-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فتاوى على الهوى

فتاوى على الهوى
ح.م

كتبت في هذا الموضوع بـ”الشروق اليومي” منذ سنوات، وكانت المناسبة حينها ظهور لفيف من المفتين على الفضائيات، يفتون على الهواء مباشرة في كل شاردة وواردة وكأنهم أحاطوا بفقه الأولين والآخرين، لا يعجزهم سؤال ولا تهزمهم مسألة ،ولكن تستمع إليهم فلا تجد في حديثهم أمارة من فقه ولا أثارة من علم، لا يمتازون عن العوام في شيء إلا في طريقة لباسهم و”الكوفية” التي يضعونها على رؤوسهم.

استمعت إلى ما يقوله هؤلاء المفتون على الهواء فقلت في نفسي: ألا يعلم هؤلاء المفتون الفاتنون أن الفتوى فن لا يتصدى له إلا العالمون الذين اجتمع لهم من علم اللسان وعلم البيان والحكمة وعلم الأحكام وعلم التأصيل وعلم التأويل ما لم يجتمع لغيرهم وأن الفقهاء الأربعة رغم غزارة علمهم وعلو كعبهم كان أحدهم يستفتى في مسألة فتعن له فيها شبهة فيرجئها إلى حين أو يعتذر لصاحبها حتى يحيط بها علما ويتبين له بشأنها الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ وقد أثر عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كانت تعرض عليه مسائل فيقول في أكثرها “لا أدري”، هذا حال الفقهاء العالمين العاملين الذين أدركوا أن الفتوى توقيع عن الله فتريثوا خشية أن يشملهم قوله تعالى: “ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا”، وقوله تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون”، ثم دار الزمان دورته فأصبحت الفتوى صناعة مستباحة يتصدى لها كل من هبّ ودبّ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ليس من المبالغة القول إن كثيرا من الفتاوى على الهواء هي في الحقيقة فتاوى على الهوى بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وحال بعض شيوخ القنوات الذين ابتليت بهم الأمة الإسلامية في هذا الزمان يؤكد ما أقوله تأكيدا قاطعا، فلا يملك أكثرهم حظا من علم اللسان ولا من علم البيان ولا من علم الأحكام ولا من علم التأصيل ولا من علم التأويل ومع ذلك تجدهم يتصدرون القنوات ومن الناس سمَّاعون لهم.

سمعت مفتيا على الهواء يردد حكم من سبقوه بأن “صوت المرأة عورة” هكذا باستغراق وإطلاق، فتذكرت ما قاله أستاذي وشيخي محمد الغزالي رحمه الله لمن حاججه في هذه المسألة: إن صوت المرأة خَلقٌ من خلق الله لا يوصف بكونه عورة إلا إذا شابهُ انكسارٌ متصنع وخضوعٌ متعمد يخالف الفطرة ويهيِّج الغريزة، وسرد في ذلك الوصية الإلهية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: “يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلنا قولا معروفا”، فلم ينه الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن القول بل نهاهن عن الخضوع في القول ما يحرك الشهوة ويهيج الغريزة، وها هو القرآن الكريم يقص علينا في سورة “المجادلة” قصة “خولة بنت ثعلبة” التي جادلت النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها فسمع الله قولها وخلد قصتها في القرآن الكريم: “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير”.

لقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن سؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من وراء حجاب، فحرَّم المعاينة ولم يحرِّم المشافهة: “.. وإن سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن”. وذكر الشيح محمد الغزالي رحمه الله لمجادله بأن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت من أكثر النساء رواية للحديث عن الرسول صلى الله عليه، وفي الرواية نطق ظاهر بالضرورة وليس في ذلك حرج مادام أنه لم يقترن بشيء من المنهيات التي سبقت الإشارة إليها. وهذه شهادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها: “ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة رضي الله عنها، إلا وجدنا عندها منه علما”.

القول إن صوت المرأة عورة باستغراق وإطلاق وما يشاكله ويشابهه من مثل الاستدلال بحديث: “الشؤم في المرأة والدار والفرس” من غير رجوع إلى أقوال أهل الرواية والدراية هو جناية مؤكدة في حق المرأة التي كرمها الإسلام في كل الأحوال فلا يُقبل ولا يُعقل أن يرد في نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي ما يسيء إليها ويمس بكرامتها، وتعجبني هنا مقولة ابن القيم في شرح الحديث سالف الذكر: “وقالت طائفة أخرى: الشؤم في هذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها وتطير بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشؤومة عليه. قالوا ويدل عليه حديث أنس “الطيرة على من تطير” وقد يجعل الله سبحانه تطيُّر العبد وتشاؤمه سببا لحلول المكروه به كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به”.

إن الأفكار السيئة والمسيئة إلى المرأة هي بيقين نتاج الفتاوى الجاهزة التي أفسدت صورة المرأة في الإسلام وصورت المرأة على أنها بضاعة مبتذلة وشر كله كما قال أحدهم: “المرأة شر كلها وشر ما فيها أنه لا بد منها”. هذا ما جنته الفتاوى الجاهزة التي يطلقها أشباه المفتين على الهواء لا يلقون لها بالا، فتاوى على الهوى أحدثت فتنة عامة وبلبلة عارمة في المجتمع الإسلامي وشكّلت مادة دسمة للدعاية الإعلامية المغرضة التي تستهدف النصوص الإسلامية وبخاصة تلك التي تتحدث عن مكانة المرأة في المجتمع.

لقد أخذت الفتاوى على الهوى منعرجا خطيرا في العصر الحاضر وتحولت إلى ظاهرة لافت للنظر أبطالها بعض شيوخ القنوات الذين بعثوا من طي النسيان، يحدثون الناس بأحاديث عجيبة وأحكام غريبة ما أنزل الله بها من سلطان، فقد سمعت أحدهم من مدة غير بعيدة في إحدى القنوات الفضائية يجيب السائلة المستفسرة عن كيفية قضاء رمضان لمن كان مريضا في رمضان بأن صيام الاثنين والخميس يمكن أن يجبر هذا ولا حرج في ذلك، فقلت في نفسي: أي مذهب هذا من مذاهب الفقهاء المتقدمين أو المتأخرين الذي يجيز جبر الفريضة بالنافلة؟ وأي شيخ هذا الذي يُصدر الأحكام جهلا أو تجاهلا فيضل ويضل ولا يشعر بذنب ولا بتأنيب ضمير؟.

إن وصف الفتاوى على الهوى هو وصفٌ حقيقي يمكن لأي مشاهد ومتابع لحصص الإفتاء التي تبثها بعض القنوات أن يتأكد من صدقه، فشيوخ هذه القنوات -الذين لا يصلح أكثرهم أن يكونوا متمرنين في السنة الأولى فتوى- يفتون بغير علم ولا يستحون ويحدثون المشاهدين -ومنهم العالم الحكيم والفقيه العليم- بأحاديث لا تستقيم مبنى ولا معنى علاوة على مخالفتها للقواعد الفقهية والأحكام الشرعية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • شخص

    خاصة في القنوات الخاصة (التي لا أذكرها بعينها لأني أعلم أنها ستحذف من التعليق) حيث يأتي أشخاص ليس لهم علم باللغة العربية دون الحديث عن التفسير و الفقه. إنه زمن الرويبضة بأسمى معانيه !