-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مشكلة البحث العلمي في مرحلة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه 

محمد بوالروايح
  • 4452
  • 1
مشكلة البحث العلمي في مرحلة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه 

يفترض في طالب الدكتوراه وما بعدها -حسب التقاليد العلمية- أن يكون باحثا في الأساس، محيطا بأمهات المسائل المتعلقة بمجال اختصاصه، ملمًّا بالمناهج التي يستخدمها في تحليل هذه المسائل، لكن هناك فرقا بين ما يفترض أن يكون وبين ما هو كائنٌ؛ فالرسم البياني التنازلي لمؤشر البحث العلمي في مرحلة الدكتوراه وما بعدها يكاد يقترب من العدمية إلا في حالات استثنائية.

على فِرق التكوين في الدكتوراه أن تتدارك بعض النقائص وفي مقدمتها اقتراح مادة ترجمة النصوص في كل التخصصات؛ فكثير من طلبة الدكتوراه يعانون ضعفا لافتا في الترجمة مما يقلل من القيمة العلمية لبحوثهم رغم أهميتها. إن أحادي اللغة –كما ذكرتُ في مقالات سابقة- لا يصلح للبحث العلمي، فكم من باحثين مرموقين خانتهم اللغة فهُجرت بحوثهم ولم يلتفت إليها أحدٌ إلا من دائرة ضيقة من زملائهم وعشيرتهم الأقربين.

للخبراء تفسيراتٌ مختلفة لهذه الظاهرة، إذ يربطها بعضهم بالانتقال غير المدروس من النظام الكلاسيكي إلى نظام “ل. م .د”، أي الانتقال من نظام كلاسيكي يهيئ طالب الدكتوراه منذ المراحل الأولى للتكوين لخوض غمار البحث العلمي، وينمي فيه ملكة التحليل إلى نظام “ل. م .د” الذي يعتمد على تلقين المعلومة الجاهزة والتكوين على السريع، ويربطها آخرون بطغيان الكمّ على الكيف في وضع برامج التكوين، مما يشتِّت جهود طالب الدكتوراه ويجعله عنصرا متطلعا لمعرفة كل شيء وجاهلا بمعرفة أي شيء في آن واحد، ويربطها آخرون بطبيعة التكوين في الدكتوراه الذي ينتج موظفين وليس باحثين، ويربطها آخرون بمنظومة التكوين الجامعي التي تجعل الشهادة هي المبتدأ والخبر ولا توازن بينها وبين الكفاءة فتكون النتيجة تخريج حملة شهادات عليا وليس حملة كفاءات عليا، ويربطها آخرون بفكرة النظر إلى البحث العلمي على أنه عملٌ معرفي ليس له أي أثر في تأسيس السياسات وبناء اقتصاديات الدول.

تشهد جامعاتنا منذ فترة تنظيم مسابقات الالتحاق بالتكوين في الدكتوراه في أكثر من اختصاص، وتلتحق بهذا الطور في كل مرة أعدادٌ قليلة أو كثيرة تتلقى تكوينا نظريا لتتفرّغ بعدها لإعداد الأطروحة. المُعِدُّون للأطروحة أصنافٌ ثلاثة: صنف يُحسن اختيار الموضوع ويحسن التحكم في فصوله ومفاصله، ويقدّم عملا علميا راقيا بمواصفات البحث العلمي، وصنف يختار موضوعا كيفما اتفق ولا يُحسن التحكم في فصوله ومفاصله، ويقدم عملا “علميا” مهلهلا ليس فيه شية من مواصفات البحث العلمي، وصنف يمضي السنوات الطوال يراوح مكانه لأنه لا يملك رؤية واضحة حول الموضوع فيشتغل فيه بتخبُّط ومن غير تخطيط. فأما الصنف الأول فيُنجز أطروحته ويشق طريقه في البحث العلمي، وأما الصنف الثاني فينجز أطروحته على ما فيها من هنات ولكنه يجد صعوبة في البحث العلمي لأنه لم يستجمع منذ البداية الشروط الموضوعية التي تؤهِّله لذلك، وأما الصنف الثالث فيضيع ويتيه ويتحول إلى عاهة مستديمة تسيء إلى الجامعة وترهن مستقبل الطامحين من بعده للظفر بمقعد بيداغوجي.

