-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
في ذكرى ثورة التحرير المنتصرة:

.. شيء في نفس “جاكوب”..!! 

أبو جرة سلطاني
  • 2000
  • 1
.. شيء في نفس “جاكوب”..!! 

ثورة التحرير المنتصرة لم تندلع فجر الفاتح من نوفمبر 1954، وإنما بدأت يوم دخل المستدمر أرض الجزائر سنة 1830 واستمر توتّرها وحرارتها إلى سنة 1916، ليتوقف الرصاص وتحل المقاومة الفكرية والتربوية مكانه في التوعية ويستفيد المقاومون من “تقنيات” الحربين العالميتن الأولى بين 1918/1914 والثانية 1945/1939. فلما كانت أحداث 08 مايو 1945. تجمع الوعي فبدأ السعي فتم التنظيم لثورة تخرج من “عقلية الدشرة” والقبيلة والمقاومة البطولية لإثبات الوجود إلى كفاح مسلح لتحرير الوطن فكان الشعب الجزائري على موعد مع القدر يوم 01 نوفمبر 1954 ليلة المولد النبوي الشريف.

أذكر أنني دعيت سنة 1984، من طرف قيادة جبهة التحرير (الحزب الواحد وقتذاك) لأقدم سلسلة محاضرات في بعض ولايات الشرق الجزائري ( قسنطينة. عنابة. ميلة. أم البواقي. تبسة. قالمة..) حول: البعد الإسلامي في ثورة التحرير المباركة. وبعد “دوريّة نحو الشرق” لخصت محاضراتي وأعددت كتابا تحت عنوان: أحفاد محمد أم أبناء نابليون؟ أثار أبناء نابليون في الجزائر حوله لغطا كبيرا قبل صدوره (عند عرضه على لجنة المراجعة) انتهى بشطب الشطر الثاني من عنوان الكتاب فصدر بعنوان: أحفاد محمد..!! واختفى من غلافه أبناء نابليون.

وقد أطلعني صاحب “دار البعث” الحاج محمود عياط ( رحمه الله) على جوانب من الضغوط التي مورست عليه حتى لا يُطبع الكتاب ولا يتم توزيعه البتّة. ولكنه كان مجاهدا قرر أن يصدره ولو أدى ذلك إلى غلق المطبعة. وصدر الكتاب ونفد خلال أيام واختفى من السوق ولم أحاول إعادة طبعه لأن ما تضمنه من معلومات عن إسلامية الثورة وعن أبناء “جاكوب”..!!

كشفت انتفاضة 05 أكتوبر 88 عما هو أفظع منه. وتأكد للقاصي والداني أن جراد فرنسا ارتحل سنة 1962 في صورته العسكرية ولكنه خلف وراءه بيضا كثيرا بالزي المدني. فقّص في أعشاش منظومتنا الثقافية ثم زحف على سائر نسيجنا الحضاري واللغوي والإداري والسياسي والمجتمعي.. فصبغه بألوانه الهجينة.

ورغم مرور نصف قرن على استقلال الجزائر عن فرنسا سياسيا وعسكريا.. مازال في مخلفاته “أبناء جاكوب” يؤلمهم أن يقال: كانت روح ثورة التحرير المنتصرة إسلاميّة. مع أن الفرنسيس انفسهم يقرون أنهم وجدوا أرضا مسلمة وقاتلوا شعبا مسلما وصبّوا جام غضبهم على المساجد وعلى لغة القرآن.. ولما احتفلوا بذكرى مرور 100 عام على دخولهم الجزائر اكتشفوا أن الإسلام لم يمت في نفوس الجزائريين والجزائريات. فقد أشرف أحدهم على “مسخ” عشر فتيات جزائريات ليكون ظهورهنّ يوم الحفل إعلانا رسميّا عن اندماج الشعب في ثقافة الغاصب..!! لكنهن انتصرن لدينهن.. ولما سأل كبيرُ الحضور متعهّد الحفل (وهو رجل دين فرنسي يسمى لاكوست): ما هذا الذي أرى بعد قرن من الاحتلال؟ خروج 10 فتيات على ركح العرض بالزي الإسلامي..!! (كان المتفق عليه خروجهن أوربيات) فأجابه: “وماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟؟” فسُقط في أيدي من حضروا الحفل وعلموا أن ما قاله ابن باديس كان حقا: “إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا. ولا يمكن أن تكون فرنسا. ولا تريد أن تكون فرنسا. ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت..”.

