-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متى يحصل التغيير؟

التهامي مجوري
  • 2158
  • 0
متى يحصل التغيير؟

بعد المصادقة على مشروع تعديل الدستور، و النظر في جانب من الأزمة الاقتصادية، التي ضربت البلاد بسبب سقوط سعر المحروقات، فألجأت الحكومة إلى رسم سياسة للتقشف، يبدو أن التوجه إلى ضرورة التغيير، بدأ يطرح نفسه بقوة، سواء بسبب طموح المعارض، التي تصر على تغيير نظام الحكم، أو خوف الموالين من ضغط الحاجة والعجز عن الاستمرار في استثمار الريع بالريع.

ولكن تصريحات بعض إعلاميينا وسياسيينا حول التغييرات المحتملة متفائلة تفاؤلا لم أجد له مبررا كافيا، إلا كما يتفاءل الغريق المتعلق بالقشة وهو في عرض البحر وطوله؛ لأن التغيير الاجتماعي الحقيقي، يتطلب –في تقديري- من المقدمات والجهود ومستوى من التفاعل مع الحياة، أضعاف مضاعفة لما نشاهد من ملامح وإشارات تبدو للناس وكأنها بوادر تغيير سيحصل قريبا.

فما نشاهد من أعمال تبدو وكأنها مقدمات لعملية التغيير، باستبعاد شخص من منصبه، أو بإصدار أمر أو تصريح يوحي باختفاء شيء أو ظهور شيء آخر، أو باختفاء معاملة وظهور معاملة أخرى، كل ذلك لا علاقة له بالتغيير الذي يرتقي بالمجتمعات إلى ما يصلحها، وإنما هي مظاهر واهمة وموهمة بشيء غير قابل للتحقق.

على أن عملية التغيير تتطلب قدرا من الفعل المنهجي يمكِّن المجتمع من تشخيص الأمراض للوصول إلى العلاج، وهذا غير متوفر بالقدر الكافي؛ بل هناك انحراف عن الجادة في النظر إلى الأمور في جميع المجالات، وأبرز هذه الانحرافات، الانشغال بمعالجة الأعراض على حساب النظر في الأمراض، وربط المشكلات بالأشخاص بدل ربطها بالقيم ومستوى التفاعل الاجتماعي مع الواقع، سوء الظن المتبادل بين فئات المجتمع ونخبه الحاكمة والمعارضة، الانشغال بالمعالجات المادية على حساب الإنسان، الأنانية المفرطة على المستوى الفردي والفئوي والحزبي… وهلم جرا.

كل هذه المظاهر لا تساعد على التغيير، رغم أن دواعيه قائمة؛ بل إن التحولات التي يشهدها العالم منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت ولا تزال فرصا متاحة لكل من يريد التغيير الحقيقي سواء على مستوى السلطة أو على مستوى النخب في العالم الإسلامي.

وهذا الانحراف المنهجي، يجعل من المجتمع يتفاءل بكل ما يتداوله الناس من طموحات مشروعة وغير مشروعة؛ لأنه مجتمع يائس، واليائس ينظر إلى الكلام عن طموحاته وكأنها قابلة للتحقق، رغم ان الواقع لا يعطيك إلا بقدر ما تعطيه؛ بل ربما يفرض عليك الواقع ان تعطيه أكثر مما يعطيك، فهل ما نقوم به مؤسسات وأفراد يرتقي إلى مستوى ما نطمح إليه من نتائج؟

وهذا الانحراف –بكل أسف- هو الذي يدين كل حراك اجتماعي، ويصوره على أنه مؤامرة على الأمة ومصالحها، مثلما تفرقت الأمة في تقديرها للحراك العربي الذي بدأ من تونس ومصر وامتد إلى اليمن وسوريا والبحرين…، في حين أن أبجديات حركة التاريخ توحي بأن ما وقع في هذه الرقعة من العالم، واعتبره البعض مؤامرة أمريكية على العالم العربي والإسلامي، هو نتيجة طبيعية للاستبداد الممارس في حق شعوب المنطقة، أما موقف الغرب الذي نعلق عليه شماعة إخفاقاتنا، فهو موقف الباحث عن اغتنام الفرص المتاحة.. فلا يعقل من قوى الغرب أن تترك الأمور تسير من غير أن تستفيد منها؛ لأن تحرر هذه الشعوب ليس في صالح الغرب، كما ان بقاء هذه الأنظمة الفاسدة التي تحكمها قائمة ليس في صالح الشعوب أيضا، ومن ثم فإن أية إدانة لحراك أو انتفاض شعبي، يعبر عن سوء نية وعدم ثقة في الشعوب لحساب النظم الفاسدة، أما الخائفون على مستقبل الشعوب، فينبغي أن يتعلموا أن الشعوب تعرف ما يصلحها.

وهذا القدر من اليأس كاف للتقليل من البشائر التي يبشرنا بها السياسيون والإعلاميون؛ لأن التغيير كما أشرت يتطلب أمورا لا تزال خافية.

