-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من أجل بناء ماضي جديد

التهامي مجوري
  • 4784
  • 5
من أجل بناء ماضي جديد

في تعليق من تعليقات القراء الكرام، على مقالي “وأخيرا اعترف الجنرال” دعاني صاحبه إلى تجاوز الماضي إلى الواقع الذي نعيشه وإلى المستقبل، إلى النظام الحالي وإلى الرئيس بوتفليقة وإلى ما يقع من اهتزازات سياسية في البلاد وما يمكن أن يترتب عن ذلك مستقبلا بحجة أن الماضي يعرفه، والأهم منه هو الحاضر والمستقبل .

وأنا أقرأ هذه العبارات أو ما معناها، شعرت وكأن القارئ الكريم –صاحب التعليق- لا يعلم شيئا عن علاقة الماضي بالحاضر والمستقبل، وانقدحت في ذهني عبارة هامة لأخينا الموريتاني الدكتور محمد مختار الشنقيطي وهي قوله “كل بناء مستقبل جديد لا بد له من بناء ماضي جديد”، ومن ثم فإن كلامنا عن الماضي لا يعني أننا نسوق كلاما للترف والمتعة الأدبية، ولا من أجل الهروب من الكلام عن الحاضر، وإنما لصياغة تجربة بشرية عاشها الناس بكل ما فيها من مرارة وحلاوة على حد سواء..، لتكون أرضية لمستقبل أهم وأفضل، ولا يعنينا خطأ وصواب فلان وعلان، بقدر ما يعنينا انعكاس ذلك الخطأ أو الصواب على واقع الناس وعلى مستقبلهم، وهنا تظهر علاقة الماضي الذي نصوغه ونحلله بالحاضر والمستقبل اللذين ننشدهما بكل وضوح وشفافية..

إن الماضي غير قابل لأن يصنع لأنه مضى وانقضى؛ ولأن أحداثه قد وقعت وفاتت، وإنما ما يُصْنَع منه هو قراءته قراءة جديدة لا تكون بالضرورة وفق شكل ما ظهر او اختفى؛ لأنه واقع اختلف فيه المختلفون وكان لاختلافاتهم انعكاسات على الواقع كانت حصيلتها لا سيما ما كان منها وبالا على الأمة..، فتلك الوقائع التي قال عنها الجنرال تواتي مثلا كانت سببا في اتساع رقعة الإرهاب، يرى الجنرال خالد نزار أنها كلتا عين الحكمة، ولم تكن خطأ كما يفهم من كلام الجنرال تواتي؛ بل قال “سينصفني التاريخ”.,, وهذا ما يفتح المجال واسعا لقراءة تلك الأمور التي اختلف في تقديرها أصحابها أنفسهم.

إن بناء الماضي وصناعته، والذي أدعو قارئي الكريم إلى أن يستحضره في بناء تصوره لمجتمع ودولة وثقافة وسياسة، لا يمكن فهم واقع ما إن لم نفهم ماضيه، فمن يريد أن يفهم واقع النظام الجزائري ولا يلم بالحركة الوطنية وصراعاتها المريرة خلال الفترة الاستعمارية، ويعد الاستقلال، لا يمكنه فهم شيء في البلاد؛ بل يستحيل عليه فهم الواقع وتقلباته بجميع أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويؤسفني هنا أن أقول أن ماضينا غير مبني بناء صحيحا، ولذلك لا نزال نناقش مسألة الهوية والثقافة والإنتماء ومفهوم المجتمع والدولة، بحيث لا نكاد نجمع على شيء في تاريخنا إلا على الثورة المباركة وعلى بيان أول نوفمبر، أي أن هذا التاريخ لا يزال أحداثا لم يطلها التقييم لا الجزئي ولا الكلي، حتى أصبحت تلك الأحداث تصاغ في شكل وقائع مرتبطة ببطولة زيد وجبن عمرو، او خيانة فلان ووفاء علان، وكأن حركة المجتمع برمتها أصبحت رهينة اجتهاد أو حماقات زيد وعمرو وفلان وعلان..

على أن صناعة الماضي هي عبارة عن لملمة تلك الأحداث ووضعها في سياقاتها المَوْضُوعية والمَوْضِعِيَّة للخروج بنتيجة صحيحة تتوافع ومنطق التاريخ، وليست موافقة او مخالفة لما أراد هذا الشخص أو ذاك؛ لأن منطق التاريخ لا يقبل الخضوع لأهواء الناس مهما كانت مراتبهم ومواقعهم ومكانتهم في قومهم، وتعجبني هما كلمة قالها فرحات عباس رحمه الله عندما سئل ذات يوم عن ثمار مجهوداته التفاوضية مع فرنسا وموقف مصالي منها، فقال: لقد قال لي مرة مصالي الحاج عن فرنسا “إنها لن تعطيك شيئا”، وكان محقا..، ورغم أن ذاتية عباس السياسية منعته من أن يقول كنت مخطئا، إلا أن موضوعيته لم تمنعه من الاعتراف بصواب خصمه السياسي، فقال وكان محقا.