يجد طلبة الدكتوراه بعد انقضاء المدة النظرية صعوبة كبيرة في البحث العلمي لأسباب ثلاثة، أول هذه الأسباب عجزهم عن تطبيق قواعد المنهجية العلمية رغم تفوُّق كثير منهم في هذا الجانب من الناحية النظرية، فترى أحدهم في مسابقة الدكتوراه يُفرغ في ورقة الإجابة عددا هائلا من المعلومات ويتفنّن في نقل وتحليل ونقد المدارس المنهجية بما يُبهر لجنة التصحيح، ولكن حينما يُطلب منه إنجاز بحث علمي يقف عاجزا كأنما حبسه حابسُ الفيل.

وثاني هذه الأسباب أن أغلبهم لم يعوِّد نفسه على القراءة التي هي مفتاح العلوم، وأقصد بالقراءة هنا الاطّلاع الواسع على مصادر البحث ومراجعه من أجل بلورة فكرة صحيحة عن موضوع الأطروحة، ومما يؤسف له في هذا الشأن أن تجد في كثير من رسائل الدكتوراه ثبتًا لمئات المصادر والمراجع التي ليس لها توظيفٌ في الأطروحة.

وثالث هذه الأسباب أن كثيرا من طلبة الدكتوراه يفضِّلون الموضوعات الجاهزة أو تلك التي لا تحتاج إلى كثير جهدٍ، وهذا باب إلى السرقة العلمية والانتحال والاحتيال الذي اتسعت دائرته في السنوات الأخيرة، فكم من باحث سطا على عمل غيره فاستنسخه ونسبه إليه ونال به درجة علمية، وكم من باحث تفادى السرقة العلمية المباشرة وتحايل على الآخرين بالقصّ والسلخ وإعادة صياغة بعض الجمل والعبارات بأسلوبه الخاص فاكتُشف أمرُه وانتشر خبره وعُزل من الوظيفة وسُحبت منه الشهادة.

اعترض كثيرٌ من طلبة الدكتوراه على المقال العلمي الذي كان إلى مدة غير بعيدة شرطا أساسيا لمناقشة أطروحة الدكتوراه، فرفضه بعضهم ووصفوه بأنه “إجحافٌ في حق الطالب” مع أنه في الحقيقة مقالٌ واحد يتيم قد ينجزه أصحاب الهمم بين عشية أو ضحاها، ويشكو بعضهم مما يسمونه “السلوك التمييزي والتعسفي” الذي يمارسه المشرفون على المجلات المحكّمة في التعامل مع الموضوعات المرسَلة إليهم. ولكن الحقيقة التي تغافل عنها كثيرون هي أن كثيرا من طلبة الدكتوراه عاجزٌ عن تحرير مقال علمي لضعفهم وقلة بضاعتهم، فكيف بعاجز عن تحرير مقال أن ينجز أطروحة؟ إنها الحقيقة الصادمة التي تلخِّص واقع البحث العلمي في مرحلة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه.

شاركتُ في لجان مسابقة الدكتوراه لفترة زمنية معتبرة، ومن الحقائق التي وقفتُ عليها أن هناك تدنِّيا واضحا في مستوى التكوين، تدل عليه النتائج المتوصل إليها وهي نتائج كارثية بالمختصر المفيد، فقد وجدنا أنفسنا مضطرين لترتيب الضعفاء وإعلان أعلاهم درجة -وهي دون الخمسة من عشرين- فائزا أوّلا بمعيار المفاضلة الذي يقتضيه نظام المسابقة وليس بمعيار التفوق العلمي، فكيف ينتظر من طلبة أنصاف المعدل أن يكونوا باحثين يُعوَّل عليهم مستقبلا للارتقاء بالبحث العلمي؟ وكيف للجامعة أن تأمن طالبا لا يفرِّق بين المنهج الاستقرائي والمنهج الهرمنيوطيقي على تكوين الأجيال والرقي بالبحت العلمي؟ إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

