-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مرحبًا بالمَدرستيْن العُلْيَيَيْن !

مرحبًا بالمَدرستيْن العُلْيَيَيْن !

تتزوّد جميع الدول المتقدمة، وحتى كثير من البلدان السائرة في طريق النمو، بمؤسسات جامعية راقية من شأنها أن تكـوّن إطارات الأمة في جميع الاختصاصات العلمية والاقتصادية والإدارية. كما تفتح تلك الدول مراكز بحث في الاختصاصات المختلفة تكون داعمة بنشاطاتها لهذا التوجه. ومن ثمّ يكون مسيّرو شؤون الدولة في جميع مرافقها معظمهم من هذه الفئة، فيساعدون على استقرار البلاد ونموّها وسؤددها.

الجزائر أضاعت وقتا ثمينا
وفي هذا السياق، نذكر أن اليونسكو، قبل نحو 20 سنة، كانت قررت أن تكون سنة 2000 السنة العالمية للرياضيات، وذلك تخليدا لوقْع محاضرة العالم الألماني ديفد هلبرت Hilbert (1862-1943). وهي المحاضرة التي ألقاها صاحبها سنة 1900 وحملت 23 مشروع بحث في الرياضيات شغلت الباحثين منذ ذلك الحين… وإلى اليوم لم ينته التنقيب فيها.
في تلك السنة قررت قلّة قليلة من الزملاء الرياضياتيين العاملين في الداخل والخارج تنظيم لقاء جمع في العاصمة أزيد من 300 أستاذ جامعي جزائري ممن يدرّسون الرياضيات داخل الوطن وخارجه. وما يهمنا هنا من ذكر هذا اللقاء أن هؤلاء الزملاء قرّروا خلال الملتقى وضع اللبنات الأولى لتأسيس مركز للبحث في الرياضيات على شاكلة ما هو جاري به العمل في الدول المتقدمة. وراحوا يتواصلون خلال سنوات ويضعون الأسس القانونية لهذا المركز مستفيدين من تجربة أعرق المراكز العالمية، ويحددون مهامه. وقد أبلغوا السلطات العليا آنذاك وسلموها المشروع مكتمل الجوانب. ولم تبق سوى الموافقة السياسية الرسمية على المشروع.
وظل الزملاء يذكّرون الحكومات المتوالية بالمشروع، ويلهثون طيلة 20 سنة وراء تحقيق هذا الأمل. لكن جهودهم ذهبت سدى ! أما الآن فظهرت بوادر رسمية تسعى إلى إحياء هذا المشروع الذي من المفترض أن تتبعه مشاريع مماثلة تُعنى بالاختصاصات الأخرى.
وعندما عُيّن السيد شمس الدين شيتور على رأس وزارة التعليم العالي قبل حوالي سنة ونصف، جاء بفكرة إنشاء مدارس عليا في عدة اختصاصات، منها المدرسة العليا للرياضيات والمدرسة العليا للذكاء الاصطناعي اللتين تناول موضوعها مجلس الوزراء الأخير وقرّر إنشاء هاتين المدرستين العُلْيَيَيْن بصفة رسمية.
إنها خطوة مهمة في الطريق الصحيح المؤدي إلى تكوين نخبة نحن في أشد الحاجة إليها. غير أن بعض ما تضمّنه بيان مجلس الوزراء من مواصفات لهاتين المدرستين يستحق التوضيح لما ترك من غموض.

