-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مناطق الظل.. الحصاد النكد للزمن الكنود

مناطق الظل.. الحصاد النكد للزمن الكنود
ح.م

من روائع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه التي جمعها الشريف الرضي في كتاب “نهج البلاغة” خطبةٌ له، يصف فيها تغير الزمان وكثرة الجشع وطغيان الطمع وما يتبع ذلك من أفعال منكرة وحقوق مهدرة، زمان يستولي فيه الأغنياء على كل شيء ولا يلوي فيه الفقراء على شيء فيقول: “أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن كنود، يُعدّ فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوّف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد إلا مهانة نفسه، وكلالة حده، ونضيض وفره، ومنهم المصلت لسيفه، والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه “.

إن الزمن الكنود الذي تحدث عنه علي بن أبي طالب يتكرر في أيامنا، اختلفت الصورة ولم تختلف السيرة، واختلف الفاعلون ولم تختلف الأفعال، فكم في زماننا من شاكلة من “جمع مالا وعدّده يحسب أن ماله أخلده”، وكم في زماننا من شاكلة من لا يكترث لمقت الله وهو يمنع الماعون ويدع اليتيم ولا يحضُّ على طعام المسكين، وكم في زماننا من مستعد بمنصبه، مغتر بسلطته، مصلت لسيفه، معلن بشره، مجلب بخيله ورجله، وكم في زماننا من متخاصمين على الحطام ظانين أنهم أولى بنعم الله من جميع الأنام، وكم في زماننا من مستأثرين بكل ما في الجرّة وطامعين فيما وراء المجرة، وكم في زماننا من الذين يمدون أيديهم إلى مقدرات الأمة وكأنها ملك يمينهم وكسب أيديهم، وكم في زماننا من الذين يصبحون في عدن ويمسون في لندن وغيرهم يغدون ويروحون حفاة عراة، تلفح الشمس وجوههم، وتلتهب الأرض من تحت أقدامهم، وكم في زماننا من الذين يكنزون الذهب والفضة ويودعون في بنوك سويسرا ما اغتصبوه من نفائس الأموال ما تنوء به العصبة من الرجال.

تابعت لقاء السيد رئيس الجمهورية مع الولاة، وكم آلمتني مظاهر البؤس لجزائريين كُتب عليهم أن يعيشوا في مناطق الظل فأوفرهم حظا من وجد ظهرا يمتطيه وبيتا يأويه، وشأنا يغنيه، وطعاما يسدّ به رمقه ويقيم به أوده، وكم آلمتني مظاهر المعاناة لأطفال في عمر الزهور وهم يلتقطون أنفاسهم بعد رحلة شاقة يقطعونها راجلين للالتحاق بمدارسهم التي تنعدم فيها كل شروط الحياة ناهيك عن شروط التمدرس، وكم آلمني منظر الآباء وهم يعانون ويكابدون للظفر بقارورة غاز في بلاد الغاز، وكم آلمتني صورة الأحياء الذين يتقاسمون الفضاء مع الجرذان والغربان في أحياء لا تصلح للعيش، وكم آلمني منظر الطرق المهترئة غير اللائقة التي لا يسلكها السالكون إلا بشق الأنفس وطول نفس، وكم آلمني منظر الحُفر التي تنتشر على مدّ البصر كلما اتقى السالك واحدة منها وقع في الأخرى، وكم آلمني منظرُ المياه القذرة التي تجري على اليابسة وتؤذي الساكنة، وكم آلمتني مناظر الكآبة في أجزاء بعيدة وقريبة من “تمنراست” التي تنام على مناجم الذهب، وكم آلمني منظر التلميذ من قرية “إنزاون” في تمنراست وهو يكابد ظروف الطبيعة من أجل الالتحاق بالمدرسة التي لا يصلها إلا منهكا متعبا وقد خارت قواه وثقل ممشاه، وكم آلمني منظر الأطفال الذين لا يجدون من وسيلة للتنقل إلا الشاحنات التي صُنعت لنقل الحجارة والرمال فحوّلها أصحابُها مجبرين لا مخيرين إلى نقل المتمدرسين، وكم آلمني منظر التلميذ الذي أجهش بالبكاء لأنه لم يجد مكانا في الحافلة فأضاع درسه وعاد أدراجه إلى بيته، وكم آلمني منظر التلاميذ الذين يجلسون في أقسام أو أشباه أقسام ترتعد فرائصهم وتصطك أسنانهم من شدة البرد الذين ينهش أجسامهم، وكم آلمني منظر التلميذ الذي لم يجد ما يسد به رمقه إلا قطعة جبن يتجرعها ولا يكاد يسيغها.

