-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سِرُّ تسخير الكون للإنسان

ناصر حمدادوش
  • 2567
  • 0
سِرُّ تسخير الكون للإنسان

تكلَّمنا عن “مركزية الوجود القيمي للإنسان” وعن “التأهيل الإلهي للإنسان” من أجل التقعيد لفقه الأدوار الحضارية له في هذا الوجود، ونتحدَّث في هذا المقال عن “مبدأ التسخير الكوني للإنسان”، وهو من الموضوعات الملهِمة دينيًّا وحضاريًّا، وهو مدخلٌ معرفي مهمٌّ لسؤال الاستئناف الحضاري من جديد، وهو الموضوع الذي يجب استدعاؤه على مستوى النُّخبة المثقفة للجمع العقلاني بين العلم والدِّين.

هناك إدراكٌ واعٍ لحقيقة صناعة أنموذج الاستخلاف الكوني للإنسان في الأرض عبر الانسجام مع مبدأ التسخير، وهو الفقه الحضاري الذي استوعبه الرَّعيلُ الأول منذ بدايات نزول الوحي، والذي تذوَّق هذا النوع من الفقه، وقد ضبط التوازن في مسار النهضة بين قيم العلم وقيم العمل، وبين احتياجات الجسد وأشواق الرُّوح، وبين سياسة الدنيا وإقامة الدِّين، وهو الذي لم يتخذ القرآن عِضِين، ولم يقع في عِلل التديُّن كالأمم السَّابقة التي كانت تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، فلم يفرِّق بين “آيات الأحكام” من أجل الفقه التشريعي و”آيات الكون” من أجل الفقه الحضاري، وهي السُّنن الإلهية الثابتة والمطَّردة التي أثمرت منهجًا واقعيًّا معتدلاً وشاملاً للتعامل مع الكون والإنسان والحياة، وأنتجت مُنجَزًا حضاريًّا إنسانيًّا راقيًّا، جمع بين الوحي والعقل، وألقى بظلاله على الإنسانية لتمتد آثارُه إلى الحضارة الغربية المادية المعاصرة، وذلك عبر الاحتكاك المباشر بين الإسلام والغرب، ابتداءً من تألُّق الحضارة الإسلامية وإشعاعاتها بالأندلس، إلى حركة الاستعمار والاستشراق بعد ذلك.

ومن النُّضج الحضاري أن نؤكد أنَّ هناك فِقهًا قرآنيا متحرِّكًا، وهو الذي لا تنتهي عجائبُه، عبر الإدمان على “عبادة التفكير” بإعمال العقل في النص بالتدبُّر والتفكُّر، ومن تلك الأسرار اللطيفة في القرآن هو إدراك تلك الإشارة الإلهية بتكرار التذكير بنعمة تسخير الكون للإنسان من الذرَّة إلى المجرَّة، والتي تجاوزت 22 موْضِعًا، في مثل قوله تعالى: “وسَخَّر لكم ما في السَّماوات وما في الأرض جميعًا منه، إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.”(الجاثية: 13)، وهو ما يثير الدَّهشة بالتساؤلات ذات الحمولات المكثَّفة والدلالات العميقة عن سِرِّ هذا الدَّلال الذي يتميُّز به الإنسان من دون سائر الكائنات، وهو الكائن الصَّغير الذي يحظى بهذا القِسط الوافر من الرِّعاية الإلهية المخصوصة: لماذا هذا التسخير؟ ولماذا هذا التذكير به؟ ولماذا تُسخَّر هذه الكائنات البعيدة العظيمة والهائلة للإنسان؟ ولماذا هذه اللوحات الفنية القرآنية المتنوعة إجمالاً وتفصيلاً حول هذا التسخير؟

لا شكَّ بأنَّ ذلك ينقلنا إلى مظهرٍ من مظاهر التكريم الإلهي لهذا النوع الإنساني، ليبصِّرنا بمهمَّتنا الحضارية الكبرى عبر الاستعلاء الاستخلافي

لقد استعمل القرآنُ الكريم أسلوبًا استفزازيًّا للعقل البشري عبر طرح الأسئلة المعرفية الكبرى لصناعة القناعات العقدية أكثر من استمالة العواطف الدينية، وذلك لبناء نسقٍ معرفي يرتقي به إلى نظرية التسخير فهمًا ومنهجًا وسلوكًا، ومنها: سؤال التسخير الكوني للإنسان، على اعتبار أنَّ الإنسان قد احتلَّ المرتبة الأولى في صدر الكون، والذي تمَّ إعدادُه لاستقباله، وتهيئتُه لاستمراره، إذ أنَّ صياغة آيات التسخير تتجاوز مجرد المعرفة بهذا الخلق واكتشاف عظمة هذا الخالق، إلى الشُّكر العملي على هذه النعمة، وتطويع هذا الكون لخدمة الإنسان، والجَمْع بين الإرادة والقوة للخلافة والعمارة لا للطغيان والفجور، وتأمَّل قول الله تعالى في تسخير مخلوقٍ هائلٍ وعظيم، وهو: البحر، بأمر الله تعالى من أجل معرفة النِّعمة وشُكر المنعِم، وما يلزم ذلك من واجب عبادة التفكير العميق في ذلك، فقال تعالى: “ٱللَّهُ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِىَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.” (الجاثية: 12)، فالخصائص الكونية للبحر والسُّفن والرِّياح والضَّغط الجوي والجاذبية الأرضية، والأبعاد والقوانين والأحجام لا يملك الإنسان أمامها إلاَّ التفكُّر في هذا التسخير العجيب لصالحه، وهو ما يوجِّه العقل والقلب إلى الوفاء بهذا الحقِّ والارتباط بهذا الأفق، وإدراك هذا الامتزاج بين الإنسان والكون في وَحدة المصدر والمصير، والنَّسق العقائدي في الصِّلة بينهما، إذ أنَّ الحِكمة منه هو تسهيل الانتفاع بالكون وتمكين الإنسان من الاستخلاف فيه لسياسة الدُّنيا بالدِّين.

