-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن البُعد الدِّيني للأحزاب السِّياسية

ناصر حمدادوش
  • 360
  • 0
عن البُعد الدِّيني للأحزاب السِّياسية

هناك توجَّهٌ تصالحيٌّ بين الدِّين والدولة في تجارب معاصرة عديدة، فقد تجدَّد الطَّلب على الدِّين في الحياة السِّياسية وفي الحياة العامَّة، وعاد الدُّور المتجدِّد له في التأثير السِّياسي والمجتمعي، ولم تصمد العَلمانية أمامه طويلا، إلاَّ أنَّ مفهوم العلمانية -بمضامينها الغربية– قد أخذ في العالم العربي والإسلامي بُعدًا تصادميًّا مع الدِّين، حتى أصبحت توجُّهًا إيديولوجيًّا متطرِّفًا لتصفيته والقضاء عليه، بالرَّغم من الاختلاف الجوهري بين الإسلام والمسيحية، والذي جاء لسياسةِ الدُّنيا بالدِّين بشكلٍ عقلانيٍّ وإنساني، فهو ليس مجرد عقائد لاهوتية وشعائر تعبُّدية، بل عمَّت أحكامُه الفردَ والمجتمع والدَّولة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، كما قال تعالى: “ما فرَّطنا في الكتاب من شيء”(الأنعام:38)، فأصبحت العَلمانيةُ دعوةً غير محايدة، بل هي أداةٌ في يد الدَّولة الحديثة لإقصاء الدِّين، وتحوَّلت إلى مشروعٍ إيديولوجيٍّ ومضمونٍ فلسفيٍّ عدائيٍّ وإقصائيٍّ، يتمُّ استدعاؤُه استدعاءً غير ناضجٍ، حتى أصبحت “ديانةً” تتبجَّح بالدَّعوة إلى التحرُّر من الدِّين.

الاستغلال السِّياسي للدِّين، ومنع تأسيس الأحزاب على أساسٍ ديني:

يُطلق مصطلح “التوظيف السِّياسي للشيء” ويُراد به المعنى السِّلبي، إذ يكون استغلاله دون القناعة به، من أجل تحقيق مصلحةٍ خاصَّة، أو إقحامه في غير سياقه وطبيعته، أو المزايدة به نظريًّا دون تبنِّيه عمليًّا.

ومن شروط التوظيف السِّياسي السِّلبي: أن تكون الجِّهة المعنية به سياسيةً من أجل تحقيق أهدافٍ سياسية، وأن تكون هذه الجهة غير متبنِّية له، وأن تكون نفعيةً وليست مبدئية.   وعادةً ما يُشهر سيفُ “التوظيف السِّياسي للدِّين” في وجه الإسلاميين، إلاَّ أنَّ نفسَ الجهة المتهِمة لهم تقع في نفس ما تَتَّهِمهم به، فلم تُخْفِ الأنظمة تأميمَ الدين واحتكارَه باستغلال الدِّين عبر: المساجد والزَّوايا والطرق الصُّوفية وبعض الجماعات الدِّينية التقليدية، فتمَّ استدعاؤه من بعضها لإضفاء الشَّرعية الدِّينية، وتوظيف المشاعر الدِّينية والقومية لترسيخ الرِّضى عنها وعدم الخروج عليها، بل وصناعة الإرهاب لضمان نصاب البقاء لها بشرعية مكافحته، ومساومة الشُّعوب بين الحرِّية والديمقراطية وبين الأمن والاستقرار بسببه.

ومع ذلك، فإنه لا يمكن إنكارُ وجود جماعاتٍ وحركاتٍ وأحزابٍ دينيةٍ وظَّفت الدِّين في الصِّدام مع غيرها، ابتداءً من استغلال التسمية الدِّينية بما يوحي بالتوجُّه الإقصائي والتكفيري لغيرها، إلى استغلال الخطاب الدِّيني والمؤسَّسات الدِّينية في التنافس السِّياسي والانتخابي ضدَّ شركائها في الوطن والدَّين، والاختباء وراء هذا الغطاء الدِّيني في استعطاف الجماهير واستعمالها كأدواتٍ بشرية في الصِّراع، مع أنَّ هؤلاء الإسلاميين ليسوا بالضَّرورة ممثِّلين شرعيين وحقيقيين للإسلام، وأنه لا أحد فوَّضهم للحديث باسمه، ولا هم في مستوى التطابق المغري بين “التديُّن البشري” وبين “الدِّين الإلهي” لهم، بل ضُربت القدوةُ من بعضهم بسبب مخالفة أفعالهم لأقوالهم، ووصل الأمرُ ببعضهم إلى توظيف الدِّين في إصدار الفتاوى والأحكام ضدَّ المخالفين بتضليلهم وتكفيرهم واستباحة أعراضهم وأموالهم ودمائهم، فأقحموا الدِّين في صراعاتهم الحزبية والإيديولوجية، مما زاد من منسوب الخوف من الدِّين – بالحقِّ أو بالباطل– فارتفعت الأصوات بإبعاده عن السِّياسة وعن الأحزاب السِّياسية، وجاء الدستور الجزائري – كما في غيره من دساتير دولٍ أخرى– سنة 1996م لينُصَّ في المادة: 42 منه: “.. لا يجوز تأسيس الأحزاب السِّياسية على أساسٍ دينيٍّ أو لغويٍّ أو عِرقيٍّ أو جنسيٍّ أو مهنيٍّ أو جهوي..”، وكان واضحًا أنَّ المستهدَف هو الدِّين بإجبارها الأحزاب الإسلامية على تغيير تسميتها، وليس أحزابًا أخرى.

