-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مفارقات الربيع العربي

واسيني الأعرج
  • 2953
  • 0
مفارقات الربيع العربي

نجد أنفسنا اليوم أمام العديد من المفارقات الغريبة في حياتنا التي أفرزتها الثورات العربية في مختلف البلدان، من الثورات الوردية كمصر وتونس التي نتجت عنها آمال كبيرة في ثورات تغييرية حقيقية بطابعها الشعبي، إلى الثورات الدموية كليبيا واليمين وسوريا.

  • من بين هذه المفارقات المدهشة أن الثورة نفسها بدل أن تتحول إلى دينامية داخلية تغييرية ولو على المدى المتوسط أو البعيد، تطلب جهدا خارجيا مساعدا لكسب الوقت، وتفترض عن حسن نية أو عن حسابات ضيقة ومغلوطة، أن الذي يتحرك بأساطيله وطائراته وجيوشه أحيانا، عربيا كان أو غربيا، لا يفعل ذلك لأن الإنسان مهدد هنا أو هناك ولكن لأن المصالح الحيوية تفرضه بقوة. تكمن قوة الثورات العربية ونجاحاتها، بالخصوص التونسية والمصرية، في كونها كانت ثورات صاعقة في سرعتها، لم تتح فرصة للتأمل والتدخل. فقد غيرت نظرة الغرب المتوقف على حافة المراهنة على الأنظمة المتهالكة والبائدة. سرعتها وفرت لها حصانة من الانهيار الداخلي وفتحت أمامها فرصة الحفاظ على مكاسبها. وضاقت مجالات التدخل التي تعتبر مقتلا حقيقيا لأية ثورة. جدة الفعل التنظيمي الذي انبنى على وسائل غير مسبوقة غيّر كل شيء، بل هز اليقينيات السابقة. لا يحتاج الأمر إلى كبير دليل إذ يكفي النظر في وضعية الثورات اللاحقة لندرك أن فعل العفوية لم يعد هو من يحركها كما كان في البداية.
  • واضح من الثورات اللاحقة كالثورة اليمنية والليبية والبحرينية، حيث اتخذ التدخل الأجنبي أشكالا مختلفة لم يكن دائما في صالح الحركية الاجتماعية التي أحدثتها الثورات وقلبَها للحقائق الثابتة والمستقرة. التدخلات الغربية أو العربية تدل على أن هناك لحظة تفكير مرتبطة بالضرورة بالمصالح الاقتصادية أو السياسية تلغي حتما العنصر الذاتي للثورة أو تقلل من استقلاليتها على الرغم من حاجة الثورة إليها. هناك بحث عميق، غربي تحديدا، لأنه المالك الرئيسي للقوة، لمصاحبة التحولات المتسارعة هنا وهناك في والوطن العربي، وعدم تركها لمسارها الطبيعي. التدخل الإنساني يخفي غموضا واضحا ومخاطرة قد تفقد الثورة تاريخيتها وخصوصيتها وإبداعيتها الذاتية، لا يعني هذا مطلقا عدم مساعدة الثورات للوصول إلى بر الأمان، لكن ذلك يقتضي بالضرورة وضع فكرة التدخل المباشر على جنب مهما كانت المبررات القانونية والشرعية. نعرف أن أي ثورة هي رهان على المستقبل وليس فقط اللحظة الراهنة.
  • الثورتان التونسية والمصرية خلقتا صورة جديدة للبطولة قريبة من لوحة دولاكروا: الحرية تقود الشعوب، حيث لا قوة إلا القوة الشعبية في أرقى لحظات صفائها وإيثارها على الرغم من الدم والنار والخوف. يجب أن نقبل بمبدأ قاس وهو أنه ليس بالضرورة أن يحالف حظ النجاح كل الثورات. هناك البعض منها يبدأ تحت مختلف التأثيرات ولكن بنياته المتخلفة لا تسمح له بأن يكون في نفس مستوى الثورات الأخرى ويحتاج الأمر إلى زمن أطول. ما نراه من مشهدية تراجيدية في الثورة اليمنية والليبية تحديدا يقودنا إلى هذه التصورات.
  • انكسار ثورة لا يعني مطلقا موتَها، إذ يمكنها أن تستيقظ في أية لحظة من اللحظات. بعض الثورات التي نزلت شعوبها إلى الميادين الكبيرة والساحات في العواصم العربية، هي نفسها التي طلبت من جهات متعددة بالتدخل وكأن الغرب الذي فلتت منه المبادرة في الثورتين الأوليين، لم يعد مستعدا أن يعيش مفاجآت أخرى قد تهز مصالحه الاستراتيجية. لا يريد أن لا يظل على هوامشها وهو المالك للمخابر العالية التي تتحسس هذه التحركات حتى قبل حدوثها.
