-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قراءة في أشكال رمضانية

التهامي مجوري
  • 2428
  • 4
قراءة في أشكال رمضانية

في هذا الشهر –شهر رمضان المبارك- من كل عام تظهر ببلادنا الجزائر معه جمعة من العادات الاجتماعية، في أشكال ثابتة خاصة بهذا الشهر عبادة الصوم المفروضة فيه، تجمع بين التقديس لهذا الشهر المبارك ولعبادة الصوم، والاستهانة بما يحقق العبادة على وجهها الصحيح، الذي أراده الله من المكلف. والشكل الجامع بين هاتين الوجهتين لا يعبر إلا عن جهل بعبادة الصوم، وتتبع للهوى والجري وراء العادات المتوارثة، رغم ما في بعضها من الإيجابيات.

أول هذه الأشكال أن المدمن على الخمر في عرف الجزائريين، يترك شرب الخمر أربعين ليلة قبل رمضان، طمعا في أن يقبل الله صيامه، ولا أدري أهي موجودة في غير الجزائر من البلاد الإسلامية أم لا؟ ورغم أن لا علاقة عضوية بين شرب الخمر قبل رمضان، وفريضة الصوم، فإن الجزائري توارث هذا العرف، وهو أن المدمن على الخمر، لا يقبل الله صومه إلا إذا أمسك مدة 40 يوم قبل الصوم. والعجيب أن أهل الخمر يستجيبون لهذا العرف، ولكن بعضهم في صبيحة شوال ربما قضى ما فاته من شرب خلال الشهر.

لقد بحثت في أصل هذا العرف، ولم أجد له أصلا شرعيا؛ لأن الأصل في التكاليف الشرعية، هي أن المكلف يحاسب على كل فعل وحده، فيحاسب  المخمور على خمره والصائم على صومه، ولكن ربما كان أصل هذا العرف، أن الخمر من كبائر الذنوب، وبعض الكبائر جاءت فيها نصوص تقول من فعل كذا… –من هذه الكبائر- لا يقبل الله عمله أربعين ليلة، كفعل السحر مثلا..، وربما بعض الناس في فترة زمنية ما ألحق معصية الخمر بتلك الكبائر، ثم ارتبطت بعبادة الصوم في عرفنا الجاري، الذي يتساهل مع ترك عبادة الصلاة ولكنه لا يتسامح مع المفطر في رمضان.

الشكل الثاني وهو المداومة على صلاة التراويح، فالجزائري يداوم عليها كالمداومة على الصلاة المفروضة، رغم أن هذا الصائم المداوم على التراويح قد لا يدخل المسجد في غير هذه الأيام إلا أيام الجمعة، ربما لاعتقاده الارتباط العضوي بين فريضة الصوم وصلاة التراويح، بينما التراويح هي من السنن التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يداوم عليها..، والاعتقاد في هذه العادة، يستنكر على من تركها ويعاتب، بما لا ينكر عليه ويعاتب إذا قصر في حضور صلاة الجماعة مثلا   !!

الشكل الثالث، وهي ان الجزائري المريض يصعب عليه الأخذ برأي الطبيب الذي يقول له إن مرضك يستوجب الإفطار، تقديسا لعبادة الصوم؛ بل لا يخضع لتوجيهات الطبيب إلا عندما يتضرر مباشرة بسبب الصوم، أما إذا لم يشعر بضرر ظاهر فلا يلتفت إلى التوجيهات الطبية؛ بل أكثر من ذلك النساء الحُيَّض اللائي يحرم عليهن الصوم أصلا، ومع ذلك تجد بعضهن، يمسكن طيلة اليوم ولا يفسدن الصوم إلا بشربة ماء أو أي شيء ينفي الحرمة فقط، وإلا فالمرأة تجدها مع بناتها وأخواتها ممسكة، وكأنها متضامنة مع الصائمين؛ لأنها لا تستسيغ الإفطار في رمضان.