خصوصية الحالة الجزائرية: ستكون الحالة الجزائرية استثناءً في استهداف الدِّين في الحياة السِّياسية، لعدَّة اعتباراتٍ تاريخيةٍ وواقعيةٍ ودستورية، إذْ أنَّ أقدس وثيقةٍ تاريخيةٍ مؤسِّسةٍ للدولة الجزائرية المعاصرة، والتي تسمو فوق الدستور، وهي بيان أوَّل نوفمبر -والتي هي محصَّنةٌ من أيِّ تغييرٍ أو تعديلٍ- تُلزمنا بإقامة الدولة الجزائرية في إطار المبادئ الإسلامية، وأنَّ الإطار الطبيعي لها هو البُعد العربي الإسلامي، وبالتالي فإنَّ نضالات الأحزاب الوطنية يجب أن تتقيَّد بهذا المحدِّد لطبيعة الدولة وهويتها، وأنَّ المأساة الوطنية خلال تسعينيات القرن الماضي أنضجت الممارسة السِّياسية للجميع: سلطةً وأحزابًا بأنَّ الدِّين لم يعد عنصرَ أزمةٍ أو تأزيم حتى ولو تكلَّم السِّياسيون الرَّسميون والحزبيون باسمه، وأنَّ الدستور نفسه ينصُّ على أنَّ “الإسلام دين الدولة”، وأنه “لا يجوز للمؤسَّسات أن تقوم بالسُّلوك المخالِف للخُلُق الإسلامي وقيم ثورة نوفمبر”، وبالتالي فإنَّ جدلية إقصاء الدِّين من الدولة ومن السِّياسة ومن الأحزاب السِّياسية نسبيةٌ وظرفيةٌ وغيرُ واقعية، بل وغير دستورية. ومع ذلك فنحن بحاجةٍ إلى التدقيق في مسألتين مهمَّتين في العلاقة بين الدِّين وبين الأحزاب السِّياسية، وهما:

1/ حقيقة الحزب الإسلامي: عن حقيقة البُعد الدِّيني للأحزاب السِّياسية يقول الدكتور عبد الرزاق مقري في مقاربة “مسارات العبور إلى الدولة”: لا يكون الحزبُ إسلاميًّا بمجرد تسميته، كما لا يكون إسلاميًّا لأنَّ قادته يشحنون خطابهم بالنُّصوص الشرعية، أو لأنهم يلبسون لباسًا تقليديًّا، إنَّ الصِّفة الإسلامية للحزب تتأكَّد إذا توفَّرت الشروط التالية:

– السُّلوك والقدوة: بأن يكون قادةُ الحياة السِّياسية والحزبية مسلمين صالحين في التزاماتهم التعبُّدية الشَّخصية، وفي أخلاقهم ومعاملاتهم مع غيرهم.

– المرجعية الإسلامية لبرامجهم: بالكفاءة في تقديم البديل الذي يستند إلى المرجعية الإسلامية في إطارٍ علميٍّ قابلٍ للتشريع والتقنين، في مختلف المجالات التنموية بأبعادها الأخلاقية والمقاصدية والإدارية والقانونية، والتحكُّم المعرفي والخطابي في قضايا الشَّأن العامّ، وتقديم البدائل المقنِعة والمفيدة، سواء كانوا في السُّلطة أو في المعارضة.

– الدفاع عن الهوية وقضايا الأمَّة: بملاحقة الفساد والاستبداد، والوقوف مع الحقِّ والمظلومين، ومكافحة الانحرافات الأخلاقية المهدِّدة للفرد والأسرة والدولة، فالدِّفاع عن الهويَّة الدِّينية والثقافية والتاريخية للدولة وللأمة لا يتناقض مع الوظيفة الحزبية السِّياسية.

