-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فرص الجزائر ضمن عالَمٍ يتشكَّل من جديد

ناصر حمدادوش
  • 1563
  • 0
فرص الجزائر ضمن عالَمٍ يتشكَّل من جديد

إنَّ المراقب السِّياسي يرصُد حجم التحوُّلات الإقليمية، وشَكْل التغيُّرات الدولية المتسارعة، التي تتَّجه إلى إعادة انتشار مراكز القوة في العالم، وإعادة تشكيل النِّظام الدولي من جديد، ومنها: موازين القوى الإقليمية والدولية في إفريقيا، وأهميتها الاستراتيجية على الصَّعيد العالمي.
وبالرغَّم مما يعترض الجزائر من التحدِّيات الداخلية والمعوِّقات الخارجية، إلا أنها تمتلك من المؤهلات ما يجعلها في صلب هذه القوى الصَّاعدة، ويمكنها أداء أدوارٍ رياديةٍ وسياديةٍ متقدِّمة في المستقبل، وهي التي تحوز مظاهر القوة التي تفرض عليها اللقاء مع قدَرها في الدورة الحضارية القادمة. فالمستحيل ليس جزائريًّا بأن تكون قوةً عظيمة في المستقبل، وذلك لعدة اعتباراتٍ جوهرية، لِمَا تتوفَّر عليه من إمكاناتٍ، منها:
1/ الإمكان التاريخي والحضاري: فالجزائر ليست شجرةً مقطوعةً من التاريخ والحضارة، فقد سبق لها أن تسيَّدت في هذا العالَم، وصنعت نموذجًا واقعيًّا وتجربةً تاريخيةً في الحضارة، فبالرَّغم من الرابطة الدِّينية بين الجزائر والخلافة العثمانية، التي امتدت لأكثر من 300 سنة من 1516م إلى 1830م، إلا أنها كانت تتمتع بكلِّ مظاهر السِّيادة والاستقلالية والقوة الذَّاتية عنها، خاصة في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، فانتزعت الاعتراف الدولي والأوروبي بسيادتها وخصوصيتها، ودفعت الجميع إلى التنافس في ربط العلاقات الدبلوماسية معها، وذلك لقوة بحريتها وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وقد أدت أدوارًا رئيسةً في مواجهة الأخطار الدولية: سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ما بوَّأها مقام السِّيادة على البحر الأبيض المتوسط بامتياز، فيقول المؤرخ الفرنسي “دي غرامون”: “لقد ظلَّت الجزائر طيلة ثلاثة قرون رُعب النَّصرانية وكارثتها، ولم تنجُ واحدةٌ من المجموعات الأوروبية من البحَّارة الجزائريين الجريئين، بل وأخضعت الجزائر لمهانة الضَّريبة السَّنوية: ثلاثة أرباع أوروبا، بل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية”، ولم تصنع الجزائر نموذجًا حضاريًّا في بُعده السّياسي والاقتصادي والعسكري فقط، بل تجلَّت روائع الحضارة الإسلامية فيها في بُعدها العلمي والاجتماعي والإنساني أيضًا، الذي مَثَّل انعكاسًا لافتًا لمدى السُّمو في ذوق هذه الحضارة، ومدى التقدُّم والرحمة التي بلغتها، ما منحها عُمْرًا أطولَ لثلاثة قرون.
ولتجذُّر هذا البُعد التاريخي والحضاري، استطاعت الجزائر أن تنهض من جديد سنة 1954م، وتكون قوةً عالميةً في التأثير في مواجهة الجيش الفرنسي والحلف الأطلسي في ثورةٍ مثَّلت مصدر إلهامٍ لكلِّ الثوار والأحرار في العالم.
2/ الإمكان السِّياسيّ: ورثت الجزائر بعد انتصار أكبر الثورات التحرُّرية في القرن العشرين سنة 1962م إرْثًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا كبيرًا من الشَّرعية والمصداقية والمكانة الدولية، إذْ تجاوزت إطارها المحلي والعسكري إلى بعدها الإنساني والعالمي، لانخراطها في مستقبلٍ غيرِ محدودِ الآفاق، إذْ لم تكن مجرد حرب استقلال، بل امتدت آفاقها إلى تحرير الأرض والإنسان وطموحات بناء الدولة وتحقيق النهضة والاستئناف الحضاري، وقد أكَّدت وثائق الثورة الاهتمام بالبُعد الخارجي والفضاء الإقليمي والدولي، مثل: تحقيق وحدة شمال إفريقيا، وهدف الاستقلال في الإطار الطبيعي العربي الإسلامي، وبناء الدولة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، فاستمرَّ نَفَسُها الثوري وامتدَّ- كظاهرةٍ تاريخيةٍ مستمرة- في دعم المسار التحرُّري للقضايا العادلة في إفريقيا والعالم، والكفاح من أجل حقِّ الشُّعوب في تقرير المصير، والاستماتة في تصفية كلِّ أشكال الاحتلال والاستعمار، فكانت كعبة الأحرار وقبلة الثوار، وكانت سببًا في تحرير الكثير من البلدان الإفريقية، واحتضان حركات التحرُّر والمنظمات المناهضة للعنصرية، ففرضت فاعليتها في “منظمة الوحدة الإفريقية” و”حركة عدم الانحياز” و”هيئة الأمم المتحدة”.