والماضي من الأحداث إذا ما حاولنا قراءته من خلال المذكرات والحوارات وتصريحات السياسيين فإننا لا نظفر بشيء يصب في بناء الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل؛ بل نقرأ تشتيت المعلومة التاريخية وتمزيقها أكثر مما يشكل في أذهاننا من مفاهيم اجتماعية وثقافية وسياسية وطنية جامعة، على الرغم من ان الإنسان عندما يرى شيئا، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو خلفية هذا الشيء الخافي على الأنظار ومنه ما مضى منه وانقضى.

فعندما يشتري الواحد منا خبزة مثلا لا يعجبه شكلها، ماذا يخطر بباله؟ وإذا أعجبه شكلها، ولكن طعمها ولم يعجبه، ماذا يقول؟ لا شك أنه في كلتا الحالتين يتساءل عن اليد التي صنعت هذه الخبزة وعن نوع الطحين الذي صنعت منه أو الفرن الذي استوت فيه.. وكل ذلك ماضي وليس حاضرا، وإذا سولت لأحدنا نفسه بأن يحصر العيب في الخبزة ذاتها، فهو مجنون بلا شك ولا ريب، وكذلك أحداث الماضي وعلاقتها بالواقع والمستقبل، فهي المخزون والسبب الأصل في كل ما يؤثر به هذا الأصل ويلوح في الواقع والمستقبل، وذلك للأسبابال رئيسية التالية:

1. أن الماضي هو أرضية الواقع بحلوه ومره، فلا يمكن البناء على الفراغ، وهذا ليس على المستوى الوطني أو الحلي فحسب، وإنما ينطبق كذلك على التجربة التاريخية عموما. والأرضية إما أن تكون صالحة صلبة فيبنى عليها بثقة وارتياح كمن يبني على الأرض الصلبة، أو تكون أرضية مهترئة ومضعضعة تتطلب الإصلاح والتعديل، إن كانت الإصلاحات قليلة وخفيفة، او تزال الأرضية أصلا إلى حد الوصول إلى ما تحتها من مواقع صلبة ليبنى عليها مثل القاعدة التي يوضع عليها اللوح الجداري “Semelle  ” الذي لا يوضع إلا على أرض صلبة؛ لأنه الحامل للبناية كلها.

2.  قانون الإجتماع الإنساني مثل القانون الفيزيائي الذي يحكم الكون تماما، يستمد من ثوابت التجارب التاريخية وهي ماضي قطعا، فالعرض والطلب واعتبار أغلبية الناس لشيء والأعراف الجارية والسائدة  والعدل والحرية والضمانات الإجتماعية، لكل ذلك قوانين اكتشفها الإنسان من خلال تجربته الطويلة، في إطار بحثه عن الأفضل والأصوب والأكثر نفعا والأقل ضررا…، وكل ذلك في إطار ممارسته لقانون الحاجة كما يقولون. 

وبما أن حركة حياة البشر غير قابلة للتجربة والمشاهدة، مثل الفيزياء والكيمياء، وإعادتها كما وقعت في الماضي  كقضايا الكون عامة، كان الماضي هو المخزون وليس الواقع أو المستقبل، فإعادة رواية التاريخ ولملمته وجمعه من أفواه الرجال ومن بطون الكتب، هو مخزون القانون الثابت الذي تبنى عليها مصائر البشر، وإعادة بناءه هي قراءته وفهمه وإعادة صياغته في معالجات قضايا الإنسان، وهي القضايا التي أراد أخونا القارئ أن نتكلم عليها بالقفز عن أصولها.

وعليه فإن بناء الماضي ضرورة حتمية لكل بحث جاد في فهم الواقع او لبناء مستقبل جاد؛ بل إن بناء الماضي لا يقف عند مجرد فهم الناس لأحداث التاريخ كما هي، فيطبقها فيما يستقبل من أحداث، وإنما ليساهم بها في تحرير التاريخ من هيمنة المساهمين في صناعة أحداثه، فيكون شاهد عدل على حركة البشر من غير توجيه من أية جهة كانت، إحقاقا للحق أكثر منه إنصافا لشخص أو أشخاص؛ لأن الأشخاص في النهاية ماضون، أما والمجتمعات وقوانينه الحاكمة له فباقية.