إن المتصفح لورقات منظومتنا الفكرية والثقافية والإعلامية، وأدبيات خطابنا السياسي لا يشعر بأن شيئا جوهريا سيتغير، وإنما هناك تفاؤل يعلق عليه المستبشرون المتعلقون بالقشة كما ذكرت؛ ذلك أن لغة الخطاب التي نسمعها من جميع الجهات واحدة، ولأن الوجوه الممثلة للتيارات في الساحة واحدة، ولأن البدائل الإصلاحية المعروضة ليست بالقوة التي تغير الواقع، ولأن الشرعية التاريخية ومنطق السلطة الفعلية –على حد تعبير الأستاذ مهري رحمه الله-، لا يزالان يهيمنان على الساحة بشكل أو بآخر، والجديد العائد الذي كنا نظن أننا ودعناه في ثمانينيات القرن الماضي، قد عاد بقوة ألا وهو جرثومة الجهوية، التي تحولت في بعض الأحيان إلى عنصر إعلامي هام  في تحليل الحياة السياسية في البلاد.

ويضاف إلى الجانب المنهجي عائق آخر لعملية التغيير لا يقل خطورة عن سابقه، ألا وهو الابتعاد الشعبي عن الاهتمام بالشأن العام، حيث أضحى الشعب لا يهتم بما يجري في الحياة السياسية، وذلك يعني أنه غير مكترث بما يجري؛ لأنه يحمل في لاشعوره أن ما يقع من أحداث تتكلم عنها الصحافة أو يلوكها السياسيون، هو عبارة عن تغيير أشخاص وتقاسم أدوار وتبادل مصالح ومن ثم لا جديد يرتقب، ولا أمل في إصلاح ما فسد في المجتمع.

وهذا المعتقد الشعبي الذي دفع بالجماهير العريضة إلى عدم الاهتمام بالشأن العام أو على الأقل ضعف الاهتمام، نتيجة للأمر الأول الذي يربط القضايا بالأشخاص وبالعصب وبسلطة الإدارة.. فهو يائس من أهمية الفعل الشعبي، وهو سبب إهماله للموضوع؛ بل ربما اعتبر الاهتمام بالشأن العام مضيعة للوقت. وعندما لا يكون الشعب مُسَيَّسا، من أين تنجح الانتخابات؟ وكيف تصل البلاد إلى الإطار النافع؟ بل بأي وسيلة يحقق المجتمع التنمية؟

إن المواطن في مثل هذه الحال لا يهمه من الانشغال بالشأن العام إلا المصلحة العاجلة والخاصة، المأكل والملبس والسكن..، ومعنى ذلك أن هذا المواطن لا يؤمن بجدوى الاهتمام بالسياسة، فلا إيمان بجدوى الانتخابات ولا تصديق لنتائجها ولا إيمان بما يعد به الفائزون بها، وبالمختصر لا ثقة في السياسة ولا في السياسي. وقد ساءني تصريح لأحد السياسيين ذات يوم، عندما قيل له إن حراكا شعبيا في مناطق ما من الوطن ، هو حراك له مطالب سياسية، قال لا إنما هو حراك لمطالب اجتماعية، في حين أن شعور المجتمع بالحاجة إلى المطلب الاجتماعي، فمعنى ذلك أن المجتمع قد فقد كل شيء بما في ذلك الإحساس بكل ما يميزه عن سائر المخلوقات، حيث لم يبق مما يحتاج إليه إلا ما يحتاج إليه الحيوان من أجل البقاء، وهو المطلب الاجتماعي. والحيوان في مثل هذه الحال مستعد لفعل كل شيء عندما تكون “خبزته” مهددة، يعض، يقتل، يأكل، يصك…إلخ.

إن فرص التغيير قائمة، وأفضل أزمنتها عندما تكون هناك تحولات دولية، أو تحولات وطنية، طبيعية، والحاجة إلى التغيير تصبح ملحة، عندما تصبح التحولات الطبيعية ضغوطا، وطنية ودولية تفرض على المجتمع أن يرفع مستواه إلى الحراك العالمي، وإلا كان ضحية الأقوياء. وحتى إذا لم تكن هذه الضغوط والتحولات واقعة، فإن للإنسان القدرة على إحداثها مهما كانت المصاعب، لأنه مجبول ومزود بآليات تحقيق طموحاته ولما يحتاج إليه، ولكن لذلك شروط ينبغي أن يتحلى بها، لا سيما قائد حركة التغيير أو العامل فيها وهي:

رفع مستوى ثقافة المجتمع إلى القيام بالواجب ولو مع ضياع بعض الحقوق، والأصل هو التوازن بينهما بطبيعة الحال، فنقد السلطة وحده والمعارضة، ولعن المسؤولين وتقاذف التهم، ليس هو الذي يصنع الحدث، وإنما ذلك ثقافة استهلاكية “تَبْلَعُ” ما يُمضغ لها، من هنا وهناك.

