-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

منظومتنا الصحية: الإصلاح أم إعادة الهيكلة؟

محمد شيدخ
  • 386
  • 0
منظومتنا الصحية: الإصلاح أم إعادة الهيكلة؟
أرشيف

تمر اليوم نحو ثماني عشرة سنة على المشروع التمهيدي لإصلاح المستشفيات الذي أعدّته لجنة متكونة من خبراء ومسؤولين سابقين في هياكل الصحة في أعلى هرمها، والذي لم ير النور إطلاقا نظرا لظروف سياسية أملت اجندتها على الساحة السياسية ودفن معها هذا المشروع الذي اعتبره المتتبعون آنذاك متنفسا من شأنه إنقاذ قطاع أوشك على الاحتضار.

وإذا اعتبرنا جدلا أن طرح هذا المشروع التمهيدي لإصلاح قطاع الصحة في تلك المرحلة قد كان مناسبة أملتها تراكمات كثيرة أثقلت كاهل المنظومة ككل وتجلت في استياء دائم ومتكرر من قبل المرضى وذويهم وقلق كبير لدى المهنيين والشركاء عموما، فإنه بعد مرور هذه المدة الطويلة بقيت دار لقمان على حالها ولم نسجل أي انطلاقة أو إصلاح حقيقي لإخراج منظومتنا من هذه القوقعة وتحسين التكفل بالمرضى كمّا ونوعا بالرغم من إلصاق هذا المشروع بالقطاع تسمية، إذ أصبح يُطلق عليه اسم “وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات”، هذه التسمية التي اعتبرها عبثية وغير مجدية نظرا لعدم تمكُّن المشرفين على الحكومة والقطاع من الانتباه إلى ما تمليه هذه التسمية من إجراءات فعلية وميدانية تظهر نتائجُها في نوعية الخدمات المسداة للمرضى، علما أن كل الدول المتطوّرة ذات المنظومات الصحية الناجعة قد جعلت من الإصلاح عملية روتينية بورشات مفتوحة تتدخل حسب تطوّر الأوضاع الصحية والوبائية والظروف السياسية والاقتصادية لتكييف المنظومة وفق المعطيات الجديدة مدعومة بترسانة قانونية وتنظيمية ملائمة دون الحاجة لإلصاق هذا الفعل باسم الوزارة المعنية. وللعلم، فإن عمليات التحسين والتحيين الخاصة بالمؤسسات، سواء كانت اقتصادية او خدماتية، تخضع لثلاث مراحل كبيرة: الإصلاح وإعادة الهيكلة وأخيرا إعادة بناء تنظيم جديد، بمعنى أنه مباشرة بعد فشل الإصلاح وتفاقم الأوضاع ننتقل إلى العملية الثانية والأعمق وهي إعادة هيكلة القطاع، وبعد سنين قد نضطر الى بناء منظومة جديدة بمعايير أخرى، بالرغم من أن تجارب الدول في هذا الميدان قد جعلتهم يستغنون عن الاهتمام بالجوانب التنظيمية ويركزون مقابل ذلك على الملاءمة بين مداخيل القطاع ومصاريفه مع الحفاظ على نوعية جيدة للخدمات، ونهج آخرون طريق عقلنة كمّ العلاجات المقدمة وفق مقاربة تعتمد المشروع العلاجي كوسيلة لتحقيق النجاعة بمفهومها “المناجمانتي”، بمعنى الوصول إلى الأهداف المرجوَّة والمبرمَجة مسبقا بثمن أقل والمقاربة بالمشروع والعقد في الأفعال الصحية.