عرفت أستاذا مصاب بالسكري ومرض القلب وهو رجل مسن قد بلغ من العمر الثمانين، لما قرب رمضان قال له طبيبه الذي يتابع معه، لا ينبغي أن تصوم؛ لأن جسمك يحتاج إلى الغذاء الدائم، ومع ذلك عصاه لأنه كما قال إنني لا أشعر بالجوع… ورغم أن ما يفهم من كلام الطبيب أن القضية متعلقة بحاجة الجسم وليس بمجرد الشعور بالجوع، والمرء عندما يتقدم في السن، فإن شهوة المطاعم تضعف عنده، فيمكن ان لا يشعر بالجوع ولكن جسمه يحتاج إلى بعض المواد المغذية.

الشكل الرابع، السهر بالليل والتزاور بين الأصحاب والأقارب، وهي عادة فيها وعليها؛ لأنها بين سلبية وإيجابية، اما السلبية فإن السهر يؤثر حتما على حركة الإنسان في النهار، واما الإيجابية فهي التزاور الذي هو سنة حميدة في تمتين العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة والأسر المتعددة,

ولكن الظاهر ان السهر من الناحية النفسية بالنسبة للصائم وكأنه يريد تعويض ما فاته خلال صيام اليوم من متعة الأكل والشرب مما لذ وطاب، فيسهر ويتنقل هنا وهناك، وفي كل محطة يسجل موقفا انتقاميا من الحرمان الذي فرضه عليه الصوم، فهنا يشرب شايا وهناك يأكل “قلب اللوز” وهنالك يأكل “زلابية”، و”تشاراك” وغير ذلك من الحلويات، المرتبطة هي الأخرى بشهر رمضان.

إن هذه المظاهر متشابكة مترابطة، ولها من الإيجابيات الكثير، ولكن عيبها أنها كما ذكرت سلبياتها البعدية مؤثرة.. ولذلك نجد أن التزاور في الأيام العادية يكون في أيام الإجازات ولياليها وليس في أيام العمل، ولكن الذي يبدو ان خصوصية الصوم تفرض قيما أخرى من الترويح على النفس بعد معاناة الصوم التي يتعرض لها خلال اليوم والله أعلم.  

الشكل الخامس، هو ان الصائم في الجزائر ينطلق من بيته إلى عمله “تعبان” من البداية، ويحمل نفسَهُ على الذهاب إلى العمل وهو “نصف نائم”، فمن ناحية هو الآن يمر بحالة غير معتادة؛ لأن عادته يستيقظ فيتناول فطور الصباح، ويشرب قهوة، ويخرج من البيت وقد انتبه جيدا و”صحصح” كما يقال، أما الآن فلا فطور ولا قهوة ولا أي شيء، طعم ريقه هو الطعم الذي استيقظ به من النوم، ومن ناحية السهر الليلي القادم مع رمضان وهو غير معتاد، ومن ناحية ثالثة أن الصائم يحمل في ذهنه من بداية اليوم، الصعوبة التي سيواجه بها يومه، وكأنه مقبل على معركة يشعر فيها بالهزيمة ابتداء.. فسرعان ما ينام وهو جالس على كرسي في الحافلة، وسرعان ما يشرد ذهنه وهو يتكلم أو يستمع لغيره..

وهذا الشعور بالهزيمة أمام سلطة وغلبة شهوة الأكل والشرب، التي فرضت نفسها عليه خلال 11 شهرا، ينال منه لأنه يحتاج إلى وقت طويل إلى تحوُّل عادة الأكل والشرب والتحرر من الالتزامات المعتادة، وإلا فإن العادات كلها مكتسبة، ولذلك نجد ان الذين ألفوا الصوم لا يشعرون بكل هذه الأمور التي ذكرناها، لمجرد أنه ألف الصوم.

الشكل السادس، وهو الأسوأ على الإطلاق، ألا وهو النرفزة والعراك، وهو أن سلبيات هذا الشكل متعدية إلى إيذاء الغير وليست قاصرة على صاحبها، فالمرء في ذلك يؤذي الناس بسلوكه، فيغضب لأتفه الأسباب، ويعتدي علي غيره بالكلام أو بالضرب. ورغم أن هذا النوع من السلوك هو في طريقه إلى الانقراض؛ لأن الناس بدأوا يتفاعلون مع هذه الظاهرة بالاستهزاء والسخرية.. كأن يعلقوا على صائم منرفز بقولهم “دعه إنه صائم”، أو اتركوه إنه صائم…، ومع ان الظاهرة قلت في الشوارع، لكن آثارها لا تزال قائمة في البيوت في الأسر، بين الأزواج، وبين الأباء والأبناء.