التعلق بالغايات والمثل العيا وعدم الخضوع والخنوع للواقع السلبي؛ لأن الواقع ليس هو الحقيقة، وإنما هو تجربة أقرب إلى الماضي منها إلى المستقبل.. والغايات والمثل العليا كلها من بنات الغد الذي ينبغي أن يرسم في الأذهان قبل أن تغزوها الأوهام

النظر إلى الأمور بشكل مختلف، والخروج من العلبة التي يفكر في إطارها الجميع، والابتعاد عن التقليد والتكرار؛ لأن التقليد والتكرار هو آفة المجتمعات الراكدة. والمجتمعات المتحركة ترفض الرتابة.

معيار البدائل هو الأصلح والأنفع في جميع المجالات، وليس استبدال زيد بعمرو، او بالتداول وتبديل الصور والأشكال، أشياء وأشخاصا وأفكارا.

الصبر على مكاره الحياة، وعلى إنضاج الأفكار والمشاريع؛ لأن الأفكار الجادة والجديدة في هذا الجو الذي نحن فيه “مغلوبون على أمرنا، ومصائرنا بأيد غيرنا”، لا يسعنا إلا الأمل في المستقبل، وفي الفعل الاستراتيجي البعيد.

الموازنة بين التفكير في حماية المكاسب والسعي لتحقيقها؛ لأن الحفاظ على المكسب أصعب من السعي لتحقيقه.

إن هذه النقاط الست في تقديري ليست متوفرة الآن، وإذا توفر بعضها فإنه بقدر غير كافي لإحداث النقلة النوعية، وإنما الحاصل في ثقافتنا السائدة، هو ان الناس يحرصون على كل ما لا يكلفهم شيئا، ويقدمونه على كل ما يكلفهم في قليل أو كثير؛ لأنهم غير مستعدين للتضحية في سبيل القيم، وغير قادرين على الصبر لإنضاج الأفكار الجديدة والجادة.

وهذه النقاط الست كلها من جنس فعل التضحية، الذي يفكر في الزرع أكثر من أن ينشغل بقطف الثمار، ذلك أن الثمار لا تحتاج إلا فما واحدا يستهلكها، أما البذر والزرع، فيحتاج إلى رأس يدير وأرجل تسعى وسواعد تعمل، تلك هي الطبيعة التي خلقنا الله عليها. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • بدون اسم

    شكرا أستاذ على المقال المشرح لأزمة التغيير...إنه لا يمكن إحداث التغيير الإيجابي "بعقول خاوية، أو محشوة بأفكار ميتة، و ضمائر حائرة، و شبكة من الروابط المتهدمة ليس تجمعها وحدة" على حد تعبير مالك بن نبي رحمه الله في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي (ص 56)

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا استاذ ...
    ... الابتعاد الشعبي عن الاهتمام بالشأن العام
    سببه غياب الالتزام ، الاهتمام ،الاصغاء، الجمود، فقدان الثقة،
    اللامبالاة أو العلاقة الميتة التي أصلا لا تحفز على التغيير أو ترك الأمور تسير على ما هي ...
    وشكرا

  • مواطن

    "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(ص)لقد تعلمنا من تاريخ الشعوب المتقدمة أن التغيير الذي فرضته ثوراتها انبعث من أرضية غذتها مساهمة المستنيرين من المثقفين أبناء تلك الشعوب المغلوبة على أمرها.وقد ساهم في هذه المعركة الحضارية أدباء وكتاب عن طريق مسرحياتهم ومؤلفاتهم مبينين ضرورة تغيير المظاهر الاجتماعية الفاسدة واستبدالها بسلوك معتمد على المعرفة والجد في العمل.ثم ما فتئ أن حمل المشعل الفلاسفة والعلماء في شتى الميادين لإنارة طريق الحرية أمام المجتمعات لتحسن الاختيار ولتبني بوعي مستقبلها.

  • بدون اسم

    الطريق إلى التغيير يمر من هنا من طريق "ثقافة الحضارة" كما أشار إلى ذلك مفكر الحضارة مالك بن نبي رحمه...فهي بمثابة "وظيفة الدم، الذي يتركب من الكريات الحمراء و البيضاء، و كلاهما يسبح في سائل واحد من "البلازما" ليتغذى الجسد: فالثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع، يغذي حضارته، و يحمل أفكار "النخبة" كما يحمل أفكار "العامة" و كل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة، و الاتجاهات الموحدة، و الأذواق المتناسبة" (مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 86-87. )

  • الطيب

    لو كانت لنا عقول فمجرد الفديوهات التي عشناها و تتبعنا تفاصيلها تكفينا، فالفيدو الأول جزائري 100% عشناه و شبعنا منه منذ نهاية الثمانينات و فديوهات الربيع العربي شفناها بكل أشكالها و ألوانها على المباشر !فهذا كله رصيد على ما أعتقد الشعب الجزائري هو الوحيد الذي بإمكانه استغلال هذا الرصيد أحسن استغلال في أحسن تغيير منشود و هو التغيير الحضاري الذي يعود بالنفع على الجميع و إن تأخرنا عنه كثيرًا خاصة أثناء البحبوحة المالية حيث كان بإمكاننا أن نتحول إلى جنة و قبلة و قاطرة ..و لكننا لا نتعلم من الدروس !!