  • فقد أخفق في تحسس بركاني تونس ومصر، مثلما فشل في تحسس تسونامي اليابان الذي بيَّن، بما لا يدع مجالا للشك، كم أن الأرض هشة وكم أن مصائرنا على كف الطبيعة في النهاية. حتى النووي السلمي أعادته الطبيعة إلى حقيقته الأولى بعد تشيرنوبيل، أي إلى كونه القنبلة السلمية الموقوتة التي يمكن أن تنفجر بطريقتها في أية لحظة. المفاعلات النووية في فوكوشيما- دايشي التي تضررت بسبب زلزال 11 مارس، لا نعرف إلى اليوم مؤدياتها ونتائجها الخطيرة. الغرب بعد هذا الزلازل والثورات لا يريد أن يترك الأشياء للصدفة التي لا تخدمه في ظل عالم مأزوم.
  • يريد أن يسهم في صناعة هذه الثورات العربية، أي تحديد مساراتها. إذ لا توجد ثورات بلا مصالح خبيئة قد تتجلى في شكل مصالح شعبية أو في مصالح أكثر تعقيدا. الهزات الفجائية جعلت الغرب يغير نظرته في الكثير من المخاوف والمسلمات. لم تعد مثلا الحركات الإسلاموية بعبعا مخيفا له. لم تعد الأنظمة العربية التقليدية قادرة على حمايته من ضرباتها لأنها غير قادرة أصلا على حماية نفسها. مع أن الكثير من خطابات بعض الثورات الحالية في ليبيا واليمن لا تبشر مطلقا بخير من هذه الناحية. على العكس من الثورتين التونسية والمصرية اللتين يمكن أن تبقيا الثورتين الورديتين الوحيدتين، وبالتالي فهما تقعان خارج المعادلة التقليدية وخارج الحسابات الدولية وحتى ضغط الجماعات الدينية التي تحاول اليوم أن تستدرك مع فاتها حتى لا تظل على الهامش، في اليمن وليبيا حيث يوفر النظام القبلي والبنية المجتمعية القديمة، وغياب الدولة بالمعنى الحديث، كل الغطاءات التي تجعل من هذه الحركات فاعلا أساسيا ليس فقط في المشهدية الثورية ولكن أيضا في تصورات الدولة المقبلة التي يفترض أن ينمو فيها دين مدني يوضع خارج الحسابات السياسوية، يمنح الفرصة لأول مرة في حياة الدولة العربية لمجتمع مدني تحكمه القوانين الوضعية التي يتجدد البشر من خلالها.  وكأن الآن كل هذه الأحلام بدأت ترتبك وتضمحل في ظل العودة القوية للإسلاميين في المشهد الثوري. لن تصبح هناك محلية بالمعنى المطلق، ومظاهر ذلك تتجلى بشكل واضح فيما نشهده اليوم. مما يبين أن هناك دراسة عميقة في هذا السياق للتحكم في مسارات الثورات وتحويلها بما يخدم المصالح الغربية وليس الشعبية. وربما فتح ذلك رهانات جديدة على الثورات الناشئة إدخالها في حساباتها.
  • الخطر الكبير هو أن يُمتص ألق الثورة وعنفوانها ويتم تحويلُها إلى كرّ وفرّ بين المتناحرين، لا أفق من ورائه.  الثورة اليمنية على قوتها تتدرج يوميا في صراع مستميت سيده الوقت. نظامها القبلي البنيوي قسم  الجغرافيا إلى خرائط قبلية أكثر منها خرائط تشكل جغرافية موحدة.
  • يطلب علي صالح من القوات الخليجية التي تدخلت في البحرين، أن تتدخل أو تتوسط لأنها أهون الضررين. باستثناء الحسابات الجغرافية لا تشكل اليمن مصلحة إستراتيجية عالية للدول الغربية إذا سقطت فكرة صد القاعدة. ينطبق هذا على كل الثورات العربية التي يلعب فيها التدخل الأجنبي دورا مهما. على البلدان العربية التي تقف اليوم على كف عفريت أن تشرع في الإصلاحات السريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في عالم خارجي ما يزال يراهن على القوة ويعيد إنتاجها باستمرار.
  • ولكن هل تستطيع الأنظمة العربية أن تغير في شيء أصبح مكونا جوهريا لبنيات نظامها، ويكاد يكون جنينيا في احتقارها لشعوبها واستغبائها لها؟ ما نلاحظه اليوم من مسيرات تملأ الشوارع تأييدا للأنظمة والخطابات المجوفة واتهام القوى الخارجية بتدبير المكائد بمعزل عن النقد الذاتي لنظام منهك، يبين بما لا يدع مجالا للشك أن الدرس لم يحفظ كما يجب، وأن هذه الأنظمة من حيث رغبتها المستميتة في الحفاظ على وجودها أولا، ترتكب أبشع الجرائم في حق شعوبها، والأخطر من ذلك كله، تتحول بهدوء إلى العامل الأول والأساسي في تفكيك بلدانها ضمن مخطط أكبر لا ينتظر إلا التطبيق. ما هو قادم أكثر خطرا مما نتصور، داخليا وخارجيا.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!