-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من أسرار انقسامات الأحزاب

التهامي مجوري
  • 1086
  • 1
من أسرار انقسامات الأحزاب

لم يعلم الناس عن أسباب الانقسامات التي أصابت الأحزاب السياسية في بلادنا الكثير، وما عرفوه عنها لا يمكِّنهم من فهم حقيقة ما يجري في هذه الأحزاب.

ففي مراحل سابقة كانت هذه الأحزاب تتكلم عن اختراقات السلطة لها ولهياكلها بقصد تمزيقها وتشتيتها، ثم تطورت التبريرات إلى اتهام الفئات الحزبية لبعضها البعض بالكثير من التهم المخلة بالقانون حينا وبالأخلاق السياسية حينا آخر، ومنها وأسوئها تهمة الولاء للسلطة، التي لا تزال من أخطر التهم التي يتهم بها المناضل، بحيث لا تدانيها أوتفوقها إلا تهمة العمالة إلى الأعداء، على اعتبار أن المعارضة هي صاحبة المصداقية، وأن السلطة محل تهمة ولاشرعية لاصقة بها..، ثم تطورت الأمور وأصبحت بعض القيادات الحزبية الآن تعترف بالتململ داخل التشكيلات الحزبية على أنه ظاهرة صحية تنبئ بتفاعل الإطارات الحزبية مع الواقع السياسي، وإن أدى ذلك إلى الاستقالات الفردية والجماعية.

ما مدى حقيقة هذه التبريرات؟ ومدى صدقيتها؟ وهل حقيقة أن كل تململ معترف به؟ وكل استقالة أو انقسام له ما يبرره من الواقع؟

إن مجرد التململ والاختلاف في وجهات النظر ظاهرة صحية حقيقة، ولكن عندما يصل التململ والاختلاف إلى الاستقالات والانقسامات لا يمكن أن يفهم كذلك، وإنما يوحي بوجود خلل ما في التشكيلة الحزبية، عجز الحزب وقياداته عن احتوائها؛ لأن التنظيم بطبيعته يتطلب الانضباط للوائح الرسمية للحزب، ويفرض على مناضليه وقياداته بالخصوص الصبر على بعضهم البعض وعلى ما يلاحظون من أخطاء وتجاوزات، في سبيل إنجاح المؤسسة ومشاريعها. والتململ والاختلاف المفضي للانقسامات والاستقالات لا يوحي بالانضباط، وهذا يقودنا إلى البحث في حقيقة وسر هذه الانقسامات وأسبابها الصحيحة.

قد تكون هناك خلافات شخصية بين قيادات حزبية في حزب ما..، كما قد تكون هناك خلافات وسوء تفاهم آني تنظيمي أو سياسي، تذكر على أنها هي السبب في استقالة شخص أو أكثر في حزب سياسي، أو انقسام حزب إلى فئتين أو ثلاث فئات أو أكثر، ولكن ذلك في تقديري ليس هو الحقيقة وإنما كل ذلك عرض من أعراض المشكلة وليس المشكلة؛ لأن تكرار الظاهرة في الأحزاب يوحي بوحدة السبب، فانقسام وانشقاقات قيادات في حمس والنهضة والإصلاح وجبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من اجل الثقافة الديمقراطية…إلخ، وتبرير هذه الظاهرة في جميع هذه التشكيلات الحزبية ليس واحدا، إلا فيما يتعلق باتهام السلطة وتحميلها المسؤولية في ذلك، والتعليق على السلطة بمثابة اتهام المجهول، الذي لا يمكن الوصول إليها. فالسلطة ما دامت محل تهمة يمكن أن يعلق عليها كل شيء ويصدقه الناس ولو مرحليا، لكن الحقيقة ليست كذلك.

