-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى تمتد أيادي الإصلاح إلى البكالوريا؟

متى تمتد أيادي الإصلاح إلى البكالوريا؟
أرشيف

لا تؤتي عمليات الإصلاح أكلها في المجالات الاجتماعية، والتربية واحدة منها، إلا إذا كانت شاملة وكاملة. وأما إصلاح جزء وإبقاء أجزاء أخرى تتخبط في أوحال رداءتها فقلما يكنس العيوب ويجتث السلبيات ويسد العورات. فتجديد وتحيين المناهج التعليمية من حيث مضامينها ومنهجيات تطبيقها يظل حبرا على ورق ما لم تُرفق العمليات التقويمية الفصلية المدرسية والرسمية بمشروع هذا التجديد؛ لأن التقويم التربوي هو شريان وعصب كل تعليم مدرسي يطلب التحسين، ويتطلع إليه.

تكشف المتابعات والمعاينات التي لا تحتاج إلى صرف جهد كبير في النظر والبحث، تكشف وبما لا يدع مجالا للشك، أن الإصلاح الأخير الذي استفادت منه منظومتنا التربية، ورغم علوِّ قيمة عناوينه وثراء أدبياته وتعلقه بالحديث المفيد، لم يرتق فعلُه وأثره في المخرجات إلى الدرجة المنتظرة، ولم يرتفع إلى العتبة المأمولة. وإنما بقي في كثير من جوانبه قطرات حبر مسكوبة على ورق. وتتجلى هذا المفارقة بين التنظير والتطبيق أساسا في الامتحانات الرسمية كلها، والتي نخصص منها امتحان شهادة الباكالوريا. ويستدعي الوضع غير المرضي أن تتحرك العقول وتمتد الأيدي لإحداث عملية إصلاح للمحافظة على مكانتها ومصداقيتها كشهادة متميزة.

يشكو امتحان البكالوريا من أمرين أتعباه كثيرا. ويتمثل الأمر الأول في الظروف المحيطة بامتحانها في مراحل التحضير والإجراء والتصحيح. وهي ظروف بلغت مستوى عظيما من المبالغة والمغالاة من حيث التشدد الشكلي حتى أضفت عليه طابعا عسكريا جافا. ولم يسبق أن سمعنا أن دولة من الدول ألبست الهالة العسكرية على امتحان رسمي بالصورة التي تجري عندنا. وقد تركت هذه الإجراءات انطباعا سلبيا تصعب مقاومته في نفوس الطلاب الذين يتقدمون إلى الامتحان، وفي نفوس المدعوِّين للإشراف عليه ويعملون على تأطيره. حتى أن المرء يتساءل في حيرة: هل المسؤول على ترسيم وقع هذه الظروف مربّ أصلا وفصلا، وانتماءً وشعورا؟ أم استقدم من ثكنة عسكرية؟.

على امتداد سنوات، تم نزع الثقة من كل من له علاقة بالامتحانات الرسمية حتى في مستواها الأدنى. وسرت قاعدة فاسدة غير معلنة تنص على أن من يشتغل فيها مشكوكٌ فيه حتى تثبت براءته؟. وسحب الثقة من المربين جميعا هي نظرة غير سليمة على وجه الإطلاق؛ لأن هناك من يملك غيرة على التربية أكثر ممن يعتقد أن الثقة منوطة به وحده. ومازلت أذكر قول مربٍّ فاضل ومشهود له في علمه وفي أخلاقه بث فيه حسرته وألمه لما قال لي: (لما كنت شابا في الخامسة والثلاثين من عمري كنت أكلف بحمل اختبار المادة التي أشرف عليها في البكالوريا في محفظتي، ولا أحد يشكُّ في نزاهتي. ولما اقتربت من الستين نُزعت مني هذه الثقة رغم أنني لم أتغير، فماذا حصل؟). وفي سياق الحديث، أتذكر مسؤولا تربويا متمكنا وحليما اضطر إلى مغادرة التربية في آخر سنوات عمره المهني والذهاب إلى جهة أخرى، أتذكره لما بلغته شكاوى عن التصرفات التي كانت تطفو في بعض مسابقات التوظيف قبل مجيئه. وما كان عليه إلا جمع أعوانه المكلفين بإجراء إحدى المسابقات، وأسمعهم جملة واحدة مؤداها: (إن اليد التي تمتد إلى تغيير ولو علامة واحدة من علامات المتقدمين إلى هذه المسابقة ستُقطع يوم القيامة). وجرت المسابقة، ولم يرتفع صوت محتجّ واحد يطعن فيها. لقد نجح هذا المربِّي الكبير في توجيهه؛ لأنه لم ينسلخ عن عقد التربية، ولم يرم به.