إن الشريط الذي يحمل عنوان: “معاناة في مناطق الظل” الذي عرضه التلفزيون الجزائري في لقاء السيد رئيس الجمهورية مع الولاة قد أبكانا جميعا وأظهر ما كان مستترا، ووضع كل من استرعاه الله رعية أمام مسؤوليته لرفع الغبن عن قطاع كبير من الجزائريين يعانون في صمت وتتشابه عندهم أيام الله كأنهم خُلقوا من رحم المعاناة. كم في الشريط من مناظر مؤلمة ومظاهر محزنة وصور مقرفة لمناطق معزولة مقفرة وكأنها رحلت من العصر البدائي، وكم في الشريط من آهات لا يحسها إلا مرهف الحس، حي الضمير، وكم في الشريط من مظاهر التهميش التي يعانيها بعض الجزائريين في الجزائر العميقة وحتى في عمق مدننا الكبيرة فالمأساة تكاد تكون واحدة.

وكم هو مؤلم منظر المركز الثقافي الموصد في وجه رواده، وكم هو مؤلم منظر رحلة الصباح والمساء ورحلة الشتاء والصيف التي يكابدها بعض الجزائريين في بعض القرى المعزولة للظفر بذنوب أو ذنوبين من الماء في بلد تنتشر فيه منابع المياه والسدود من الحدود إلى الحدود، وكم هو مؤلم منظر المرأة التي لم تجد بدا لرعاية الأيتام من رعي الأغنام فترد الماء فتجد عليه أمة من الناس يسقون فيمنعها حياؤها من مزاحمة الرجال تماما كما في قصة موسى مع ابنتي شعيب عليه السلام: “ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير”.

وكم هو مؤلم منظر بيوت الطين والحجر في الجزائر العميقة التي لا تصلح للسكن ولا يشعر فيها ساكنوها بالسكينة، يترقبون أن تقع على رؤوسهم بين الفينة والأخرى عند هبوب رياح عاتية أو نزول أمطار غزيرة. وكم هو مؤلم منظر العيادة الطبية الموصدة التي يصفر فيها الريح تاركة سكان القرية يعانون الأمرين عند حدوث مكروه لمريض أغمي عليه أو نفساء أجاءها المخاض.

إن المعاناة في مناطق الظل حقيقة، وهذه المعاناة لن تتوقف إلا بعزم صادق على التغيير تلتقي فيه إرادة الحاكم مع إرادة المحكوم “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

إن التغيير من حيث المبدأ العام قضيتنا جميعا ولكنه من باب أولى قضية المنتخبين المحليين الذين يجب عليهم تحمّل مسؤولياتهم في إطار المهام الموكلة إليهم وأن يضعوا نصب أعينهم خدمة الوطن والمواطن وأن يدركوا أن التخلي عن أداء الأمانة خيانة عظمى، ففي الحديث: “ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت حين يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة”.

أتمنى في النهاية أن تجد توجيهات السيد رئيس الجمهورية آذانا صاغية؛ فالجزائر الجديدة لا تتحقق إلا بالقضاء على مظاهر البؤس الاجتماعي التي تشوِّه مدننا وقرانا، فليت عاطفة المواطنة تتغلب على جاذبية الكرسي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!