-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معاشرتي لأستاذي العزيز مالك بن نبي

عمار طالبي
  • 1259
  • 0
معاشرتي لأستاذي العزيز مالك بن نبي

لم أكن أسمع عن المفكر الجزائري، ولم أقرأ له من قبل أن ألقاه بشخصه أول مرة، كان أول هذا اللقاء في أوائل السنة الدراسية بجامعة القاهرة بكلية الأدب وهي السنة 1958.
عرفت طالبا سبقني إلى الدراسة بجامعة القاهرة في علم الاجتماع، وهو من منطقة قسنطينة بلدة ما كان يسمى كروبير، وقد أصبح بعد الاستقلال أستاذا في التعليم الثانوي ثم مديرا للشؤون الدينية والأوقاف بولاية البليدة، وكان قد سكن أولا في بوفاريك.
كان مالك بن نبي قد انتقل إلى القاهرة، من فرنسا سنة 1956 أواخر شهر أفريل، والتقى فيها ببعض مسؤولي جبهة التحرير الوطني أمثال خيضر، والأمين دباغين، وابن بلة، كما لقي الشاذلي مكي، ومحمد البشير الإبراهيمي، وتوفيق المدني، وعباس فرحات، وآيت أحمد، وأحمد فرنسيس، وألقى أحاديث في “صوت العرب”.
وفي شهر يونيو 1956، نشرت عنه مجلة “روز ليوسف” وأخذوا يقرأون له، ويطلّعون على أفكاره.
وفي 04 يوليو، لقي ابن بلة، وعبّر له عن رغبته في الالتحاق بالثورة الجزائرية داخل الجزائر ليكون مؤرخا لها، أو ليكون ممرضا في أوساطها، ولكن لم يجد صدى لهذه الرغبة، وكرّر هذه الرغبة في رسالة بتاريخ 24 أفريل 1957 أرسلها إلى قيادة جيش التحرير ليكون متابعا لتاريخ هذه الثورة.
وفي هذه السنة، (1957)، نشر رسالة بعنوان: “النجدة.. الشعب الجزائري يباد” بالعربية والفرنسية، وأظن بالألمانية أيضا فيما أذكر.
ولم يكن أعضاء جبهة التحرير في الخارج أي في القاهرة راضين عنه، وكأنه تفرّد بهذا وأنها لم تكن رسمية في نظرهم، وهي رسالة ندّد فيها بالاستئصال العرقي الذي يقوم به الجيش الفرنسي ودعا إلى تحقيق في هذا، تقوم به لجنة من هيئة الأمم المتحدة، فهي مأساة توجب التحقيق. وعمل هؤلاء القادة على منع نشر هذه الرسالة إبعادا لهذا المفكر عن الميدان وخدمة الثورة إعلاميا وفكريا، وكأنه ينافسهم في السلطة.
شارك في مؤتمر باندوج الثاني في ديسمبر 1957 ولم يكن عضوا في وفد جبهة التحرير مع أنه هو صاحب “فكرة الإفريقية الآسيوية” ومنظرها فلم يهتم به وفد الجبهة، ولم يأخذوه بعين الاعتبار، وكانت مشاركته في وفد عيّنه فيه الرئيس أنور السادات الذي كان رئيس المؤتمر الإسلامي، وكان قد اختير ليكون عضوا مستشارا في هذا المؤتمر الإسلامي برئاسة أنور السادات في ذلك الوقت.
كتب مالك بن نبي رسالة إلى أعضاء جبهة التحرير يلومهم فيها على إبعاده وعدم أخذ رأيه في أمر تخصّص فيه، وكتب كتابا في شأنه وأخبر وفد جبهة التحرير أنه لم يعد في حاجة إلى ذلك المبلغ من المال التي كان مسؤولو الجبهة يرسلونه إليه كل شهر باعتباره لاجئا سياسيا، ومع هذا، كان الأمين دباغين وإبراهيم مزهودي وعمّارة بوقلات وآخرون من جبهة التحرير يزورونه كما كان يزوره بعض المجاهدين مثل الوردي قتّال، وبوقصة.

لقائي له بالقاهرة
لقيته بصحبة زميلي من طلبة الجامعة في منزله بمنطقة المعادي بضواحي القاهرة، وصلنا إليه عن طريق القطار، فوجدنا معه في منزله الأستاذ محمد المبارك السوري، وهو من أصل الجزائري فرحب بنا وأخذت أستمع إلى الحديث الذي كان يجري بينهما، ومن جملة ما علق بذاكرتي الحديث النبوي الذي ذكره أحدهما، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم: “الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر اختلف” أو كما قال.