1- عظمة ثورة التحرير: يؤسفني أن أسجل في الذكرى 67 لثورة التحرير المباركة أن القائمين على وضع المقررات المدرسيّة فرضوا على عقولنا منطق كتابة تاريخ ثورتنا بعقلية “الديالكتيك” فلا يذكرون ثورتنا إلا مقرونة بالثّورتين الرّوسية والكوبيّة وهو ما حفظه جيلي في كتاب التّاريخ المقرر لأقسام النهائي (سنة البكالوريا) مع أنه لا وجه للمقارنة بين محرّك ثورات الشعوب الإسلامية ومحركات ثورات الأمم غير الإسلامية من غير أهل الكتاب ( الصين. الفيتنام. الهند..) فإذا شئنا تحديد ملامح ثورة التُحرير قلنا هي خمسة ينبغي أن تحفظها ذاكرة جيل الاستقلال.

– أنها ثورة قامت على فكرة “تحرير وطن” مهما كانت التضحيات.

– أن العدو غاصب اللغة والدين والتاريخ ومقومات الوجود الثقافي.

– أن وجهها إسلامي يناهض الوجه الصليبي لغة ودينا وانتماء وهوية تاريخية وانتماء حضاري..

– أنها ثورة بطلها الشعب بما قرره من فجّروها بقولين سطّرا طريقها نحو الحرية، الاول “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”. والثاني ” يوجد بطل واحد في الجزائر هو الشعب”.

فهي ثورة أمة مسلمة احتلّتها أمة غاصبة جاءت من وراء البحر لتصفي حسابات قديمة سيطرت فيها الجزائر على ملاحة البحر الأبيض المتوسط وكانت تسمّيه “البحيرة الإسلاميّة” وتفرض أتاوة على كل سفينة تمر بمياهها بما في ذلك أساطيل فرنسا والولايات المتحدة الأمركية، فلما تحطم الأسطول الجزائري في “معركة نيفارين” قرب اليونان سنة 1827 كانت الثلاث سنوات الموالية لتحطمه كفيلة بتحضير فرنسا نفسها للانتقام. أما “حادثة المروحة” فكانت ذريعة للغزو بعد أن طمأنت إرساليّات التّبشير أن هلال الخلافة العثمانية آخذ في الأفول وعلى الصليب أن يضرب بقوّة قلب المغرب الإسلامي. فإذا سقط الصّدر سهل ضم الأجنحة. وهو ما حدث بين 1830 و1880. بعد ثورة المقراني.

2- الوجه الإسلامي لثورة التحرير: ينبغي على جيل الاستقلال أن يعي ثلاثة حقائق تاريخية تمت التغطية عليها في مقرراتنا المدرسية لشيء في نفس “جاكوب” ولكن التاريخ لا ينسى.

– أن احتلال فرنسا للجزائر سبق اتفاقية “سايكس/بيكو” بـ 87 عاما، فلا علاقة للجزائر بما حدث في مسمى اقتسام “تركة الرجل المريض”..!!

– أن المقاومة بدأت إسلامية واستمرت إسلامية قادها الشيوخ من الأمير عبد القادر إلى الشيخ بوعمامة فثورة الزعاطشة والنمامشة والمقراني وللالّة فاطمة نسومر وثورة بوبغلة والشيخ الحداد وآخاموخ.. إلى ثورة بير التوتة. آخر ثورات المقاومة..

– أن كل مصطلحات ثورة التحرير المنتصرة كانت إسلامية، منها الكشافة الإسلامية الجزائرية (التي بارك ابن باديس تأسيسها سنة 1935 بقيادة الشهيد محمد بوراس. تحت الرئاسة الشرفيّة له في مؤتمر التأسيس بالحراش تحت شعار: الإسلام ديننا. والعربية لغتنا. والجزائر وطننا. وهو من ترأس المؤتمر الإسلامي سنة 1936. ونشيد شعب الجزائر مسلم الذي نظمه سنة 1937). وبيان اول نوفمبر الذي نص على إقامة دولة جزائرية ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية. ليلة اندلاع الثورة تزامن مع ذكرى المولد النبوي الشّريف. كلمة السر كانت(عقبة/ خالد) الثوار سموا أنفسهم مجاهدين (وليس محاربين. !!). والقتلى في سبيل الوطن حملوا شرف الشهادة، فهم شهداء. وهتاف الهجوم وصرخة النصر “الله أكبر”. وكل من شاركوا في الثورة “خاوة. خاوة”. ومعركة الميم (m) عند تأسيس الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (1951). وأناشيد الثورة ذات عاطفة إسلامية. وحتى رمزيات العلم الوطني تم تصميمها بخلفيّة إسلاميّة (النّجمة والهلال والألوان المنتقاة: أخضر. أبيض. أحمر). وفي فجر الإستقلال صدح لسان مقال الشعب بأغنية: يا محمّد مبروك عليك الجزائر رجعت ليك..