لقد كانت الجزائر سبَّاقة في ربيعها العربي ضمن حيويتها السِّياسية في أحداث أكتوبر 1988م، ودخولها في إصلاحاتٍ دستوريةٍ عميقة، تمثَّلت في التعددية السِّياسية والإعلامية والجمعوية وتغيير نهجها الاقتصادي، وبالرَّغم من المأساة الوطنية والعشرية السَّوداء، إلاَّ أنَّ تجربتها في مكافحة الإرهاب، وتحقيق المصالحة الوطنية والأمن والاستقرار، وفكِّ العزلة الدولية والقضاء على المديونية الخارجية مكَّنتها من العودة التدريجية.
ثمَّ كانت المحطة السِّياسية للحراك الشَّعبي المليوني السِّلمي في 22 فيفري 2019م، التي متَّعتها بمؤهِّلاتٍ للحضور والعودة إلى السَّاحة السياسية والدبلوماسية الإقليمية والدولية، وبالرَّغم من الانقسام الدولي على خلفية الصِّراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا، وأزمة الطاقة والغذاء في العالم، إلاَّ أنها حافظت على علاقاتها المتوازنة مع كلِّ من روسيا والصِّين وتركيا وإيران ومحور المقاومة وطموحات الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، وبين علاقاتها مع الغرب (أمريكا وأوروبا)، بل وحصولها على العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن، وطرح نفسها وسيطًا في الحرب الروسية- الأوكرانية، والأهمية القصوى لموقفها من الانقلاب في النِّيجر، والتحذير من احتمالية التدخُّل العسكري فيها.

3/ الإمكان الاقتصادي: تمتلك الجزائر كلَّ المؤهلات والفرص للاستثمار من أجل نهضةٍ اقتصاديةٍ حقيقية، ومنها:
– المؤهلات الطاقوية: إذْ تتنوَّع مصادر الطاقة في الجزائر مما جعلها من أغنى الدول في العالم، فهي تحتل المرتبة 10 عالميًّا في احتياطيات الغاز الطبيعي والرابعة عالميًّا في تصديره، وتحتل المرتبة الثالثة إفريقيا و16 عالميًّا في احتياطيات النفط، وتحتل المرتبة الثالثة في الموارد غير التقليدية (الغاز الصخري والنفط الصخري)، بالإضافة إلى أنواعٍ عديدةٍ من الثروات الطبيعية، مثل: الذهب والفحم والحديد والزنك والفوسفات.. وغيرها.
– المؤهلات الفلاحية: التي سمحت لها بتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتقليل فاتورة الاستيراد، وتنويع الصادرات خارج المحروقات، والمساهمة في الناتج الداخلي الخام، إذْ تبلغ المساحات الصالحة للزراعة نحو: 8.5 ملايين هكتار، و20 مليون هكتار من السُّهول، و1200 كلم من الشريط الساحلي، و09 ملايين هكتار من فضاءات الصيد البحري، و4.2 ملايين هكتار من الغابات.
– الإمكانات السِّياحية: فهي من بين أهمِّ الدول في العالم التي تحوز إمكانات سياحية متنوعة، لما تتمتع به من خصائص جغرافية وتاريخية، فهي قلب الحضارات القديمة، وهي عروس البحر المتوسط، فهي تتوسط أوروبا وإفريقيا، وتمتد حضارتها إلى عمق التاريخ، ما جعلها تزخر بمواقع أثرية، ومزارات دينية، ومناظر طبيعية، ومصبَّات مائية، وسواحل شاطئية، وهضابٍ عالية، وجبالٍ شامخة، وصحراءٍ ممتدة، وهو ما أهَّلها لأن يجتمع فيها ما تفرَّق في غيرها من أنواعٍ كثيرةٍ من السِّياحات، مثل:
الدينية والجبلية والصَّحراوية والسَّاحلية والصِّحية المعدنية..
_ المشاريع العملاقة تجاه إفريقيا، منها:
/ الطريق العابر للصحراء (طريق الوحدة الإفريقية سابقًا)، وهو نافذة الجزائر على إفريقيا، الذي يربط عواصم ست دول، وهي الجزائر وتونس وتشاد ومالي والنيجر ونيجيريا، الذي يبلغ طوله بتشعباته: 9400 كلم، ويفكُّ العزلة عن نحو 400 مليون نسمة.