ثم أخذت ألتهم كل ما يصل إليّ من كتبه ومؤلفاته التي أصبحت تترجم إلى العربية، وأحضر ندوته الأسبوعية في منزله مع عدد من طلاب الجامعات الذين يدرسون في الجامعات المصرية من غير المصريين، ومن المصريين أيضا، ومن جنوب شرق آسيا، مثل أندونيسيا وماليزيا، ومن تونس والجزائر والمغرب، وكان أول وصوله إلى القاهرة يسكن في شقة مع الطلبة مثل عبد السلام الهراس، رحمه الله، من المغرب وأحد الطلبة من شنشاون من المغرب أيضا ومحمد فنيّش وإبراهيم لغويل من ليبيا، وكنت أسكن في بيت الطلبة العرب التابع لجامعة الدول العربية وهي إقامة جامعية، أما صاحبي، فكان يسكن في إقامة طلبة جامعة القاهرة.
انتخبت رئيسا للجنة الثقافية في هذه الإقامة، فاغتنمت الفرصة، فدعوت الأستاذ مالك بن نبي إلى إلقاء محاضرة في قاعة بيت الطلبة العرب وهم من عدة بلدان عربية، ومن بينهم عميمور الذي كان طالبا في كلية الطب بجامعة عين شمس، كما أنه حاضر في نادي طلبة فلسطين ووقع نقاش أثاره بعض اليساريين، وكان الموضوع عن القيم الإنسانية في مقابل القيم الاقتصادية مما عالجه في كتابه “المسلم في عالم الاقتصاد”.
وهو عضو في مجمع البحوث الإسلامية، وهنأه الأزهر على تحليل كتاب: “الكتاب المقدس والقرآن – La Bible et le Coran” لمؤلفه Jacques Jomier وكذلك كتاب: “الإسلام في مواجهة التنمية الاقتصادية لمؤلفه Jacques Austiny ولم يكن مرتاحا في مدة إقامته بالقاهرة لما يجد من التيار الماركسي من تصور أمثال علي صبري، كما أنه لم يكن مرتاحا للحماس الشديد للقومية وهو يدعو إلى وحدة العالم الإسلامي بل إلى ما هو أوسع من ذلك وهو العالمية Mondialisme كما عبّر عن ذلك في كتابه “الفكرة الإفريقية الآسيوية” وفي كتابه “فكرة كومنولث إسلامي”.
ولمالك بن نبي في مصر أصدقاء ومعجبون بأفكاره في الأوساط الثقافية والسياسية المصرية، ومنهم الوزراء أمثال كمال الدين حسين، وحسين الشافعي، والدكتور محمد البهي، الذي زارنا في الجزائر بعد الاستقلال وألقى محاضر في قاعة “ابن خلدون”، ومنهم سعيد العريان وأحمد عبد الكريم، وحسن الباقوري الذي كان وزيرا للأوقاف، حضرت زيارته لتونس وخطابه بجامع “الزيتونة” بحضور جمهور غفير، في وقت الصراع بين صالح بن يوسف وبورقيبة.
ومن جملة مكارم كمال الدين حسين أنه دعاه لقضاء مدة للراحة في الأقصر وأسوان بجنوب مصر، وودّعته هو وزوجه خدوجة بمحطة القطار بالقاهرة بباب الحديد، متجها إلى الجنوب، وكانت له قصة مع الفندق الذي نزل به وأقام، إذ عند مغادرته، كتبوا في كشف الخدمات أنهم قدّموا له خمرا، ولكن تفطن إلى ذلك وأنكر عليهم ذلك المكر الذي مكروه وهو في مصر يراقب من قبل المخابرات الفرنسية مراقبة لا يكفون عنها، وكان يشعر بهذه المتابعة ويصيبه قلق وانزعاج منها، مما جعله يطلب من بعض طلبته أن يبيت معه أحيانا، ومنهم الأخ بغدادي الذي أصيب بمرض نفسي من جراء تلك المتابعة وأدخل المستشفى، وهو طالب من وهران، رحمه الله تعالى، كما طلب مني أيضا وبت معه ليجد بعض الطمأنينة، من ذلك القلق الذي يشعر به وهو ذو حاسة وحدس، قد يراه بعض الناس خطأ نوعا من الهوس، ولكنهم لا يدركون أن تلك المتابعة كانت منذ أن كان طالبا في باريس، ومنذ أن ألقى محاضرة في أوساط طلاب شمال إفريقيا وعنوانها: “لماذا نحن مسلمون؟”.
وبسعي من المخابرات الفرنسية، كان المستشرق الفرنسي ماسينيون يلاحقه، ويضيّق عليه وهو المستشار الفني للحكومة الفرنسية، وكان يحاول أن يمسح الطلبة المسلمين وكان مالك بن نبي يرى أن النخبة في الجزائر نوعان في ذلك العهد: نوع يقتات من أموال الاستعمار يخدمه ويحتقر الشعب، وصنف آخر مترف يعيش من أموال الشعب باستغلال جهله وأميته.