ولا نستغرب عندما نجد من يطالبون اليوم بإعادة تكييف المنظومة الصحية بحيث يكون الأساس فيها تكريس الاهتمام بالاحتياجات الصحية للمريض وليس الاهتمام بالهياكل شكلا وتنظيما، حتى أضحى الفعل الإداري وإسقاطاته هو المتجلي والمسيطر على حقيقة واقع المستشفى المصنف كمؤسسة ذات طابع إداري، ونحن نعلم بالخصوصية المدمرة للتسيير عند جل مسيرينا ألا وهي “الأبوَّة في التسيير” على طريقة “بول ريكار” مسؤول مؤسسة فرنسية في خمسينيات القرن والذي اعتبره المنظرون نموذجا للمسؤول الأب بكل عيوبه وجبروته، فبالرغم من أن دور المستشفى هو تقديم العلاج وليس إسداء خدمات إدارية وما دور الإدارة إلا السهر على توفير كل الوسائل المادية واللوجستية لتحقيق ذلك وتسيير المسار المهني الوظيفي للعمال، فهذا النمط التسيير السلطوي البعيد عن الأنماط الحضارية التي تعتمد على مبدأ الاستشارة والتشاركية مستشعرة كل الموظفين بأهميتهم ومسؤوليتهم، ما يحفزهم على الالتفاف حول أهداف المؤسسة والعمل الجاد الدؤوب لأن مناخا ومحيط عمل جيدا يحقق تحفيزا جيدا قد يعمل على شلّ كل الطاقات وكبح كل المبادرات.

وأمام هذا الوضع الذي تعيشه منظومتنا والذي يتسم بشبه احتضار والتي صنفها “بلومبارغ” الأمريكي في المرتبة الرابعة إفريقيا خلال سنة 2019 عبر دراسة بعض المؤشرات الثابتة كنسبة وفيات النساء الحوامل والأطفال الرضع ومعدل العمر أو أمل العمر دون الغوص في نوعية العلاجات وتوزيعها ونظافة المستشفيات وتنظيمها وتوفير الأدوية وضبط توزيعها والوقاية الحقيقية في كل جوانبها، حيث تتجلى النقائص التي جعلت تململ واستياء المرضى وذويهم لا ينقضي، وأمام هذا الوضع نجد انفسنا مجبرين على مباشرة إصلاح شامل وعميق وفق برنامج مسطر ورزنامة زمنية محددة بإعادة تعريف المستشفى بما يليق بمهامه الجديدة في زمن الأوبئة وما بعدها وتحديد الأطر العملية لتفعيل حقيقي لدور مصالح الوقاية وإرساء أدوات وميكانيزمات الصحة القاعدية على مستوى التجمعات السكانية والأحياء ومدّ جسور التشارك مع كل القطاعات المؤثرة في الصحة العمومية بتأطير قانوني يسمح بتنسيق كل التدخُّلات المتعددة القطاعات تحقيقا لصحة الفرد والمجتمع مع تفعيل صيغة التعاقد بين مصالح الضمان الاجتماعي ومؤسسات الصحة وإدخال الرقمنة والمعلوماتية في قطاع الصحة مع تهذيب التسيير ودفعه نحو الحوكمة والشفافية وخلق نسيج صناعي متين للأدوي..

كل هذا من شأنه أن يمنعنا من المرور إلى إعادة هيكلة القطاع، وهي العملية الأكثر عمقا والتي قد تعيد النظر كلية في مجموع الهياكل والتنظيمات المعمول بها والانزلاق نحو قطاع جديد يؤسس لسلمية جديدة في الأسلاك وتعريف جديد لكل المهام وتحديد الكفاءات التي تضطلع بمختلف المهام والمناصب، مع رسم خارطة للطريق تبين الخطوات والاستراتيجيات المزمع نهجها لبلوغ الأهداف وتحقيق النجاح.

وإذا طال أمد مباشرة إصلاح عميق للقطاع وبقيت الأمور على حالها، فقد لا ينفع بعد سنوات التفكير في إعادة هيكلة القطاع أو إعادة بناء منظومة صحية جديدة، لأن المتغيرات كثيرة والحروب الفيروسية محدقة والنقائص لا بدّ من تداركها في زمن ما بعد كورونا استعدادا لكل الكوارث الصحية المحتملة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!