-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مهندسو الاستئناف الحضاري

بن يغزر أحمد
  • 723
  • 0
مهندسو الاستئناف الحضاري

تخيل أنك تملك قطعة أرض وتفكر في إقامة مسكن عليها، أكيد أن أول ما يخطر ببالك هو صورة ذهنية مفترضة عن هذا المسكن المستهدَف، عن حجمه، عن طوابقه، عن مداخله، عن عدد غرفه…

ستحتاج لاحقا إلى أن تنقل هذه الصورة الذهنية المُتخيَّلة إلى مكتب مهندس معماري ليجسد خيالك في رسم ومُخطط على الورق، مراعيا في ذلك كل القواعد العلمية والتقنية والقانونية التي يتطلبها المشروع.

وبعد استكمال هذه الخطوة يستلم المَهمَّةَ البَناء الذي يشرع في التجسيد العملي للمشروع خطوة خطوة وفق الرسم الهندسي المُعدّ مسبقا.

لو وضعنا عبارة (مشروع الاستئناف الحضاري) محل عبارة (مشروع بناء سكن) فهل يكون ذلك عمليا صحيحا؟

لنُحدد أولا بصيغة مُبسطة وواضحة ومُختصرة الخطوات التي أشارت إليها الفقرة السابقة لمشروع فردي لبناء مسكن:

الخطوة الأولى: صورة ذهنية مُفترضة للمسكن.

الخطوة الثانية: رسم تخطيطي للمسكن على الورق من إنجاز المهندس المعماري.

الخطوة الثالثة: شروع البنَّاء في الإنجاز.

فإذا تعلق الأمر برغبة وأمل أمة لاستئناف حضاري تنشده، وتأمل في تحققه واقعا، فإن الخطوات قياسا على ما سبق هي:

الخطوة الأولى: صورة مفترضة لمشروع الاستئناف على مستوى أفراد الأمة أو على الأقل على مستوى الطليعة المُبدعة فيها ذات الرؤية والحركة والفعالية.

الخطوة الثانية: خطط لمشاريع جزئية وبرامج تفصيلية متكاملة تمثل القواعد الأساسية والركائز التأسيسية لمشروع الاستئناف في صورته الكلية.

الخطوة الثالثة: العنصر البشري القادر على تحقيق هذه المشاريع والبرامج على المستوى الواقعي في أشكاله الجزئية مع استحضار عميق ودائم للرؤية الكلية للمشروع.

من الواضح أن ما توفر على مستوى الخطوة الأولى في مشروع الاستئناف الحضاري من كسب مهمّ ومناسِب، قد تكون صوابيته وجودته متفاوتة، وقد يكون في حاجة إلى تحيين زمني، لكنه ساهم ولايزال في إثراء وتخصيب المُخيلة الجماعية للأمة عن النهضة المنشودة، والاستئناف المأمول، وغذى طموح أجيال ودفعها للتفاعل الإيجابي مع هذا المشروع رغم الظروف والأخطاء والانتكاسات والمُعوقات من كل جهة، وحققت الأمة بتأثير منه إنجازات معتبرة ليس أقلها استرجاع استقلالها من المحتل الأجنبي، واستشعار سيادتها وهويتها.

ويُمكن أن نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى الإسهامات النظرية والعملية التي تمت على هذا المستوى طيلة القرن الماضي ومع مطلعه من قبيل إسهامات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وابن باديس وشكيب أرسلان ومالك بن نبي وغيرهم، تجربة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928، جمعية العلماء المسلمين في الجزائر سنة 1931، واجتهادات أبي الأعلى المودودي ومحمد إقبال في شبه جزيرة الهند، وحركة بديع الزمان النورسي في تركيا…

ويمكن أن نُضيف لهذا الرصيد، الإسهامات والمحاولات التي قامت بها أطيافٌ فكرية وسياسية أخرى لها حضور في تاريخ الأمة بشكل متفاوت في هذا المجال كالتيارات القومية والوطنية والحداثية.

لقد تراكمت تجربة ثرية جراء كل هذه الجُهد الاستئنافي بنجاحاته وإخفاقاته، وتكفل الزمن والتجربة بغربلتها، وهي في حاجة اليوم إلى فحص ومراجعة وقراءة نقدية ورَسملة للبناء عليها في باقي المسيرة، على أن نتخلص ونحن نفعل ذلك من كل الميول الإقصائية، ونزعات توهُّم امتلاك الحقيقة.

من الملاحظات التي يُمكن أن تجلب الانتباه عند التأمل في مختلف هذه التجارب والمساعي، أو عند محاولة الإمساك بالديناميكيات التي كانت تؤطرها أن ما كان ينقصها بشكل أساسي أو على الأقل الغالب منها كامنٌ في الخطوة الثانية؛ خطوة تحويل الأفكار الكبيرة، والأماني الحالمة إلى مشاريع قابلة للإنجاز والديمومة.

