محمد بجاوي

رسالة إلى محمد بجاوي

أكتب إليكَ هذه الرسالة على كثرة ما بيني وبينك من فوارق، فمن حيث السّن فأنت بحسب حكمة زهير بن أبي سلمى يُفترض أنك “سئمت تكاليف الحياة”(❊)، ومن بلغ تلك السّن وأوتي حكمة عليه أن يستعد -وقد ابتعد من مهده واقترب من لحده- ليوم لا ريب فيه، أهوالُه تجعل الولدان شيبا، وتُذهل كل مرضعة عما أرضعت…

  • ومن حيث العلم فأنت تحمل أعلى الشهادات من أرقى الجامعات، ومن حيث الخبرة العميقة والتجارب الواسعة، فقد خطّت الأقدار في صحيفتك أن تلتقي كثيرا من الشخصيات الوطنية والأجنبية، وأن تتقلد عدة مسؤوليات كبيرة، وأن تشغل عدة وظائف سامية (وزير عدل، سفير، عضو محكمة العدل الدولية ثم رئيسها رئيس المجلس الدستوري، وزير الخارجية..)، ومن حيث رُفَهْنِيَّةُ العيش، حيث يمكن -استنادا إلى ما تقلّدت من وظائف منذ 1962 – إدراجك في قائمة القارُونِيّين(❊❊)؛ وأما العبد لله -كاتب هذه الرقوم- فأنا أصغر منك سنا، وأقل علما وخبرة، ومن حيث نصيبي من الدنيا فأنا من المُوسَوِيِّين(❊❊❊)، وعلى العموم فكل الناس فقراء إلى الله، والله هو الغني.
  • أكتب إليكم رغم عدم معرفتي لك إلا من خلال كتابيكالثورة الجزائرية والقانونومن أجل نظام اقتصادي دولي جديد، ومن خلال ما سمعته من أناس يعرفونك..
  • ولا أكتب إليك طلبا لشيء، ولا تشكيا من شيء؛ وإنما أكتب إليك عاتبا عليك ولائما لك، حيث قرأت أن اتفاقا تمّ بينك وبين ملك كمبوديا يسمح لك بالترشح (باسم كمبوديا) إلى منصب مدير عام منظمة اليونسكو بعدما أخلف زملاؤك الذين وعدوك بترشيحك إلى ذلك المنصب، وأيّدوا مرشحا آخر، هو وزير الثقافة المصري، فاروق حُسني (1).
  • لقد ورد في الجريدة المذكورة أن سبب ترشحك باسم دولة كمبوديا هو إما شعورك بتنكر المسؤولين الجزائريين لك، أو تعبير منك عن عدم الرّضا عن السياسة المنتهجة على الصعيد الداخلي..
  • فأما إن كان السبب هو تنكر المسؤولين لك، وعدم تقديرهم لخدماتك فهل أنت الوحيد الذي تنكر له المسؤولون؟ وهل كل من تنكر له مسؤول يحق له أن يتنكر هو لوطنه، ويتخلى عن جنسيته؟
  • إذا كنت أنت الذي أكلت من فوق يديك ومن تحت رجليك من خيرات الجزائر، ولم تشاكّ من أجلها وفي سبيلها ولو بشوكة، وجلت العالم بفضها، واعتيلت المنابر الدولية باسمها؛ ومع ذلك لم تستطع صبرا على “تنكر” واحد، فاستبدلت بجنسيتها الغالية جنسية أخرى؛ فكيف نلوم الذي لم يذق مما أنبتت إلا الحنظل؟ وكيفنجرّمالشبان الذين لم يجدوا فيها مسكنا، ولا عملا، إذا ألقوا بأنفسهم في البحر هربا من جحيم البطالة والحڤرة؟
  • ما أظن أنك تجهل ذلك البيت الشعري الذي يقول فيه صاحبه:
  • بلادي وإن جارت عليّ عزيزة  
  • وأهلي وإن ضنّوا(2) عليّ كرام
  • والذي أعلمه هو أن بلادك لم تجر عليك، وأن أهلك لم يبخلوا عنك، ومع ذلك جزِعت لما اعتبرتَه تنكرا لك، فكيف كنت تفعل لوجارتعليك بلادك، وضنّ عليك أهلك كما حدث لكثير من كبرائنا؟