كان في القاهرة يعيش وحده لأن زوجه الفرنسية لا تستطيع السفر إليه في القاهرة، فتزوج سيدة جزائرية هي حواس خدوجة إحدى قريباته من جهة الأم، فساعده أحد تلاميذته من طرابلس وهو محمد فنيش، فسافر مالك بن نبي إلى طرابلس، وهناك عقد له على زوجه في سنة 1961، وقد كان هيأ له لهذا كله، كما قلت، الأخ محمد رفعت فنيش في مدينة طرابلس في ليبيا، ومن الصدف أن مالك بن نبي هو الذي زوّج محمد فنيش بدوره، فكان وكيله في زواجه بإحدى الفلسطينيات.
وحضرت محاضرته الرائعة “الديمقراطية في الإسلام” ألقاها في نادي الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة في 06 شارع بنك مصر بالقاهرة ونالت إعجاب الطلبة، أيما إعجاب، ونشرت بعد ذلك.
ويذكر في سنة 1959 في مذكرته في يوم 07 أفريل 1959 انتقاده لبعض قادة الثورة بعد استشهاد المجاهد مصطفى بن بولعيد، والعربي بن مهيدي وديدوش مراد وكتب: “الثورة لم تبق روحها، إنما لقطت أنفاسها”، وجعل من المجاهدين مجرد رماد trailleurs ولما تم الاستفتاء على الاستقلال وكنت في القاهرة، وجاء بن بلة إلى مصر غاضبا، فزرته مع طائفة من الطلبة من جماعة النجاري في قصر الجمهورية بالقاهرة، مؤيدين له وللجيش، وكتبنا برقية في ذلك ووزعناها على وكالات الأنباء.
ولما قررت الحكومة المؤقتة إلزاما بالدخول إلى العاصمة الجزائرية، وأخبرت بذلك مالك بن نبي، فسلّم إليّ رسالة مخطوطة عنوانها “من أجل مليون شهيد” وطلب مني أن أسلمها إلى صديقه الحميم عبد العزيز خالدي، رحمه الله تعالى، رحلت إلى الجزائر في طائرة مع الشيخ العباس الحسين، وكان ممثلا لجبهة التحرير بالسعودية في الجزائر.
ونزلنا بمطار الجزائر وكان معي أيضا أحمد فريحة من معسكر، وكان قد تخرج معي من كلية الآداب بجامعة القاهرة، ونزلنا بفندق “شارع شارتر” في ذلك الوقت قرب باب عزون وكان الصراع قائما والمظاهرات تسير في الشارع تنادي “سبع سنين بركات”، وكان الرصاص يدمدم، وكاد أن يصيبنا أنا وأحمد فريحة داخل مطعم في ساحة لاليير لولا لطف الله.
بحثت طويلا عن الدكتور عبد العزيز خالدي في مكتبة “لهدروق”، وفي نادي المغرب العربي، وبعد مدة لقيته، وسلّمت إليه رسالة للأستاذ مالك بن نبي وبقيت عندي نسخة أخرى وكان فيها وجوب إعطاء الكلمة للشعب ليقرر بنفسه مصيره في انتخاب حر لمن يحكمه.
غادر مالك بن نبي القاهرة في يوليو 1963 إلى طرابلس كما غادرت زوجته قبله، وقد ولد له منها ثلاث بنات إيمان ونعمة، ورحمة ومن طرابلس اتجه إلى الجزائر في 18 أوت 1963 بعد سبع سنوات من الهجرة، والتقى بالسيد بن بلة في 3 سبتمبر 1963 كما لقيه مرة أخرى في 11 سبتمبر 1963.
وعيّن مديرا للتعليم العالي في أوت 1964 عينه ابن بلة، كما عيّنه مديرا “لمركز التوجيه الثقافي” في سبتمبر 1963، كما أنه اختاره الشريف بلقاسم مستشارا له، ثم بسعي من خصومه العتاد من اليساريين الذين كانوا قريبين من السلطة وبيدهم مقاليد الأمور، عزل من منصبه في عهد وزير التربية في ذلك الوقت وذلك في يناير 1966 ونزعت منه السيارة التي كان يستعملها، فصار يركب الحافلة العمومية، فشعر بحزن شديد ومعاناة كبرى، كما جرى السعيد لإخراجه من المنزل الذي يقيم فيه، الذي يوجد فيه أيضا “مركز التوجيه الثقافي” الذي تدور فيه ندوته، ويحضر إليه طلاب الجامعة، وتمنى الموت للنجاة من الجحيم الذي يحياه، كما كتب ذلك في دفتره خوفا من أن يتشتت الطلاب الذين كانوا يقصدونه لندوته، ويتعرفوا عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!