-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طعنات في ظهر منظومتنا التربوية (1)

سلطان بركاني
  • 1156
  • 0
طعنات في ظهر منظومتنا التربوية (1)

لعلّ الجزائريين جميعا يكونون قد تابعوا خلال الأيام القليلة الماضية، تداعيات قضية الأستاذة الفاضلة ريحانة بن شية التي تعرضت لطعنة غادرة في ظهرها بإحدى متوسطّات ولاية باتنة، نقلت على إثرها إلى المستشفى في حالة خطرة، ولولا لطف الله لكانت في قبرها.. لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتعرّض فيها المعلّمون والأساتذة لاعتداءات داخل المؤسّسات التعليمية وخارجها، فالحالات بالمئات خلال السنوات الماضية التي بدأ فيها جيل “الإصلاحات” يشبّ عن الطّوق!

ما وقع بولاية باتنة، ليس حادثا عرضيا شاذا، إنّما هو واحد من وقائع بدأت تتكاثر في السّنوات الأخيرة، تدلّ على الحضيض الذي وصلت إليه أخلاق كثير من أبنائنا التلاميذ والطّلبة.. كثير من أبنائنا المتمدرسين طرقوا أبواب الإجرام والإدمان وما عاد يردعهم شيء عن حمل المخدّرات في جيوبهم والسكاكين في محافظهم والدّخول بها إلى المدارس والمؤسّسات التربوية، ومواجهة الأساتذة والمشرفين التربويين بكلّ جرأة وحدية وندية!

لقد رأينا مقاطع فيديو صُوّرت في مؤسّساتنا التربوية تنقل شيئا ممّا يتحلّى به بعض أبنائنا التلاميذ بين أسوار المدارس وداخل حجرات الدّراسة من طيش واستهتار بحرمة المكان؛ رقص وضحك ولهو ولعب واستهزاء بالأساتذة والمعلّمين، بل قد وصل الأمر إلى الاعتداء على الأساتذة بالضّرب، وها هو الأمر يصل إلى محاولة القتل.. لا تكاد تجلس مع معلّم أو أستاذ في السّنوات الأخيرة إلا وتسمع آهاته وزفراته من الحال التي وصل إليها أبناؤنا التلاميذ، وجلّ المربّين أصبحوا يَعدّون بلهفة السّنوات التي لا تزال تفصلهم عن التقاعد، ليفرّوا بجلودهم من واقع المدارس.. أصبح التلميذ يحدّ بصره في وجه معلّمه، وينظر إليه محتقرا، ويردّ عليه كلامه، ويسبّه ويتوعّده قائلا: “نلتقي خارج المؤسسة”! وربّما يستعين برفقة السّوء ليبطش بأستاذه ويلحق به الأذى!

الضياع قد وصل بكثير من أبنائنا التلاميذ والطّلبة إلى الحضيض.. كنّا نبكي حسرة وكمدا لما آلت إليه حال أبنائنا في الشوارع والمقاهي وفي الأوكار المظلمة من جرأة وضياع وإجرام، وها هو الإجرام يصل إلى المدارس! ولا كأنّ أبناءنا يتربّون في بيوت مسلمة تحفظ حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “إنّ الله -عز وجل- وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملةَ في جحرها، وحتى الحوت، ليصلُّون على معلم النّاس الخير”.. والخير هنا يعمّ كلّ خير يُصلح الدّنيا والآخرة.. النّملة في جحرها تدعو لمن يعلّم النّاس الخير، وأبناؤنا لا شغل لهم إلا غيبة المعلمين والأساتذة والطعن فيهم!

واهًا لزمان الخير والحياء!