ولعل أفضل مثال يمكن استحضاره هنا القرآن الكريم الذي سيجل لنا مشاهد من أخطاء الصحابة رضي الله عنهم رغم شهادته لهم بأنهم أفضل الناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)، ومع ذلك سجل بعض ملاحظاته على أخطائهم (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)، وذلك عندما قالوا لا غالب لنا اليوم، وقوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، إثر هزيمتهم في أحد بسبب مخالفتهم لتعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير هذه التعقيبات كثير في القرآن.

فهذه الآيات قد نزلت في سور مختلفة تعقيبا على وقائع تاريخية متباعدة كما ألمحنا، وتخليد مثل هذه التعقيبات في قرآن يتلى، لا أعتقد انه لمجرد ذكره وتدوينه كحادثة وقعت، أو انتقاص لقدر من أقدار الذين أخطأوا، وإنما في تقديري هو تخليد لبناء ذلك الماضي من جديد، لضمان بناء مستقبل جديد ناجح؛ بل إن الله لم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه من ذلك إذ قال له سبحانه (يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، عندما حرم على نفسه مباحا إرضاء لإحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام، وذلك ليس تخليدا لعتاب الرسول وهو أفضل الخلق على الإطلاق، وإنما لتخليد القانون الذي يضمن عصمة المستقبل من الأخطاء والزلل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا ..
    - يعطيكم الصحة استاذ -
    .. لا يمكن فهم واقع ما إن لم نفهم ماضيه ؟
    هذا هو بيت القصيد !
    رمضان كريم
    شكرا

  • عبدالحميدالسلفي

    السلام عليكم
    رداعلى01. الأمم تتجدد أو تتبدد.لكن التجدد الذي يبقي جوهرها المكوّن لذاتها وإلاّ تحوّرت وتحوّلت الى أمم دخيلة منقطعة الإمتداد تغامر المرة تلوى الأخرى بحثا عن إستقرارها
    وما الأمة الإسلامية إلاّ مثل الشجرة الطيبة الثابتة في الأرض التي يعتنى بها فتثمر كل حين بإذن ربها, ديدنها التطوّر والثبات
    أما أدونيس فنسخة طبق الأصل لحكاية الحمامة ومشيتها رافعا شعار ثورة الفرد من أجل الثورة,مستنسخا تجربة تنويريي(بالأحرى ظبابيي) الحقبة المظلمة للغرب في القرون الوسطى لما إنتفضوا ضد الكنيسة الضالة.

  • الطيب

    مستقبل الإنسان مظلم و لكن مصباحه المنير هو التاريخ .القرآن العظيم هو أيضًا كتاب تاريخ و متفرد لأنه لا يحكي لنا قصص الأولين لمجرد الحكي ! و لكن مبتغاه هو تزويدنا بـ :" قصة الإنسان على وجه الأرض " وحقيقة الصراع و أطراف الصراع و إلى أين سينتهي هذا الصراع ..فنجد أنفسنا و نحن في حاضرنا في قلب هذا الصراع و أمام الاختيار و بكل حرية إلى أي طرف ننضم !؟.لا نعلم ماذا كان سيحدث لنا و كيف تكون حالنا بغير القرآن دليلنا على وجه الأرض !!؟ الحمد لله على نعمة القرآن و كفى بها نعمة . و الحمد لله على خاتم الأنبياء.

  • جزائري

    علم الإحصاء (في الرياضيات) يعتمد أساساً على التجربة الإحصائية بهدف استنباط القانون (السُنَّة الإلهية بالتعبير القرآني) التي وضعها الله في الظاهرة محل الدراسة؛ يبدو لي أن التاريخ البشري نوع من التجربة الإحصائية المحفوظة في الذاكرة الجمعية والتي يجب إخضاعها لتمحيص دقيق من أهل الإختصاص بُغية تدارك النقص وإصلاح الخلل مستقبلاً على ضوء السنن الإلهية. ثلث القرآن، المحفوظ الى الأبد، قصص يزود البشرية بتجربة الإنسان على الأرض من لدن آدم عليه السلام، ليس مجرد سرد لأحداث لكن لأداء هذا الغرض بالذات.

  • karim

    لا يمكن يا سيدي أن نكون امة حية بدون تغيير أفكارنا التي ورثناها من سالف الزمان وننبذ فكرة الهوية المميزة لدينا والتي لايمتلكها غيرنا وكأنها أيقونة مقدسة لا يمكن أن ننقدها أو نطورها، وندرك أننا امة من بين باقي أمم تشاركنا الحياة في هذه المعمورة ،لان الهوية بناء وتشكيل وليست جوهر ثابت، بل يجب أن نطرح الطالح منها الذي لم يعد يناسب المرحلة وكما يقول المفكر العربي أدونيس (إن الأفعى التي لا تغير جلدها تموت) أي أن نغير الأطر الفكرية الجامدة لدينا وان نكتسب الجديد الذي يعطينا مناعة فكرية وثقافية.