3- من هم المجاهدون؟ لما تزاحم كثير من الناس على باب المنظمة الوطنيّة للمجاهدين وصار الضغط عاليا على “لجنة الاعتراف” مما اضطر الرئيس السابق (رحمه الله) إلى غلق هذا الباب وأمر بتصفية ما كان مكدسا من ملفات في أدراج وزارة المجاهدين..!! طلب مني وزير القطاع رأيا في الموضوع فزرته لأستفسر عن عدد المجاهدين الذين حظوا بشهادة الاعتراف بالمشاركة في جيش التحرير أو جبهة التحرير، فكشف لي عن رقم مهول..!! فأشرت عليه بفكرة ضحك منها كثيرا وقال لي ما مفاده: رأيك صواب ولكنه سيعود بنا إلى سنة 1963..!! لو فعلها سي بن بلله أو سي بومدين لما كنا اليوم في هذا الوضع..!! لكن اليوم فات الوقت.. لقد قلت له ما خلاصته: لماذا لا تنشروا قائمة “الحرْكى” الذين تعاونوا مع فرنسا. فإذا عرفهناهم كان الشعب كله مجاهدا إلا من خان دينه ووطنه وشعبه..!! وبررت له فكرتي بأن الجهاد ليس فقط رصاصا ودما وشهداء وقتلا لجيش العدو وتدميرا لآلياته وإحباطا لمعنوياته..

الثورة فكر وتخطيط وتمويل ودعم ومعاناة (جوع. عطش. مرض. عري. تهميش. هجرة. لجوء..الخ). والحرب يتامى وأرامل وتشريد وحرق مداشر وتعذيب وحرمان وخوف واغتصاب.. وهوان حوّل الشعب كله إلى “فئران تجارب”..!! وآثار قنابل النابالم و”اليربوع الأزرق” ما تزال شاهدة على عار فرنسا في الجزائر. واسألوا إخواننا في رقّان..!!

والخلاصة التي يجب أن تحفظها الأجيال: أننا لم ننتصر بالرصاص وحده، ولم ننتزع استقلالنا بالعدد الضخم من الشهداء فقط (5 ملايين 630 ألف شهيد). فهؤلاء أدوا واجبهم كاملا لأنهم قضوا نحبهم. ولكنهم كانوا مسنودين بشعب أبيّ صان الأمانة وحفظ الوديعة ومازال على عهد الشهداء.

وحجتي في هذه الشهادة أن للثورة جيش تحرير قاد المعركة القتالية وجبهة تحرير قادت المعركة السياسية والدّبلوماسية والمفاوضات التي سبقت الإعلان عن وقف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962. تلاه الاستفتاء حول تقرير المصير.

فثورة التّحرير المنتصرة كانت ثورة شعب مسلم ضدّ استعمار استيطاني غاصب معتد أثيم.. لم يفجرّها بطل واحد ولا قبيلة ولا عرش ولا جهة.. وهذه حقيقة تاريخية ثابتة. ولكن الحقيقة التّاريخية الأخرى الأكثر ثباتا هي أنّ “الروح الباديسيّة” سرت في عروق المقاومة منذ سنة 1913، فكان الإسلام “إسمنتها المسلح” يوم اندلاع ثورة نوفمبر 54. فضمن هذا الإسمنت تماسك فكرتها ووحدة هدفها وزخمها الشعبي المتزايد حتى كللت بالنجاح، ومازالت روح الباديسية سارية في أجيال الاستقلال؛ تناهض الباريسيّة وتعري دسائس المستلبين حضاريا وثقافيا ولغويا.. وتكشف نوايا كل من في نفسه شيء من أحلام “جاكوب”، وسوف تستمر المقاومة السلميّة بهذا الوهج المتدفق حتى يبلغ الكتاب أجله باستكتمال “المشروع النوفمبري” الذي من أجله كانت أحداث أكتوبر 88. ولأجل استكماله كان حراك فبراير 2019. فإذا تمّ بناء دولة جزائرية ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية قرت أعين الشّهداء وشعر جيل الاستقلال أنه أدى ما عليه تجاه من قدموا أرواحهم طاهرة زكية لتحيا الجزائر. فالشعوب الإسلامية لا يحركها سوى دينها ولا تضحي إلا بيقين أن الشّهداء عند ربّهم يرزقون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • Ali

    أحسنت والله.