إنَّ الإسلام يريد من الإنسان أن ينسجم مع هذا الكون عبر سُننه وقوانينه الثابتة، ويندبُ إليه حُسن السير في الحياة وعمارة الأرض التي أُنْزِل إليها، وذلك من أعظم مقاصد التشريع الذي دلَّت عليه الشريعة في جميع كلّياتها وجزئياتها، وتكون العبادة -بمفهومها الشَّامل- هي ما يضمن هذا الانسجام.

من النُّضج الحضاري أن نؤكد أنَّ هناك فِقهًا قرآنيا متحرِّكًا، عبر الإدمان على “عبادة التفكير” بإعمال العقل في النص بالتدبُّر والتفكُّر، ومن تلك الأسرار اللطيفة في القرآن هو إدراك تلك الإشارة الإلهية بتكرار التذكير بنعمة تسخير الكون للإنسان من الذرَّة إلى المجرَّة، والتي تجاوزت 22 موْضِعًا، في مثل قوله تعالى: “وسَخَّر لكم ما في السَّماوات وما في الأرض جميعًا منه، إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.”.

إنَّ الغوص في مبدأ التسخير، والتَّمَاهي في القراءة القرآنية المكثَّفة والمتحرِّكة لآياته تفرض علينا الجمع بين الفقه الإسلامي والعلوم الكونية والطبيعية، وهو ما برَع فيه علماؤُنا المتقدِّمون وتخلَّف عنه فقهاؤُنا المتأخِّرون، مع أنَّ التراث الفقهي في مجال العبادات -مثلاً- مرتبطٌ ارتباطًا دقيقًا بقوانين الطبيعة ونواميس الكون، مثل مواقيت العبادات في الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحج، فحركة الشمس تضبط دخول مواقيت الصلاة، كما قال تعالى: “أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل..” (الإسراء: 78)، وعلم الفلك لتحديد اتجاه القبلة، ومنازل القمر لإثبات الصيام والإفطار، كما قال صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..”، وضبط أبعاد الجغرافيا للفقه بالميقات المكاني للحج والعمرة… وهكذا.

وقد صرخت في وجوهنا تلك الإشاراتُ القرآنية القوية للعلاقة السُّننية بين العبادات وعلوم الكون والطبيعة، ولوْلَاها لَمَا انضبطت هذه الشعائرُ التعبدية التكليفية بأهمِّ شروط صحَّتها، وهو دخول الوقت، فقال تعالى: “هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُورًا، وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ، مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلْحَقِّ، يُفَصِّلُ ٱلْآيَٰاتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ.” (يونس: 05)، وهي إحدى المسالك القرآنية في ربط الإنسان بالكون والحياة.

إنَّ من نكبات التاريخ الإسلامي هو غلقُ باب الاجتهاد، والانتقال المروِّع من الإبداع في الدنيا إلى الابتداع في الدِّين، والسُّقوط الحرُّ من الشجاعة في الرِّيادة والسِّيادة إلى الخوف من التجديد والابتكار، إذ أنَّ أوَجَّ التفاعل الحيوي والانسجام القوي بين الإنسان والكون، والمواءمة في العلاقة بينهما كان في لحظة اللقاء المقدَّس بين الإنسان والدِّين الحق (الإسلام)، الذي أسَّس للحضارة الأطول في تاريخ الإنسانية، إذ جمع بين الجسد والرُّوح، وبين نصيب الدنيا وأشواق الآخرة، وبين غائية العبادة وواجب التمكين والنهضة.

إنَّ مبدأ التسخير الكوني للإنسان تأسَّس على قاعدةٍ قرآنية نظرية، ولكنه وقع هناك تطابقٌ بديعٌ بين صحّة هذه النصوص النظرية وبين واقع الحياة البشرية في هذا التطوُّر العلمي والتقني المذهل، بما يمكن أن يُثبته الإعجازُ العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الصحيحة والثابتة، عبر إنتاج المعرفة المتعلّقة بمخرجات الطبيعة، والنفوذ من أقطار السموات والأرض بسلطان العلم والمعرفة.

كما أنَّ عقلنة هذا التسخير الكوني يتطلب الوعي بالواجبات الحضارية الاستخلافية في الأرض، لتجاوز كبوَة الأمة في هذه اللحظة التاريخية، وأنَّ هذا المبدأ القرآني للتسخير يستدعي الفاعلية في الوصول إلى الشهود الحضاري: “لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدًا..” (البقرة: 143).

والتسخير الكوني للإنسان وِفْق هذا البناء القرآني والتصوُّر الإسلامي ومقاصد الشريعة الكلية هو منطقٌ يجمع بين الثنائيات التي انفصلت حداثيًّا وبشكلٍ نكدٍ في الحضارة المادية المتوحِّشة: بين العلم والإيمان، وبين العقل والوَحي، وبين الدُّنيا والآخرة، وبين الجسد والرُّوح، وبين القيم الإسلامية والقيم الإنسانية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!