-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ليس كلُّ النّاس أهل تفريط مِثلَنا

سلطان بركاني
  • 925
  • 2
ليس كلُّ النّاس أهل تفريط مِثلَنا
أرشيف

في خضمّ استشراء الغفلة والتّفريط في واقع المسلمين في هذا الزّمان، كثيرا ما تسوّل النّفس الأمّارة بالسّوء لأحدنا أن ينظر في أمور دنياه إلى من هم فوقه من أصحاب الأموال والمناصب، وينظر في أمور دينه إلى من هم دونه من أهل التّفريط والتّسويف، ليجد لنفسه الأعذار والمبرّرات ليستمرّ في غفوته وتهاونه في حقّ خالقه، وتقصيره في حقوق من هم حوله، فإذا ما تُليتْ عليه بعض الآيات وقرئت عليه بعض الأحاديث التي تحثّ على الاجتهاد في طاعة الله وتحذّر من مغبّة التّفريط في جنب الله، أو بمواقف عبادِ الله الصّالحين في أزمنة مضت، تعلّل بأنّ زماننا هذا ليس كأزمنة مضت، زمان فتن وشهوات، والالتزام فيه صعب.

يتعلّل المفرّط فينا بهذا وينسى أنّ حوله في هذا الزّمان عبادًا صالحين؛ يتّقون الله، ويحذون حذو الأولين في صلاحهم وحرصهم على طلب رضا الله؛ لم تلههم الدّنيا، ولم تُغْرهم الشهوات، ولم ينساقوا للفتن، غاية همّ الواحد منهم أن يزداد في كلّ يوم قربا من الله، وأن يكون له في كلّ باب من أبواب الخير والأعمال الصّالحة حظّ ونصيب.. ليسوا عبادا معصومين، لكنّهم لا يصرّون على أخطائهم ولا يرتضون الغفلة أن تطبع على قلوبهم.

إذا كان الواحد منّا لا يصلّي الصّلوات الخمس في أوقاتها إلا مع مشقّة وعناء، ولا يعرف قيام اللّيل إلا في رمضان، فإنّ لله عبادا في زماننا هذا يقومون اللّيل في رمضان وفي غير رمضان، وينصبون الأقدام بين يدي الله في ثلث اللّيل الأخير كلّ ليلة، ساعة وساعتين وثلاثا؛ هذا مثلا رجل صالح في زماننا هذا، نحسبه كذلك، بعد وفاته تروي زوجته أنّه كان يقوم الليل بثلاث ساعات يُناجي ربه ويدعوه، وفي يوم من الأيام تأخر فلم يستيقظ إلا قبل الفجر بساعة، فلما قام قال: “إنّا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها”. أصابه حزن شديد لأنه لم يقم إلا ساعة واحدة! بل هناك من عباد الله المبتَلَين بالعاهات والأسقام، من يكابدون الليل، ويسبلون الدّمعات بين يدي الله في ثلث اللّيل الأخير من كلّ ليلة؛ هذا مثلا رجل من هذه الأمّة، ابتلي بشلل رباعيّ، يتّصل ببرنامج للفتاوى ليسأل المفتي إن كان يجوز له أن يتيمّم إذا لم يجد من يُعينه على الوضوء في ثلث اللّيل الأخير!

وإذا كنّا نحن المفرّطين،نحرص على مراقبة أرصدتنا في حسابات البريد والبنوك، وتنتهي خطط الواحد منّا عند توسعة مسكن وتبديل سيارة أو تلفاز أو هاتف، ولا يكاد يُخرج من راتبه أو أرباح تجارته نصيبا يضعه في يد أرملة أو يتيم أو فقير، إلا في موقف يحرج فيه! فإنّ بيننا عبادا صالحين – نحسبهم كذلك – يجعلون في رواتبهم التي كثيرا ما تكون متواضعة، نصيبا مفروضا يخرجونه كلّ شهر، كفالة لأرملة وأيتام، أو إعانة لمسكين محتاج، ومنهم من يستخفي بعمله هذا ولا يعلم به أقرب أقربيه، ومنهم من ينفق لبناء وتوسعة بيوت الله وتجهيزها بيمينه ما يخفيه عن شماله، ويلحّ على رئيس الجمعية الدينية أو على إمام المسجد بألا يذكره باسم ولا رسم.

وإذا كنّا نحن المفرّطين، لا يكاد الواحد منّا يختم القرآن إلا مرّة في الشّهر، وربّما مرّة في العام! وليس له حظّ من قراءته إلا ما يجري على لسانه؛ فإنّ بيننا عبادا صالحين، يختم الواحد منهم القرآن مرّتين وثلاثا في الشّهر، يتلو كلام الله ويتدبّره ويتأثّر به وربّما تدمع عينه وهو يشعر بكلماته تخترق قلبه.

وإذا كان الواحد منّا معشر المقصّرين، لا يذكر الله إلا قليلا، ولا يتحرّك لسانه بذكر الله إلا في أدبار الصّلوات ببضع كلمات يتمتم بها سريعا لينطلق إلى مشاغل دنياه؛ فإنّ بيننا عبادا صالحين لا تكاد تنقطع ألسنتهم عن الاستغفار والصّلاة على النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- إلا قليلا.

إنّنا نخطئ كثيرا عندما نسلّي أنفسنا بكثرة المفرّطين أمثالنا، ويعجبنا أن يتحدّث أصدقاؤنا وخلاننا عن تفريطهم أمامنا، ونتحدّث بتفريطنا أمامهم، ليسلّي بعضنا بعضا وترتاح أنفسنا ولا تؤنّبنا ضمائرنا، ونرفع شعار “كلّنا في الهوى سواء”! هذا التّبرير لن ينفعنا في الدّنيا ولا في الآخرة، إنّما الذي ينفعنا أن ننظر إلى أحوال المجدّين من أقاربنا وجيراننا ومعارفنا، ونبحث في الواقع والمواقع عمّا يقنعنا بتفريطنا وتقصيرنا في حقّ خالقنا ثمّ في حقّ أنفسنا.. ما منّا من أحد إلا وهو آتي الرّحمن فردا، ليحاسب وحده، ولن ينفعه إذا كان مفرّطا أن يكون أهل الأرض جميعا كذلك، فـ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ))، كيف وهو يرى مِن حوله عبادا لله صالحين، سيكونون حجّة على كلّ غافل وكلّ مفرّط وكلّ مسرف وكلّ متعلّل بفساد الزّمان وقلّة الصّالحين.. إذا كان الزّمان صعبا والصّالحون قلّة، فإنّ الأجور أيضا تضاعف والهبات والمنح والأعطيات أيضا تضاعف، ويكفي العاقل اللّبيب أن يتذكّر قول الحبيب الذي لا ينطق عن الهوى –صلّى الله عليه وسلّم-: “العبادة في الفتنة كهجرة إليَّ” (الطبراني في المُعجم الكبير)، وقوله –عليه الصّلاة والسّلام- أيضا وهو يحدّث أصحابه عن زمان ربّما يكون هو زماننا هذا: “إنّ من ورائكم أيامَ الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • الجزائر الحبيبة

    بارك الله في عمرك..صدقت و الله..اللهم صرف قلوبنا على طاعتك.

  • جهيد محسن

    اللهم انك عفو كريم تحب العفو فاعفو عني