الأوائل، كان الواحد منهم يُجلّ شيخه الذي يعلّمه الخير؛ فهذا -مثلا- شعبة بن الحجّاج أمير المؤمنين في الحديث كان يقول: “من كتبت عنه أربعة أحاديث؛ فأنا عبده حتى أموت”.. الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصّحيح، كان من تلاميذ الإمام البخاري، وكان التلميذ يحترم شيخه ويقدّره ويُثني عليه دائماً بالكلام الطيّب الحسن، حتى إنّه جلس بين يديه يوماً وقال له: “دعني أقبّلْ رجليك يا أستاذ الأستاذِين، وسيّد المحدّثين، وطبيب الحديث في علله”.. الربيع بن سليمان: من أخص تلامذة الإمام الشافعي، كان إذا جلس بين يديه شيخه يستحي أن يشرب الماء وشيخه الشافعي ينظر إليه، هيبة منه.. والنماذج في هذا كثيرة حفلت بها كتب السير والتراجم.

قديما قال الشاعر: “قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلّم أن يكون رسولا”، وقال المثل: “ابتعد سبعة أقدام حتّى لا تدوس على ظلّ معلّمك”.. وقبل عقود قليلة، كان الواحد منّا يستحي أن يرفع بصره في وجه معلّمه، ويستحي أن يراه معلّمه يأتي فعلا سيئا، بل يستحي أن يراه معلّمه وهو يأكل في الشّارع.. أمّا لو رآه معلّمه يدخّن فإنّه يتمنّى لو تنشقّ الأرض لتبلعه.. كان التّلميذ ينادي معلّمه بـ”سيّدي”، وإذا وضع المعلّم يده على رأس تلميذه فإنّ التلميذ يكاد يطير فرحا، ولو طلب المعلّم من تلميذه شيئا فإنّ التلميذ يسارع إلى تنفيذ أمر معلّمه ويفخر بذلك بين زملائه.. بل قد كان المعلّم يؤدّب التلميذ ويشبعه ضربا، فيَحني التلميذ رأسه ويعود إلى مكانه من دون أن يلفظ كلمة واحدة.. بل إنّ التلميذ يعود إلى البيت ولا يخبر أباه ولا أمّه بأنّ المعلّم قد عاقبه، لأنّه يعلم أنّ والده سيعاقبه مرّة أخرى، لثقة الوالد بأنّ المعلّم لا يعاقب تلميذه من دون جرم ارتكبه.

تغيّر الواقع وانقلبت الموازين!

أصبح هذا الذي ذكرناه نادرا في زماننا الذي تغيّر فيه الواقع وانقلبت الموازين، وصار التلاميذ ينظرون إلى معلّمهم وأستاذهم كأنّه خادم بين أيديهم، ومصدر إزعاج يتواصون بالوقوف في وجهه وإحراجه.. من أين لأبنائنا بهذه الجرأة ومن أين لهم بهذه الصفاقة؟ أصبحت الهواتف تُصطحب إلى المدارس، ولا يستطيع الأستاذ ولا حتى المدير أن يمنعها، بل أضحت السكاكين ترافق بعض التلاميذ إلى المؤسّسات التعليمية، وحتى الحبوب المهلوسة تَدخل إلى المدارس في جيوب بعض التلاميذ والطلبة!

قلّة من أبنائنا لا تزال تهمّهما الأخلاق، وما زالوا يستحون من معلّميهم ويوقّرون أساتذتهم.. بل إنّ التلاميذ الذين يتأدّبون بأدب طالب العلم أصبحوا يشْكون غربتهم بين زملائهم الذين يستهزئون بهم ويصفونهم بالجبناء والمعقّدين.. التلميذ الذي يستحي من أساتذته أصبح يوصف بين زملائه بالجبان والذّليل، والتلميذ الذي يريد أن ينشغل بدراسته يَستهزئ به زملاؤه وينادونه بالقرّاي والخباش! والتلميذة التي تلبس اللباس الواسع وتلزم التحفظ في معاملتها لزملائها والاحترام في معاملتها لأساتذتها تنظر إليها زميلاتها على أنّها معقّدة وشيخة! ولا يزلن بها يردن جرّها إلى ميدانهنّ، لتصبح سلفعا مثلهنّ لا توقّر أستاذا ولا تتحفّظ مع زميل!

يتبع بإذن الله…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!