ثمة أمرٌ يسيء إلى التربية ويشين أخلاق المربين، وهو أن يوضع مربٍّ يشرف على تسيير إجراء امتحان تحت عين زميل له لم يجدوا من اسم يمنحونه له سوى اسم: “الملاحِظ”، يراقبه ويحصي عليه هفواته. وفي نهاية الامتحان، يرفع تقريرا مفصلا عن أدائه. لا أعتقد أن تعيين رؤساء مراكز إجراء الامتحانات الرسمية يجري عشوائيا من دون فرز وانتقاء؛ لأن كل مسؤول يحرص على سمعته، ولا يتمنى أن يعاقَب أو يحاسَب أو يعاتَب أو يعزَل بسبب تهاونه أو تقصيره في اصطفاء مؤطري الامتحانات. وكان بالإمكان تفعيل القوانين الردعية الصارمة التي تحارب التهاون والغفلة ووسوسات الشيطان كغضّ البصر عن الغش أو التشجيع عليه أو التورط فيه متى ما ثبتت كما حصل مع متعلمين غشاشين ومساعديهم في دورة البكالوريا الأخيرة. وقد رأينا كيف أن قانونا واحدا خلصنا من علاجات واهية ووهمية لمحاربة آفة الغش دامت أكثر من عشرين سنة. وتنتابني موجات العجب لما أرى أن المشرفين على تنظيم شبكة الملاحظين في الولايات -وهم من مفتشي الإدارة عادة- يعتقدون أنهم يؤدون واجبا عظيما؟. ويتجاهلون أن الملاحظ الذي يستقبَل، أحيانا، في ظروف مزرية هو من يخلص سريان الامتحان من بعض المعوّرات، إن وجدت؟. وهل أنهت فكرة تمديد سلسلة المراقبين، والملاحظ حلقة من حلقاتها، المشكلات التي تثور في بعض مراكز إجراء الامتحانات؟. وتحضرني حادثة ذهاب أحد المتزلفين إلى منزل المربي الكبير ورجل السياسة البارز الأستاذ عبد الحميد مهري، عليه رحمة الله، في العقد التسعيني الأهوج من القرن الماضي، وتظاهره أمامه بالشفقة عليه وهو يرتدي ثوب الناصح الصدوق المخلص، وترجاه أن يطلب حراسة خاصة تحميه في إقامته وفي تحرُّكاته. تفحص الأستاذ الحكيم وجه زائره مليا، ثم رد عليه: ولكن، من يحرس الحراس؟. فبُهت، ولم يجد المسكين من كلمة يردُّ بها. وإذا كنا نضع الثقة في أي معلم أو أستاذ لمدة شهور وسنوات لما نُجلس المتعلمين بين يديه، فكيف ننزع منه هذه الثقة في أيام الامتحانات؟. وإن كانت هناك حالاتٌ شاذة، فالقوانين العادلة هي الفيصل بعد الاحتكام إليها. ولو أخذنا بهذه القاعدة العليلة، أفلا نحتاج إلى زرع ملاحظين في كل مكان، وحتى لملاحظة كيفيات صرف الأموال في مراكز التصحيح مثلا؟.