ما ينبغي أن يكون
– أولا : ما يُعاب على توجه المدرستين أن الحكومة تنوي أن تكون طاقة استيعاب كل منها ألف طالب. وحتى إن تصورنا أن هذا الرقم يعنى عدد الطلاب الذين ستحتضنهم المدرستان بعد 5 سنوات من الآن فهذا الرقم يعدّ ضخما، وسوف يُبعد المؤسستان عن هدفهما الرئيسي، وهذا لأسباب عديدة. فكثرة العدد تسيء بوجه خاص إلى نوعية التكوين. نحن نتصور أنه لا ينبغي أن يتجاوز عدد مجمل الطلاب 400 طالب بنسبة تتراوح بين 70 و 80 طالبا في كل السنة. إن من بين المشاكل العويصة التي ستواجه هاتين المدرستين مشكل التأطير الراقي من الزملاء الموجودين في الداخل والخارج. فمن سيكوّن تكوينا يليق بمقام النخبة؟ وكم عدد هؤلاء المكونين؟ فهذا هو الخطأ الفادح الذي وقعت فيه المدارس التحضيرية منذ سنوات ولا زالت تتخبط فيه إلى اليوم.
– ثانيا : من أيّ مكان سيأتي المؤطرون؟ وما هي الامتيازات التي سيحصلون عليها؟ لأن العمل مع هذه الفئة من الطلبة شاقّ جدا ويتطلب تحفيز المدرّس. ثم إنه إذا جاء المؤطر من داخل البلاد (كمتفرغ مثلا) فينبغي أن تمنح له الإدارة سكنا مناسبا (من الأفضل أن يكون داخل المدرسة) يأويه خلال فترة التفرغ. أما إن قدم من الخارج أو الداخل لفترة وجيزة ( تعدّ بالأسابيع أو بالشهور) فينبغي أيضا أن يتم إيواء هذا المكوّن في غرفة (من نوع ستوديو مثلا) داخل المدرسة كي لا يضيع وقته في التنقل والازدحام المروري.
– ثالثا : أوضح بيان مجلس الوزراء الخاص بالمدرستين عديد الأمور، لكنه لم يوضح الحلقة الأخيرة من هذا التكوين. والحلقة الأخيرة نقصد بها مكانة المتخرّجين في المجتمع وفي سوق العمل. فلا بد أن توضح السلطات منذ البداية الوضع المهني للمتخرّجين بعد 5 سنوات من الدراسة. فلا فائدة من هذا التكوين المتميّز ما لم ندقق هذا الأمر، لأن المستفيد منه عندئذ سيكون الخارج حيث ستكون الهجرة قِبلة المتخرجين. وفي هذه الحالة، تكون الدولة قد صرفت أموالا طائلة تشجيعا للهجرة كما هو حال خريجي العديد من مدارسنا العليا الحالية.
– رابعا : تقتضي الحلقة الأخيرة تحديد المناصب التي سيتولاها هؤلاء الخريجون في مرافق الدولة ومؤسساتها، وتحديد مستوى أجورهم الذي ينبغي أن يكون إستثنائيا مع توفير اللازم بخصوص السكن. يتعيّن أن تعالج الدولة هذا الموضوع بشجاعة باعتبار هذا التكوين استثمارا للبلاد سيغنينا -على المدى المتوسط والبعيد- عن كثير من الخدمات التي نستوردها من الخارج. وإن رأت السلطات أنها غير قادرة على السير في هذا الاتجاه فمن الأفضل تأجيل فتح المدرستين حتى يقتنع القوم بأن أنصاف الحلول لا تفيد البلاد.
نضرب مثلا بثانوية الرياضيات التي فتحت أبوابها منذ نحو 10 سنوات. أين هم خريجوها الذين من المفترض أنهم يتوجهون إلى دراسة الرياضيات وما حام حولها من الاختصاصات؟ المؤسف أن الدولة لم ترافقهم وتخلّت عن سبيلهم مبكرًا بعدما كانوا يُعدّون من النخبة. والنتيجة أن القليل منهم اختص في الرياضيات، واتجه نحو الخارج، وربما استقر هناك. أما السواد الأعظم منهم فتوجهوا إلى كلية الطب والصيدلة والمعلوماتية، وكلهم أمل في أن ينتقلوا إلى الضفة الأخرى في يوم من الأيام. ولذا نتساءل، والوضع على هذا الحال : ما فائدة البلاد من إنشاء هذه الثانوية ما لم نرافق تلاميذها؟ ألم يكن المرجو منها تكوين نخبة تعمر المؤسسات الأكاديمية في البلاد، وتسهم في تكوين النخب؟ لذا نكرّر أن أنصاف الحلول تترك المشاريع الاستراتيجية في مهبّ الريح، وتكون منافعها أقل من أضرارها.
من هذا المنظور، نودّ التأكيد على أن مشروع المدرستين العُليَيَيْن يحتاج تنقيحا جادا من قبل مختلف هيئات الدولة ليكون مشروعا مكتمل الجوانب وناجحا بعد وضعه على سكة متينة. ذلك كل ما نتمنّاه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • زرزايحي الطاهر

    تحليل صاءىب و وجيه و يجب الإعتداد به. لا شيء أسوأ من ظاهرة هجرة النخبة لانها تعطي صورة عن الحاضر و المستقبل القريب لنا جميعا.