-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عقلية النفي.. نيف!

عمار يزلي
  • 3109
  • 4
عقلية النفي.. نيف!

عندما تطلع علينا كل مرة التقارير العالمية الموثوق منها والواثقة من ثقتها في عدم ثقتنا فيها، أول ما نقابل به هذه التقارير هو ” التكذيب والنفي، وعدم الثقة في هذه التقارير”! رغم أننا نرى بأعيننا أحيانا أنه ما جاء في التقارير لا يعكس بالضبط الحقيقة، لأن الحقيقة كثيرا ما تكون أكثر مرارة مما جاء في التقرير بالمرة!

ينطبق هذا عن التقرير حول الفساد في العالم لسنة 2014، الذي يجعل من الجزائر واحدة من الدول الأكثر فسادا ونهبا للأموال، كما ينطبق على تقارير حول ترتيب الجامعة الجزائرية عربيا وعالميا، وكما يتعلق الأمور بحقوق الإنسان، وغير ها من التقارير التي لا يمكن قبولها بسهولها عندنا: ليس لأنها تجانب الحقيقة وتكشف المستور، بل لأنها قد لا تظهر من جبل الجليد إلا جزءه الظاهر فوق الماء!

الكل يعلم ويرى ويعرف ويتابع ويلاحظ كيف أن المال العام والفساد الذي عرفته الجزائر خلال العقدين الأخيرين، لم يسبق لهما مثيل! مع ذلك، لا زلنا رسميا “نكذب بالدين، حتى يأتينا اليقين”!. ولست أدري من أين جئنا بهذه العقلية في التستر عن شيء لا يمكن ستره! لا نعرف لماذا يقول المسئول عن الشيء الذي يراه الجميع أسودا، يقول عنه أنه أبيضا! ويقولها بكل تبجح وثقة بالنفس ويعلم علم اليقين بأنه يقول الحقيقة كذبا!

ذكرني هذا، بكلام سفير لنا في العراق أيام الحصار عندما سألنا ونحن في بيته نتناول كسكسي الجمعة عن رأينا في العراقيين وسلوكهم وتعاملهم معنا، يوم أن كنا مع فريق للتلفزيون الجزائري نصور حصة لرمضان من الأردن وسوريا والعراق وهذا قبل نحو 15 سنة. قلنا له أن النظام العراقي العسكري، لا يفهم، وأنهم خشني الرؤوس، وسقنا له قصة عسكري برتبة “مساعد” (جودام) رفض أن نوجه الكاميرا باتجاه آلية عسكرية قديمة، قدم عاد وثمود، بعيدة عن الكاميرا بنحو كيلومتر! قلنا له: أننا نريد أن نصور نهر دجلة وهذا المنظر الجميل الشاعري ولم نأت هنا لتصوير آلياتكم هذه! مع ذلك رفض بشدة. عندها أقبل المخرج وقال له ساخرا: الأمريكان، يصورن الآن من هناك! من الأقمار الصناعية، حتى هذه الشعرات البيضاء والسوداء الموجودة على شواربك! قالها له وانتقلنا إلى وجه أخرى للتصوير!

هذه القصة التي رويناها للسفير، جعلته يضحك ويروي لنا بدوره قصة مماثلة عنا كجزائريين: قال لنا: حدث معنا في بداية الستينات في الجزائر أيام الأزمة الأمريكية ـ الكوبية (أزمة الصواريخ وخليج الخنازير)، أن جاءنا الأمريكان وطلبوا منا أن نكف عن تمويل كوبا بالسلاح، فأنكرنا ونفينا كسلطة وقتئذ أن يكون لنا أي ضلع في هذه المسألة. نفي قاطع! غير أن الأمريكان أمهلونا بعض الوقت وعادوا من جديد ليحتجوا، فنفينا من جديد! لكن هذه المرة، جاءونا مسلحين بصور ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية، تصور بدقة متناهية لا يرقى إليها شك ولا تأويل، تبين بشكل واضح كيف أن سفنا تنقل السلاح من ميناء المرسى الكبير العسكري، باتجاه كوبا. الصور كانت تتبع السفينة إلى غاية دخولها إلى كوبا! عندما أطلعونا على هذه الصور، ما كان علينا إلا أن قلنا لهم: ما كاينش منها! ورفضنا وكذبنا وأنكرنا أن نكون نحن من يمول كوبا بالسلاح..رغم الصور والأدلة القطعية!