إن ظاهرة التململات والانقسامات لم تقتصر على الأحزاب المذكورة؛ بل طالت جميع الأحزاب بمن في ذلك حزبي السلطة –حزب التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي- اللذين يظهر فيهما التململ فيما يشاهد في شكل خلافات سياسية حادة أو معارك إعلامية أو حركات تصحيحية..، ولكن بالتجربة والتمكُّن سرعان ما تُمْتص الاهتزازات باستبدال شخص بشخص أو بتغيير فعل بفعل، أما غير هذين الحزبين، فكل الأحزاب إما منقسم أو منقرض أو على الأقل مصاب باستقالات.

والسر في هذه الانقسامات والاستقالات في اعتقادي له ثلاثة أوجه: وجه تنظيمي، ووجه معرفي متعلق بمستوى إطارات الحزب، ووجه ذاتي خاص بأنانيات الفئات المتصارعة.

فالوجه التنظيمي وجه متعلق بعلاقة الأفراد بالحزب كمؤسسة ناظمة لسلوكات الأفراد في إطاره، وواقع النضال في الأحزاب الجزائرية، واقع يختلف عن طبيعة النضال السياسي السليم، وإنما هي كتل حزبية ضعيفة التواصل التنظيمي فيما بين أفرادها وفئاتها؛ بل ربما كانت أطرا لإثبات الوجود أكثر منها أحزاب تطمح إلى إضافة جديد في الحياة السياسية، فالمناضل في هذه الأحزاب يصعب عليه أن ينضبط بقواعد النضال التي يفرضها التنظيم؛ لأنه يرى في كل رأي يخالف فيه غيره في الحزب –بمن في ذلك القيادة التنفيذية- لا يسمح له بالخضوع إلى القرارات المتخذة، وهذا يتعارض مع قواعد الانضباط وطبيعة العمل الجماعي.

إن الإجماع على فكرة ما في العلاقات الإنسانية نادر، في جميع المجالات، وهو أندر في ساحات النضال السياسي، وعليه فإن العلاقات الجماعية جلها مبني على الاجتهاد وغلبة الظن، وعلى خضوع البعض للبعض وفق لوائح تنظيمية متفق عليها، ويكفي أن يجتمع الأغلب أو الأكثر على شيء ليخضع الجميع –الموافق والمخالف-؛ لأن الأقل مطالب بموجب الانتساب والانتماء لهذا العمل الجماعي أو ذاك بأن يخضع لقرارات ومواقف الأغلبية، ولو لم يقتنع بذلك؛ لأن الانضباط الحزبي أولى في كثير من الأحيان من تبني رأي راجح ما في الساحة السياسية، لا سيما في القضايا الآنية؛ لأن الانضباط ضرورة ضرورة نضالية مبنية على اليقين، بينما الرأي الراجح عند الفرد الاجتمهاد؛ لأن نجاح الحزب بنجاح انضباط مناضليه وتماسكهم، بينما التعلق بالرأي الراجح لدى الأفراد، يفتح المجال لتعدد الآراء المبنية على الظن وهي متعددة بطبيعتها.

لا شك أن خضوع المناضل لرأي يخالفه قد تبناه الحزب، لا يعفيه من مواصلة النضال من أجل رفع مستوى الأداء النضالي في إطار الهياكل ولوائح الحزب، وليس من أجل مصارعة القرار وإقناع غيره برأيه لإبطاله، مثلما يناضل من أجل الوصول إلى السلطة تماما، ومن أجل صناعة الرأي العام؛ لأن الاجتهاد في الرأي مسألة معرفية والمعرفة جزء من النضال السياسي وهنا تظهر أهمية الوجه الثاني الذي بفقدانه تكثر القلاقل والمشاكل.

إن المعرفة وجه من وجوه النضال؛ بل إن النضال يفقد من بريقه بقدر ما يفقد من المعرفة..؛ لأن المعرفة هي التي تصنع هوية الحزب السياسي وفق مرجعية واستراتيجية معينة، لتحقيق غايات معينة بوسائل معينة. ولذلك نجد أن من بين الأسباب الرئيسية في الانقسامات والاستقالات في الأحزاب، فقدان هوية المناضلين الحزبية، أو قل فقدان الأحزاب لهويتها النضالية، واضطراب مراجعياتها والجهل بمصادر معارفها.