إذا كانت الخطوة الأولى في مسيرة الاستئناف كانت من صنع أهل الفكر ورموز الإصلاح وقادة السياسة وغيرهم ممن ينتمي إلى مجالهم، فإن الخطوة الثانية تحتاج -في اعتقادي- إلى نوعية أخرى من الكفاءات، وصنف مغاير من الأداءات بالنظر إلى المَهمَّة المطلوبة، والأدوار المنتظرة.

وإذا كان بناء مسكن يحتاج إلى مهندس يضع مُخططه على الورق مراعيا المقاييس التقنية والقانونية والجمالية، والتي قد لا تكون في حساب حتى صاحب المنزل نفسه، فإن مشروع الاستئناف الحضاري يحتاج بدوره إلى (مهندس) يجمع بين إدراك الخلفية النظرية لهذا المشروع كما تُطرح من قبل أهل الفكر وقادة الإصلاح ورموز الفعل السياسي، وبين مهارة هندسة مشاريعه العملية على الورق، وهذا يعني أن هذا الدور يقتضي في من يتولاه نزعة تخطيطية وتقنية وعملية.

وبصيغة أخرى إن كان ما يحتاجه من يقوم بالدور الأول هو: أن يفكر، أن يكتب، أن يخطب، أن يحشد، وعلى هذا المستوى فإن الخبرة وافرة، والكسب معتبر، ولا يعني ذلك تحقيق الكفاية، فالزمن والواقع يتحولان بشكل مستمر، والنوازل لا تنتهي، والاحتياج إلى التفاعل مع المستجدات لا يتوقف.

إنّ من يقف على رأس الدور الثاني يحتاج إلى: أن يُخطط، أن يرسم، أن يراقب، أن يتابع، أن يُعدِّل، أن يُطوِّر، والاجتهادات على هذا المستوى وإن كانت حاضرة فإنها أقلّ من المطلوب في كمّها وأدنى من المتوقع في مستوى جودتها.

إن كان من مثال في التاريخ يمكن استدعاؤُه هنا للتدليل على أهمية الأمر فهو تجربة النهضة الأوروبية، فهي مُحصلة لجهودٍ تنظيرية قادها فلاسفة وأدباء ومفكرون، لكن ذلك لم يكن لينجح من دون العمق الاجتماعي الذي أعطته لهذه الأفكار طبقاتٌ اجتماعية فاعلة (الطبقات البورجوازية في أوربا)، لتصير بعد ذلك برامج سياسية واقتصادية راسخة.

وإذا كانت مقاييس النَّجاح في الدور الأول هي القدرة على إثارة الشغف وصناعة النظرية والإقناع بها والحشد لها وتجديدها باستمرار، فإن مقاييس النجاح في الدور الثاني الذي يتولاه مهندس الحضارة هي المهارة في تحويل النظريات إلى مشاريع، والأفكار إلى برامج، والانتباه الدقيق إلى كل الاستحقاقات التي بتطلبها ذلك.

ذلك ما أقصده بمهندسي الحضارة، إنهم يتمركزون من حيث المَهمّة وسطا بين من يؤدي وظيفة التبشير بمشروع الاستئناف، وتوفير مادته التنظيرية، والحشد البشري له، وبين من يقوم على وظيفة إنزال الأشكال والبرامج التنفيذية لهذا المشروع على أرض الواقع.

يتعلق الأمر بذهنية ونمط نظر، وأسلوب حركة بالأفكار، قد لا يتطلب إيعازا ولا تبنيا ولا اختصاصا مؤسسيا بالضرورة وإن كان ذلك محبَّذا ومطلوبا، لكن الوعي به، والحاجة إليه، هو الذي يُنتج من يقوم به،  أفرادا وهيئات، فضلا عن الحضور الضروري له على مستوى مختلف الفئات الاجتماعية.

وإن كان من مثال في التاريخ يمكن استدعاؤُه هنا للتدليل على أهمية الأمر فهو تجربة النهضة الأوروبية، فهي مُحصلة لجهودٍ تنظيرية قادها فلاسفة وأدباء ومفكرون، لكن ذلك لم يكن لينجح من دون العمق الاجتماعي الذي أعطته لهذه الأفكار طبقاتٌ اجتماعية فاعلة (الطبقات البورجوازية في أوربا)، لتصير بعد ذلك برامج سياسية واقتصادية راسخة.

لقد أصبحت الحاجة ماسة وضاغطة إلى هذا الدور لإعطاء مشروع الاستئناف الحضاري دفعا عمليا، يعبّر من خلاله من مرحلة الرغبات والأشواق والتطلعات إلى مرحلة التجسيد العملي ومراكمة الإنجازات بشكل متدرِّج ومتصاعد وناجع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!