لا يمكن إنكارُ وجود جماعاتٍ وحركاتٍ وأحزابٍ دينيةٍ وظَّفت الدِّين في الصِّدام مع غيرها، ابتداءً من استغلال التسمية الدِّينية بما يوحي بالتوجُّه الإقصائي والتكفيري لغيرها، إلى استغلال الخطاب الدِّيني والمؤسَّسات الدِّينية في التنافس السِّياسي والانتخابي ضدَّ شركائها في الوطن والدَّين، والاختباء وراء هذا الغطاء الدِّيني في استعطاف الجماهير واستعمالها كأدواتٍ بشرية في الصِّراع، مع أنَّ هؤلاء الإسلاميين ليسوا بالضَّرورة ممثِّلين شرعيين وحقيقيين للإسلام.

للحركة الإسلامية وهي تدخل قرنًا جديدًا، تنتقل فيه من عصر الصَّحوة الدينية في المئوية السَّابقة إلى عصر النهضة السِّياسية في المئوية القادمة، وهي تتناغم مع السُّنة الإلهية للتجديد وفق الحقيقة النَّصية للحديث النبوي الشَّريف: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سَنَة مَن يجدِّد لها أمر دِينها أنْ تتَّجه قولاً وفِعلاً إلى هذا التطوير والتجديد في الأفكار والبرامج وما يناسبها من الهياكل الإدارية والتنظيمية، وهو ما يفرض عليها إعادة توزيع وإدارة الوظائف الأساسية لها، بأن تبدع في تعميق وتركيز التخصُّص الوظيفي، ومنه التوجُّه إلى “الحزب السِّياسي المدني”، الذي يقود الفكرةَ من المجتمع إلى الدولة وإلى النهضة والحضارة، وترحيل الوظائف الأخرى إلى المؤسسات المتخصِّصة في المجتمع المدني، والموازنة بين البُعد الرِّسالي والبُعد الوظيفي لها، وهو ما يستدعي عصرنة الإدارة والتسيير لهذا الحزب، والتفرُّغ للوظائف الأساسية له، وهي: الكفاح من أجل الحرِّيات والديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان والعلاقات العامَّة وتجويد الأداء السياسي والإعلامي، وتطوير البرامج القطاعية والتنموية وتحيينها، والتكوين والتدريب والتأهيل القيمي والرِّسالي الدائم للقيادات والنواب والمنتخبين المحليين، والذهاب إلى الرشاقة التنظيمية والإدارية، والتخفُّف من الوظائف الأخرى ومن درجات العضوية، والمرونة في شروط تقلُّد المناصب القيادية: التنظيمية والسِّياسية.

إنَّ الفكرة الدينية – كما يقول المفكر الكبير “مالك بن نبي” – هي المؤسِّس للحضارات والمدنيات، وفي الحالة الجزائرية فإنَّ الفكرة الدينية كانت وستظلُّ هي المكوِّن الرئيسي والأساسي لحركة انبعات الدولة الجزائرية، من بيعة الأمير عبد القادر الجزائري، إلى أدبيات الحركة الوطنية والإصلاحية، وصولاً إلى الثورة التحريرية المباركة، فلا يمكننا أنْ نتصوَّر نهضةٍ حاليةٍ أو مستقبليةٍ للجزائر بعيدًا عن هويتها الدينية ومنظومتها القيمية الرَّاسخة والجامعة.

إنَّ الذهاب إلى الحزب المدني لا يتناقض مع البُعد الهوياتي للأحزاب السِّياسية، فلن تكون هناك أخلقةٌ للحياة السِّياسية دون التكوين والالتزام بالقيم الدينية والدستورية والخصوصية الثقافية والاجتماعية للشُّعوب، وقد تجاوزت الدولُ الديمقراطية الغربية عُقدة هذه الخلفية الدِّينية، بل يشهد العالَمُ الآن عودةً إلى الدِّين على مستوى الدول والشُّعوب والأحزاب، وهو ما يفسِّر هذا الصُّعود اليميني المتطرِّف في الغرب.

وإذا كان الغرب يتفاخر بالكيان الصُّهيوني كدولةٍ ديمقراطية مؤسَّسية، فإنَّ هذا الكيان تأسَّس على أساسٍ عقائديٍّ ديني، ويشهد الآن صعود الأحزاب الدينية المتطرِّفة إلى الحكم، ومع ذلك لم يعترض أحدٌ على تلك الخلفية الهوياتية لها، بل يتمُّ تركيز الاستهداف على البُعد الهوياتي للأحزاب السِّياسية في العالم العربية والإسلامي فقط.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!