يستقبل مؤطرو الامتحانات الرسمية استدعاءاتهم التكليفية ممضية ببصمة مسؤول مركزي، وكذلك الشأن بالنسبة للاستدعاءات المرسَلة لمن يسمونهم بـ”الملاحظين”. وتُرفق هذه الاستدعاءات بلائحة من التوصيات ملأى بالتهديد والوعيد والترهيب. ومنها ألا يقبَل أي مبرر للتخلف عن التلبية إلا إذا كان المستدعى مقيما في المستشفى. فهل كل مرض يستدعي المكوث في المستشفى؟. هل كل النساء اللائي في الشهر الأخير من الحمل وجب عليهن الإقامة في مستشفيات الولادة حتى يضعن مواليدهن؟. وكيف يحضر معلمٌ أصيب بكسر في رجليه، وراقد في منزله إلى مركز امتحان للمشاركة في تأطيره؟. ولعل قساوة المعاملات وجبروتها هي من ولَّدت في أنفس المعلمين والأساتذة النفور ومحاولة التخلص من أداء واجباتهم المهنية أيام الامتحانات. فكيف نعيد إليهم العمل في الراحة والأريحية وطيب الخواطر؟.

يسحب المتعلمون القادمون على إجراء الامتحانات استدعاءاتهم مدججة هي الأخرى بالتنبيهات والنواهي والتحذيرات والإنذارات والتعليمات وكأنهم يلجون قاعات الامتحان لأول مرة. ومن يتمعن في قراءتها يلفه إحساسٌ أنهم متوجهون إلى ساحة قتال، أو قادمون على حرب ضروس لا أحد يعرف مداها. ولا نجد من بينها ولو عبارة واحدة فيها شيء من عطر وحلاوة التربية تخفف من ضغوطهم النفسية، وترفع معنوياتهم، وتسوق دفء التشجيع إلى قلوبهم.

ينقل مؤطرو الامتحانات (وهم يسمونهم: الحراس) حالة الرعب التي سكنتهم من شدة قساوة التعليمات إلى المتعلمين الممتحَنين من غير قصد. وينسون أنه لا يجوز أن ننزع الثقة من المتعلمين جميعا، وأن نقابلهم بوجوهٍ عبوسة تحمل ريبة وشكا، وأن نفسر كل حركة أو نظرة تصدر من أحدهم تفسيرا ظنيا منحرفا. وكان الأولى أن يعلم مؤطرو الأقسام بأن دورهم يتمثل في المرافقة اليقِظة التي تحافظ على الهدوء والانضباط وعلى توفير الجو المناسب لكل متعلم.

لما يأتي زمن طبع الأسئلة، يأخذ هذا العمل البسيط مظهر حدث عظيم تتكلم عنه الصحف وتتبارى الأقلام في الحديث عنه، ويفوز باهتمام في القنوات التلفزيونية. وقد رأينا في هذا العام كيف أن المكلفين بهذا العمل استقبِلوا بعد خروجهم من الحجز بالزغاريد والأحضان؟. ولا أحد يقدِّر مفعول هذا التضخيم الإعلامي المربِك على المتعلمين… وللحديث بقية.

      

        

      

 

 

        

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • صالح الاوراسي

    الاصلاح الشامل يبدا باعادة النظر في العلاقات المهنية بين الشركاء في القطاع مثلا بين مفتشي المواد واساتذتهم حيث تجد مفتشا يتعامل مع استاذ وكانه ديكتاتور من العصر الستاليني !!!

  • جبريل اللمعي

    طالَما هنالك مِن المُعلِّمين مَن لا يقوم بعمَلِه في قِسمِه، ويجتهِد في الدروس الخاصة المُربِحَة التي يُعطيها في بيته أو في مستودع أو في حظيرة، فليس مَنطِقيّاً ولا مُجدِيا أن نطلُبَ من الناس أن يثقوا في المعلم، أو مِن أبنائنا أن يحترِموه. هذا يفرِض على الناس أن يتعاملوا مع المُعلم حالةً بحالةٍ. مِثل تعامُلِهم مع الطبيب تماما. (لولا أنّني صرَخْت في وجه الطبيب الشَّهرَ الماضي وأفهَمتُه أنني درستُ أكثرَ من مِثْلَيْهِ لكان فَرضَ علَيّ عمليةً جراحيّة مُؤلِمةً ومُكلّفةً.)