  • لقد قُدِّر لي أن سافرتُ مرة إلى بيروت، وكان في الرحلة نفسها المناضل الكبير عبد الحميد مهري، فدهشت عندما رأيته يحمل جواز سفر عادي، ويتخذ مكانه في الطابور لإجراءات الشرطة والجمارك، دون أن يجد في نفسه حرجا من تنكر المسؤولين، وكان في قاعة المطار العادية الأخوان أحمد طالب الإبراهيمي، ومولود حمروش، فلم يشعرا بضيق في صدريهما، ولم تأخذهما عزة الجهاد والمسؤولية بالإثم؛ بل لاحظت على وجهيهما سرورا وسعادة وهما بين بسطاء يردان على تحياتهم؛ ويتناولان القهوة وقوفا.. كما قُدّر لي رفقة ثلّة من الأساتذة أن نسافر مع الأخ أحمد بن بيتور إلى مدينة المغيّر، حيث أقاممع أولئك الأساتذةفي بيت بسيط لأحد المواطنين، ولم ينتظر أن تفرش له النمارق، ولا أن تؤدى له التحية، ولا أن تخصص له حراسة..
  • وأما إن كان سبب مغاضبتك هو -كما قيل في الجريدة نفسها- عدم الرضا عن السياسة المنتهجة على الصعيد الداخلي، فليس بتلك الطريقة يعبر عن التعبير عن رفض سياسةٍ ما، فمعارضة سياسةٍ ما تكون بالكتابة، أو الخطابة، أو إنشاء حزب، أو الانخراط في حزب معارض..
  • وشتان بين موقفك (أخذ جنسية دولة أخرى) وبين موقف العالم الجزائري الجليل أبي إسحاق اطفيش، الذي نفته فرنسا -في سنة 1925- إلى تونس ثم إلى مصر، وهناك بهر المصريين بعلمه، فعرضوا عليه الجنسية المصرية، وهي جنسية دولة عربية مسلمة، فرفضها -رغم عسرته- وقال مستنكرا لمن عرض عليه ذلك: “وماذا أفعل في جزائريتي؟“(3).
  • لقد عجبت عجبا عَجِب منه العَجَب لما قرأت أنك استعفيت -بإلحاح- من وزارة الخارجية لتقدّمك في السن، ولعدم قدرتك على تحمل مشاق المسؤولية؛ فإذا بك تتطلع إلى تبوّإ عرش منظمة عالمية في حجم اليونيسكو!!!
  • كنت أود -يا أخي محمد بجاوي- أن تقضي ما بقي في حياتك -التي ندعو لها بالطول- في نقل تجربتك الغنية وخبرتك الواسعة إلى الشبان الذين سيتحمّلون المسؤوليات المختلفة في داخل الوطن وخارجه، وذلك عن طريق المحاضرات، والتربصات، وكتابة المقالات ونشر المذكرات.. ولكنك رأيت غير الذي أرى، ولعلّ لك عذرا وأنا لا ألومك. أما أنا فعلى مذهب الإمام محمد البشير الإبراهيمي الذي “يعتقد أن في كل جزيرةٍ قطعةً من الحسن، وفيكِ (الجزائر) الحسنُ جميعه، لذلك كنّ مفردات وكنتِ جمعا، فإذا قالوا: “الجزائر الخالدات” رجعنا فيكِ إلى توحيد الصفة وقلنا: “الجزائر الخالدة”، وليس بمستنكر أن تجمع الجزائر كلها في واحدة… ويمينا لو تَبَرَّجَتْ لي المواطِنُ في حُلَلِها، وتظامنت لي الجبال بقُلها لتفتنني عنكِ، لما رأيت لك عديلا، ولا اتخذتُ بك بديلا(4)”.
  •  
  • ————
  •  
  • الهوامش:
  •  
  • ❊ – حسب كتاب عاشور شرفي: Memoire algérienne ص 105، فإن محمد بجاوي ولد في 21 / 9 / 1929 في سيدي بلعباس.
  • ❊❊ – نسبة إلى قارون الذي جاء في القرآن الكريم أن مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة أولي القوة.
  • ❊❊❊ – نسبة إلى سدينا موسىعليه السلامالذي جاء على لسانه في القرآن الكريم مخاطبا ربه: “ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير“.
  • 1انظر جريدة الخبر بتاريخ 16 / 2 / 2009 ص3
  • 2ضنّوا: بخِلوا
  • 3انظر كتاب: “الشيخ ابراهيم اطفيش..”، للدكتور محمد ناصر
  • 4آثار الإمام الإبراهيمي: ص4. ص183 و184.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!