أوردت هذه القصة، فقط لكي أؤكد على أن عقلية “النفي” والتكذيب” ولو أمام الأدلة والبراهين، هي عقلية “تاخشنت” ثقافية، تعود لطبيعتنا كجزائريين عشنا الثورة وتعلمنا منها في الجيش كما عند الشعب أن “نسبق الميم”: كان آباؤنا يقولون لنا دوما عندما يواجهنا أحد بالسؤال عن شيء ونحن أطفال: سبقوا الميم! أي أجيبوا دوما بعبارة النفي: ما شفتش، ما نعرفش، ما علاباليش، ما عنديش..إلخ! كل هذا تخوفا من الجوسسة والتجسس على الثورة من خلال الشعب والأطفال على الخصوص لبراءة أجوبتهم! من هنا، يبدو لي أن أنالعقلية الأمنية والسرية المبالغ فيها إلى حد البلاهة، صارت عندنا ثقافة عامة وسلوك يومي وطبيعة بشرية فينا.

واليوم، ما زلنا بهذه العقلية المكذبة النافية، نتعامل مع حقائق واقع جديد، يتعامل بالصورة والصوت والدليل والبرهان والإنترنت وصورة الأقمار الصناعية التي تصور حتى ما تحت الأرض، نرفض أن نعترف بالحقيقة ونكون صديقين مع ذواتنا خدمة للبلد والوطن والمواطن. فالاعتراف بالحقيقة وبالذنب هو بداية الصدق. ونحن ما زال أمامنا المجال والوقت لنبني مصداقيتنا من الآن، بالاعتراف ولو قليلا بأن عقلية “الكذب” على النفس، هي التي دفعت بالبلاد إلى الارتماء في أحضان الفساد. فالكذب هو الفساد الكبير، والسكوت عن الحق هي الطامة الكبرى.

نمت على وقع هذه التقرير لأجد نفسي أمام موطار الرادار: علاش تجاوزت السرعة المحدودة؟ كنت تطير! 130 كلم في الساعة في طريق لا تتجاوز السرعة المسموعة 80 كلم! قلت له: ما كنتش نجري 130! قال لي: هاهي الصور نتاع الرادار! قلت له: علاه الرادار يعرف خير مني؟ شكون اللي كان يسوق وقدام الكونتور؟ أنا وإلا هو؟ يكذب! قال لي وهو يضحك من الزعاف: شكون اللي يكذب الصورة وإلا الهدرة؟ قلت له: لو كان نجيب لك صورة نتاع أمك في صورة غير لائقة..واش تقول لي: قال لي: ما نتيقش! أمي..أشرف من فمك ياوحد الكلب! قلت له: ما قلتش بللي أمك كذا وكذا…غير راني نعطيك مثال. قال لي: وتعطيني مثال على أمي؟ بيانسور نقول لك: ماكاينش منها وصورة مزورة وفوطوشوب بها..وما نستعرفش بيك! قلت له: حتى أنا ما نستعرفش بالصورة نتاع الرادار.. هي صورة سكاني.. مخدومة بالفوطوشوب! ولو كان حتى بصح، ماشي بصح! ما كنتش نجري 130! قال لي: إذن، شحال كنت تجري؟! قلت له: والله ما على بالي.. عندي الكونوتور ما يآفيشيش!

وأفيق من نومي وأنا أقول لزوجتي التي جاءت لتوقظني بعد أن جاء واحد من الذين “يسالوا لي الدراهم” ليسأل عن دينه: قولي له ما رانيش هنا! قالت لي بللي راه عارف بللي راك هنا..راه حاظيك وشافك كي دخلت وما خرجتش!! قلت لها: قولي له: ماراهش هنا حتى ولو كان شافني  في الميكروسكوب!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • سعيد م

    كم انت رائع يا دكتور عمار، تصور الواقع بدقة متناهية، وتجعلنا نضحك ملئ الأشداق على واقعنا المر... تحياتي لك، لم نلتق منذ زيارة العراق

  • الاسم

    انن لم تستطع التحكم في قسم الاعلام بوهران وبسببك حدثت كوارث وتنتقد دولة باكملها

  • السعيد

    تمت السرقة ... والنشر
    مع ذكر صاحب المقال .......
    مقالات ممتعة وهادفة شكرا

  • الاسم

    نعم هي ذي الحقيقة المرة فالكذب تجذر فينا حتى أصبح ثقافة نتوارثها أب عن جد؟