اطّلعتُ على أسئلة مسابقة الدكتوراه في بعض التخصصات فألفيتها أسئلة مباشرة لا تناسب الفئة المستهدَفة وهم طلبة اجتازوا مرحلة التدرج وما بعد التدرج؛ فمن غير المنطقي أَن تُوجَّه إليهم أسئلة من قبيل “اذكر” ونحوها، لأنها تنافي الغاية من التكوين في مرحلة الدكتوراه وهي تنمية ملكة التحليل لدى الطالب، فالأسئلة المباشرة لا ننصح بها حتى للمستويات الدنيا، لأنها وسيلة من وسائل تعطيل العقل وعقر الذهن. إن بعض الأسئلة علاوة على كونها أسئلة مباشرة فهي أيضا أسئلة طويلة مملّة تتطلب الإجابة عنها عشية أو ضحاها، ولا نلمح فيها فوق كل هذا أمارة من أمارات السؤال العلمي الذي يجعل السائلَ يعصر ذهنَه ويُعمل عقله للإجابة عنه، فأسئلة مسابقة الدكتوراه موجَّهة لعقل باحث وليس لعقل حافظ.

على فِرق التكوين في الدكتوراه أن تتدارك بعض النقائص وفي مقدمتها اقتراح مادة ترجمة النصوص في كل التخصصات؛ فكثير من طلبة الدكتوراه يعانون ضعفا لافتا في الترجمة مما يقلل من القيمة العلمية لبحوثهم رغم أهميتها. إن أحادي اللغة –كما ذكرتُ في مقالات سابقة- لا يصلح للبحث العلمي، فكم من باحثين مرموقين خانتهم اللغة فهُجرت بحوثهم ولم يلتفت إليها أحدٌ إلا من دائرة ضيقة من زملائهم وعشيرتهم الأقربين.

لقد استهان كثيرٌ من الطلاب بأطروحة الدكتوراه وتصرّف بعضهم حيالها بأنها شرٌّ لا بد منه، فخلطوا فيها غثا بسمين، فاكتُشف أمرُهم بعد حين وأصبحوا في حيص بيص: هل يصمُّون آذانهم عن سماع المنتقدين؟ أم يوارون أطروحتهم عن أعين الناظرين؟

من المشاكل التي تعدُّ عائقا من عوائق البحث العلمي بالنسبة لطلبة الدكتوراه وما بعدها ابتلاؤهم بنوعين من المشرفين: النوع الأول مشرف لا يشرف، وإذا مارس جزءا من هذه المَهمَّة كان وجوده كعدمه، لا يسدي نصيحة ولا يقدِّم معلومة، بل على العكس من ذلك قد يُفسد عمل الباحث ويُربكه ويُلبس عليه والأحرى أن يُعزل أو يُستبدل ففي عزله واستبداله جلبٌ لمنفعة ودرء لمفسدة، أما النوع الثاني فمشرف غير متخصص، يشرف في غير اختصاصه، فهذا النوع يصلح مشرفا مساعدا وليس مشرفا أساسيا، وقد ابتليتْ بعض الجامعات بهذا الصنف فتجد متخصصا في الإعلام يشرف على أطروحة في الأديان، ومتخصصا في الفلسفة يشرف على أطروحة في العقيدة، ومتخصصا في الآداب يشرف على أطروحة في الاقتصاد، فهذا النوع  قد يكون له علمٌ ببعض الفروع ولكن ليس له علمٌ بكثير من المسائل التي هي صلب الرسالة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد علي

    أصبت عين الحقيقة، كلام في الصميم. وجزاكم الله خيرا ً كثيراً