وفقدان الهوية في الواقع لا يقع هكذا طفرة، وإنما يأتي بعد سقوط مسلمات كثيرة في النضال، كفقدان الإجابة على سؤالي: لماذا؟ وكيف؟ لماذا نناضل؟ وكيف نناضل؟ وفقدان روح التجديد وغياب الإضافة وضعف الوعي والتحالف غير الرشيد وغياب المشاريع التنموية؛ بل إن الحزب الذي لا يملك مشروعا تنمويا وتصورا كاملا لبلادها كيف يريدها أن تكون.. لا يمكن أن يصلح للنضال إلا كأرنب تساعد على التدرب في السباقات..

وفقدان الهوية وما يتبعها من مقتضيات لا يمنع الحزب من الممارسة السياسية الصحيحة فحسب بل يرشحه لكل ما يبطل مفعوله، سواء باستغلاله من قبل خصومه أو بانقسامه وتشتت إطاراته…إلخ؛ لأن فقدان الهوية الحزبية يعني كسر أهم عوامل الوحدة النضالية والإنضباط بها.

أما الذاتية فهي فطرة في الإنسان، واستثمار الفطرة يقتضي ضبطها وتوظيفها إيجابيا وفق برنامج منضبط، فالخوف مثلا فطرة والحاجة إليه قائمة لا يستغنى عنه، واستثماره ينبغي أن يكون في إطار الحماية، وإلا تحول إلا كتلة من الجبن والخور.

والذاتية بسلبياتها تتمدد في الفرد والجماعة بقدر ما يفقد الإنسان من المعرفة والإنضباط، وأكثر ما تظهر الأنانية في النضال السياسي، وفي مستوى من مستويات التعطش إلى السلطة والمال، وهما عصب المسألة في هذه الساحة من النشاط.

على أن عنصر الطموح في حياة المناضل السياسي ضروري، والذي لا يطمح لأن يصبح رئيس بلدية أو برلمانيا أو وزيرا أو رئيسا لا يصلح للنضال السياسي، وليكون لهذا الطموح جدوى سياسية في النضال الجماعي ينبغي أن ينضبط بعوامل أخرى أهمها الانضباط الحزبي والتنمية المعرفية؛ لأن ولوج عالم السياسية له مغرياته التي لا تصمد أمامها النفوس الضعيفة، ومن ثم فإن الذاتية ضرورة ولكنها لا ينبغي أن تتحول إلى أنانية هادمة لكل ما يعترض طريقها.

فالسر في انقسامات الأحزاب والاستقالات فيها إذن يكمن في ضعف الانضباط التنظيمي، وضحالة الزاد المعرفي، الممهدان لتضخم الذاتية وانتفاخ الأنا، وذلك واضح ليس في الاستقالات والانقسامات فحسب، وإنما هو ظاهر أيضا في الزمر المهاجرة من الأحزاب إلى أحزاب أخرى، حيث يبدأ المناضل نضاله في حزب.. ثم ينتقل إلى حزب آخر.. وينهي مساره في حزب ثالث، ورابع وخامس وهلم “جريا”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • الطيب / الجزائر

    لا يوجد في ساحتنا السياسية صراع أفكار يا أستاذ بقدر ماهو صراع أشخاص و من أجل مصالح آنية و بأنانية و الذي نسميه " نضال " هو في الحقيقة انتماء أعمى ــ في غالب الأحيان ــ لجماعة معينة هي التي تخطط و هي التي تقرر و هي التي تتكلم أما " المناضل أو المتعاطف " فحضوره من أجل التصفيق و هناك مَن لا يعلم حتى على ماذا صفق رغم تواجده في القاعة !!