وأخيرا التشهي.. فالصائم في بلادنا يبدو وهو ينظر إلى الأشياء بين يديه، وكأنه عاشق لها ولهان بها.. فلا تكاد تغادر عينه الخبزة المزوقة والمنمقة حتى يأخذ منها ما تقر بها عينه، ولا يخرج من السوق، إلا ومر بالسمك واشترى منه ومر بالفواكه إلا وأخذ منها ما يكفيه وزيادة…. ليدخل إلى بيته محملا بالكثير من المشتهيات التي حضَّرتها وأعدتها ربة البيت فيما بعد.. ولكن السيد الصائم لا يكاد بأكل منها شيئا؛ لأنه لما اشتراها كان صائما يأكل بعينية.. والعين لا تَشْبَع ولا تُشْبِع.

لا شك أن في بعض هذه العادات خير وتفاعل إيجابي مع فريضة الصوم وقداسة هذا الشهر المبارك، إلا أن المطلوب من المجتمع المسلم هو التفاعل مع عبادة الصوم بما شرع الله سبحانه من شرائع متعلقة به، والتفكير والتدبر في الصوم الذي يقبل الله وليس في الأشكال الشهوانية التي تحقق بعض المكاسب الاجتماعية وفق ما تشتهي النفس ورغبات الهوى البعيدة عن مراد الله سبحانه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • نورالدين الجزائري

    الكثير منا يملئ المائدة بكل أنواع المأكولات بالله عليكم و أتحدى أي واحد هل أكملت تلك الأطعمة جميعا و رميتها في بطنك أم رميتها في كيس أزرق ؟ في رمضان تزيد أكياس النفايات و يفرغ كيس المال الصغير ، نحن نستورد القمح من الخارج بالعملة الصعبة هل رمضان جاء لشقوتنا حتى نقسم ظهر البلاد ؟ إلى جانب هذا نتحصر أو نبكي على الوقت الغالي الذي نضيعه في المطابخ و بالنوم الطويل في المساجد ترى الناس مستلقين على كل جوانبهم و كأنهم رموا بمهلك فأماتهم ! لماذا هذا الجهل المركب في فهم الصيام ليصبح علينا نقمة عذاب مصيبة؟

  • نورالدين الجزائري

    من هذه السموم: سكر مصطنع زيت غير حقيقي و شحم كارثة في تدمير الجسد! و كأننا في حالة حرب طوارئ و مجاعة ، و كأن الأمة لا تعرف الطعام و إستهلاكه إلا في هذا الشهر الذي يعادي مانرى فإننا بهذه العقلية ندمر معانيه نستهلك الأطنان من الأطعمة نصفها يبقى على الموائد و نرمي بالأطنان من الخبز في الزبال لا يعلم بها إلا الله تعالى و لا يعلم بغضب الله علينا إلا هو! إستهلاك مفرط مهلك مهول أضعاف ما نستهلكه خارج هذا الشهر ، و هذا لا يهلك جيب المواطن الضعيف و لا يغضب الخالق بل يتمادى لتدمير ما بقي من إقتصاد المهلهل!

  • نورالدين الجزائري

    صوموا تصحوا أم صوموا تهلكوا ؟!
    الكاتب المحترم ذكر هذه الخصال التي تعتبر سلبية أو خرفات صدقها الناس لطول عمرها ! هل الصوم نعمة أم نقمة علينا ؟ ما ألاحظه في الإعلام الأسواق و ما يتداوله الصائمون بينهم هو نظرة جشعية لا تسمع عن حقيقة الصوم إلا الأطعمة و أطباقه المتنوعة، و الإعلام مسخر كل جهده في إظهار الأسواق المملوءة و المحلات و ما فيها من سكر مكدس و زيت متنوع و هو العكس الذي يجب أن يكون تماما ! الصوم في جوهره أن يجوع العبد و يعطش و يحس بهما و إلا فلا حكمة نقتنيها من الصوم ، لابد من الأسواق أن تقل

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا أستاذ
    .. في كل محطة يسجل موقفا انتقاميا من الحرمان،
    كلام راقي، قوي وفي الصميم ؟
    رمضان كريم
    شكرا