-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كرة القدم تنشئة اجتماعية كذلك!

كرة القدم تنشئة اجتماعية كذلك!

لم أكن مستعدا لمتابعة فريقنا الوطني مرة أخرى في أي مقابلة كروية من المقابلات، فقد سبّب لي لقاؤه ضد فريق الكامرون أزمة نفسية غير عادية، خرجت يومها حافي القدمين لا أدري إلى أي اتجاه كنت ذاهبا، دمعت عيناي لتلك الخسارة، خاصة أن هدف الكامرون جاء في اللحظات الأخيرة من نهاية المقابلة. حزنت كثيرا، كنت أتمنى أن يشارك فريق بلادنا في مونديال قطر، خاصة وأنه أول مونديال في التاريخ ينظم على أرض عربية، وقد يكون الأخير، تمنيت أن أتابع أبناء الجزائر يحققون نتيجة خيالية في هذا المونديال، نسعد بها وتسعد بها بقية الشعوب العربية، ولكن، كان الذي كان، وحدث الذي حدث، وقدّر الله ما شاء فعل.

يحدّثني أحد الأبناء -يدرس في مرحلة الثانوية وهو من مواليد السويد- أبي؛ لابد أن نذهب ونشاهد المباراة، سألته مازحا: ومن ستناصر من الفريقين؟ قال: الجزائر طبعا يا أبي، سأسعى لالتقاط صور مع اللاعبين ومع الراية الوطنية، سأرتدي القميص الذي اشتريت لي، قميص المنتخب الجزائري، سيكون يوما ممتعا، سنعلّم السويديين أدبيات كرة القدم. يضيف أخوه الأصغر -من مواليد السويد كذلك- وأنا كذلك سأذهب معكم، سأهتف بحياة الجزائر، وبعد العودة سأخبر أصدقائي في المدرسة بأننا فزنا على السويد، وأن للجزائر فريقا قويا في كرة القدم.

فكرت مليا في هذا الحوار، أذهب عني بعض الإحباط والحزن الذي سكنني لفترة، أعاد لي الرغبة والأمل، فتح لي زوايا لم أكن أراها، فرض عليّ أن أعيد النظر فيما قررت، أن أطرح بعض التساؤلات، خاصة هذا التساؤل المهم: من دفع أبنائي للتفكير بهذه الطريقة الإيجابية حول الفريق الوطني؟ لماذا اختاروا مناصرة الجزائر وهم من مواليد السويد والجالية الجزائرية فيها ليست بذلك العدد الكبير؟ أسئلة مهمة تحتاج مني والأكيد من العديد من الآباء ممن يقيمون في بلاد الغرب أن يفكروا فيها. ولهذا قررنا الذهاب لمناصرة فريقنا الوطني، وأن يكون سفرنا للنزهة والمتعة والترويح عن النفس.

يعتقد الكثير بأن التنشئة الاجتماعية تنحصر فقط بين زوايا ذلك المثلث المقدس: الأسرة، المسجد، المدرسة، والحقيقة غير ذلك بتاتا، فكرة القدم والرياضة عموما هي نسق من أنساق التنشئة الاجتماعية، فتحقيق المنتخب الوطني لنتائج ايجابية يدفع بالأطفال إلى التقليد والاطلاع، تقليد اللاعبين في نجاحهم، ومزيدا من الاطلاع على حياتهم وبالتالي التعرف على الجزائر، على مدنها، تاريخها، جغرافيتها، على حربها الطويلة ضد فرنسا المستعمِرة، وبالتالي المساهمة الفعّالة والايجابية في التعريف بها لدى أصدقائهم من الجاليات الأخرى.

ليس هذا فقط، وحتى احتكاكهم في الملاعب مع أبناء الجالية الفلسطينية، فتح في أذهانهم العديد من الأسئلة: لماذا يصّر المناصر الجزائري على رفع العلم الفلسطيني؟ ما معنى الهتاف بعبارة: فلسطين الشهداء؟ لماذا يشجع الفلسطينيون أو أغلبيتهم الفريقَ الجزائري؟ لما هذا الحب والاحترام والتقدير بين الجاليتين؟ أسئلة عديدة تفرض نفسها على كل عاقل، خاصة الأطفال وهم في سن البحث عن الهوية والتعرف على الذات، في سن السعي لوضع الإيجابيات الصحيحة عن الأسئلة المرئية والمسموعة، عن كل الأسئلة العالقة.

لقد رأيت في هذه المقابلة، كما رأى أبنائي، تلك الحماسة والأهازيج التي تصدر من أفواه الجالية الجزائرية القادمة من كل أنحاء أوروبا، أهازيج تتحرك لها المشاعر، تبني في نفوس سامعيها حب الوطن والاعتزاز به، أهازيج ترفع من الوعي وتقوي روابط التواصل وتغذي روح الأخوَّة أكثر مما تفعله اليوم مئات الكتب، وآلاف المقالات، فمن بقى يقرأ في هذا الزمن، زمن الصورة والإعلانات التي تحوي مفاهيم جد عميقة ؟!.

لقد سعدت كثيرا برفقة أبنائي من أجل مشاهدة هذه المقابلة، سعدت لأن قرار السفر -خاصة وأن مدينة مالمو تبعد عن مدينة الإقامة ستوكهولم ما يقارب 620 كلم- كان قرارهم، والرغبة كانت رغبتهم، ومناصرة الفريق الوطني كان اختيارهم.

حتى احتكاكهم في الملاعب مع أبناء الجالية الفلسطينية، فتح في أذهانهم العديد من الأسئلة: لماذا يصّر المناصر الجزائري على رفع العلم الفلسطيني؟ ما معنى الهتاف بعبارة: فلسطين الشهداء؟ لماذا يشجع الفلسطينيون أو أغلبيتهم الفريقَ الجزائري؟ لما هذا الحب والاحترام والتقدير بين الجاليتين؟ أسئلة عديدة تفرض نفسها على كل عاقل، خاصة الأطفال وهم في سن البحث عن الهوية والتعرف على الذات.

إنها تنشئة اجتماعية لا تصنعها الملايين من الخطب والمحاضرات والندوات، وقد أصبح، في اعتقادي، الاهتمام بأبناء الجالية الجزائرية في الغرب أولى الأولويات، فهؤلاء الأبناء، منهم في المستقبل من يصبح مدير شركة، ومؤسس شركة، وصاحب استثمار، وربما وزيرا أو مسؤولا كبيرا في الدولة التي وُلد بها، أو باحثا، أو عالما، أو دبلوماسيا كبيرا، أو صحفيا مقتدرا، أو رياضيا مميزا… وكل هذا لابد أن يسير في صالح بلد الأم، والدولة الذكية هي التي تحتوي كل هذا، وتستثمر في كل هذا، الدولة الذكية هي التي تستطيع أن تبني جدارا حصينا ليدافع عن سيادتها واستقلالها السياسي ويخلق لها روافد للاستثمارات الاقتصادية والتجارية المختلفة، وعن طريق أبناء الجزائر في كل مكان، تأتي بالتكنولوجيات المختلفة وتطور من بحثها العلمي ومن جامعاتها في كل التخصصات.

إنها الرياضة عموما، إنها كرة القدم خصوصا، فلابد من المثقف أن تكون لديه سعة النظر، أن يكون متحررا من نمطية التكوين القديم، فكرة القدم تنشئة اجتماعية كذلك، وفعاليتها كبيرة ومجدية، فقد سبقت العديد من الأنساق المكوِّنة للمجتمع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!