/ مشروع الألياف البصرية المحورية العابرة للصحراء: وهو المشروع الشقيق للطريق العابر للصحراء، الممتد على مسافة 4350كلم، الذي يربط بين نيجيريا والجزائر لتسهيل الاتصال بالإنترنت، والاستفادة من خدماتها، ومنها: تطوير الاقتصاد الرقمي، وقد أنجزت منه الجزائر 2650 كلم إلى غاية حدود النيجر.
/ خط الغاز الرابط بين نيجيريا والنيجر والجزائر وأوروبا: الذي أعيد بعثه يوم 28 جويلية 2022م، بغلاف مالي يصل 13 مليار دولار، ويزوِّد أوروبا بنحو: 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري سنويًّا، الذي يبلغ طوله 4128 كلم.
/ التنقيب عن النفط في إفريقيا: إذْ تُعدُّ شركة سوناطراك الرائدة على المستوى الإفريقي في مجالها، وقد تحوَّلت إلى العمل على تطوير احتياطات البترول في بلدان إفريقية عديدة، منها: مالي، مصر، تونس، ليبيا، موريتانيا، النيجر.
4/ الإمكان الأمني والعسكري: يظل الموقع الجغرافي الاستراتيجي للجزائر، والثقل التاريخي للجيش الجزائري، والتجربة الأمنية الجزائرية في مكافحة الإرهاب يُلهِم الدور الجزائري في الفضاء الجيوسياسي في إفريقيا، وخاصة بعد تنامي التهديدات والمخاطر الأمنية في منطقة السَّاحل، ما يفرض عليها إدراك “الدور” كمعطى استراتيجي في العلاقات الدولية، وامتلاك عنصر القوة والتأثير في العمق الاستراتيجي في علم الجغرافيا السياسية، فهي في قلب المعادلات الأمنية التي تفرض نفسها كفاعل رئيس وقوة أساسية في مصير أكثر المناطق حيوية في إفريقيا والعالم. ويُصنَّف الجيش الجزائري 26 عالميًّا، و03 عربيًّا، و02 إفريقيَّا، والأول مغاربيًّا، وذلك من حيث: العتاد العسكري، وعدد القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية، والمساحة الجغرافية والموارد الطبيعية وميزانية الدفاع.
5/ الإمكان الجغرافي والاستراتيجي: فهي أكبر بلدٍ أفريقيٍّ وعربيٍّ من حيث المساحة والعاشرة عالميًّا، ورابعُ أكبرِ اقتصادٍ في القارة السَّمراء، وبمديونيةٍ خارجيةٍ معدومة، ما يمنحها السِّيادة والاستقلالية في القرار، وهي تُصنَّف ضمن الدول المحورية في العالم، لِمَا لها من تأثيرٍ مصيريٍّ على دول الجوار، وهي دولةٌ مركزيةٌ للاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط، والوصل بين إفريقيا وأوروبا، وهي الآن في منحى تصاعديٍّ وتكامليٍّ إفريقيًّا وإقليميًّا.
كما تتمتع الجزائر بالعقول الأكثر عددًا وابتكارًا وفاعليةً وتنافسيةً داخل الوطن وفي الجالية عمومًا وفي الغرب خصوصًا، من حيث الإحصائيات والتخصصات، وهي ثروةٌ عظيمةٌ وكنزٌ استراتيجي يمكن الاستفادة منه، بتوفير بيئة الاستثمار والابتكار وخلق قطبٍ تكنولوجيٍّ كبيرٍ في العالم.
لا يمكن صناعةُ أيِّ نهضةٍ وقصةِ نجاحٍ تنمويةٍ إلا بإرادةٍ سياسيةٍ قوية، وبرؤيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ ضمن إطارها الحضاري، تبدأ بالتمتُّع بمعايير الحكم الرَّاشد، وعلى رأسها: الديمقراطية والحرِّية والشَّفافية والمساءلة والمحاسبة واستقلالية القضاء وسيادة القانون، كما أنَّ الاقتصاد العالمي أصبح موحَّدًا، وهو ما يفرض الاندماج فيه، بخلق بيئةٍ استثماريةٍ محفِّزةٍ للرأسمال الوطني والأجنبي، وتفعيل القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية كالصناعة والفلاحة والسِّياحة والخدمات، والتحرُّر من التبعية للخارج وللمحروقات، والاستفادة من المؤشرات الطبيعية والبنية التحتية، ومؤشرات التنمية البشرية والاستقرار السِّياسي، ورفع تنافسية الاقتصاد الوطني إلى مستوى المعايير العالمية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!