-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا نصرّ على جعل الاستثناء أصلا؟!

سلطان بركاني
  • 1169
  • 0
لماذا نصرّ على جعل الاستثناء أصلا؟!

معلوم من قواعد الشّرع أنّ الأحكام تجري على الغالب، والنّادر له حكمه الخاصّ، وعندما تُعرض القضايا والمسائل فإنّها تعرض بالنّظر إلى الغالب الأعمّ المندرج تحتها، ولا يلزم من ذلك عند كلّ العقلاء أن تجري الأحكام على كلّ الأحوال الخاصّة، فهناك دائما استثناءات وأحوال شاذّة لها حكمها الخاصّ.. لكنّنا في الواقع قلبنا هذه القاعدة وجعلنا الاستثناء أصلا والغالب استثناءً؛ تُعرض أمامنا الأحكام العامّة فنصرّ على نقضها بالاستثناءات والأحوال الخاصّة!

يحدث أن تستنكر ما يحصل في الواقع من أوضاع ومظاهر وأحوال يفترض ألا يصار إليها إلا عند الحاجة والضرورة، فتجد من يقابلك بالحديث عن الحاجة والضرورة كأنّهما الأصل الذي يجب النّظر إليه والحكم على الواقع بناءً عليه؛ تُنكر -مثلا- صنيع من يبحث عن أوهى الأعذار ليغيب عن عمله؛ فيقابلك من يقول لك بكلّ ثقة: “ولكنّ هناك من يسكن بعيدا عن مكان عمله، ومن لا يمكنه الالتحاق بعمله لسوء الأحوال الجوية”! فيجعل الاستثناء أصلا، وينبني عليه -حسبه- أنّ كلّ مستهتر بالحضور إلى مكان عمله، ينبغي أن يعذر ولا يعاتب!

تتحدّث مستنكرا عن العمّال والموظّفين الذين يتملّصون من أعمالهم ويعاملون النّاس بتكبّر وجفاء في المستشفيات والإدارات، فيقابلك من يقول لك: “ولكنّ هناك من يعملون ساعات إضافية ويتفانون في أعمالهم ولا ينالون حقوقهم كاملة”، ومؤدّى كلامه أنّنا لا ينبغي لنا أن نستنكر التسيّب والإهمال المستشري في كلّ مكان، بحجّة أنّ هناك فئة من العمّال يُكلّفون ما هو فوق طاقتهم ويأخذون ما هو أقلّ من حقوقهم!

تتحدّث أو تكتب مستهجنا كثرةَ نزول النّساء إلى الأسواق بشكل يوميّ، وكثرة تطوافهنّ على المحلاّت لتتبّع الجديد في عالم الموضة والبريستيج، فيواجهك من يقول لك: “هناك من النّساء من لا تجد من يقتني لها حاجياتها، وهناك حاجيات خاصّة بالنّساء لا يليق أن يتولّى الرّجال اقتناءها”! وهذا استثناء له حكمه الخاصّ بصاحبة الحاجة والعذر، ولكنّ المعترِض يريد أن يقول: ما دام هناك من تخرج للحاجة، وما دمنا لا نعلم من تكون معذورة ممّن لا تكون كذلك، فلا يحقّ لأحد أن ينكر على النّساء خروجهنّ اليوميّ إلى الأسواق ومخالفتهنّ أمر ربّهن: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾!

تتحدّث عن انتشار الحجاب المتبرج وحجاب المُوضة؛ فيواجهك من يقول لك: “هناك من يلبسن الحجاب الواسع لكنهنّ أسوأ حالا ممّن يلبسن الضيّق”! وبنبني على ذلك -وفق تصوّره- أن يكون الحجاب الواسع مثل اللباس الضيّق!

تتحدّث عن ظاهرة هجر المساجد؛ فيواجهك كثير ممّن يقولون لك: “هناك من يصلّي في الصفّ الأوّل لكنّه يأخذ حقوق النّاس ويسرق”! وينبني على ذلك -حسبهم- أنّ الصلاة في المسجد والصّلاة في البيت سيان، بل لا فرق بين من يصلّي ومن يترك الصّلاة! ولو سألت أحدهم: هل تجزم أنّ كلّ من يصلّون في المسجد يسرقون ويغشّون؟ كم نسبة من يسرقون ويغشّون بين رواد المساجد؟ وهل أولئك الذين لا يصلّون في المساجد معصومون من السّرقة؟

هذا التّفكير المنكوس، أضحى مستشريا في الأوساط العامّة والخاصّة، وأمسى حاملوه لا شغل لهم إلا التشغيب على كلّ آمر بالمعروف ناه عن المنكر، وقد أصبح من الضّروريّ أن يواجه هذا التّشغيب المبنيّ على الجهل والهوى بالعلم والعقل والحكمة، ويعلّم النّاس أنّ الشّرع والعقل يبنيان الأحكام على الغالب، ويجعلان للاستثناء حكمه الخاصّ، وحكم الخاصّ لا يصحّ أن يعمّم على الغالب.. ينبغي أن يتعلّم النّاس أنّ {كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِینَةٌ}، وكما أنّ صاحب العذر لا يعامل معاملة غير المعذور، فكذلك غير المعذور لا يصحّ أن يأخذ حكم صاحب العذر والحاجة.

إنّنا حين نصرّ على تعميم الشاذّ لنجد لأنفسنا الأعذار في التماهي مع الواقع والسّباحة مع التيار، لن نخدع ولن نضرّ إلا أنفسنا، وقلبُ الأمور لن يصلح حجّة لنا يوم الحساب، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.. الحقّ واضح بأدلّته النّقلية والعقلية، ومن أبى إلا أن يلتمس لنفسه الأعذار والمبرّرات، فقد يجد بعض الراحة المؤقّتة في نفسه لبعض الوقت، لكنّه سيندم مرّتين، في الدّنيا حين يجني حصاد تعلّله، وفي الآخرة حين يجد الأمر على غير ما كان يتوقّع: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!