-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ميلاد طاغية؟

التهامي مجوري
  • 2372
  • 2
ميلاد طاغية؟

تابعنا الكثير اخبار جرائم طواغيت الأرض، وقرأنا عنها الكثير أيضا، وحُدِّثْنا عنها أكثر، بحيث أضحى الواحد منا لا يعجزه التعبير عن مفهوم الطاغية بأبلغ ما تكون العبارات والتوصيف، ومن يعجزه التعبير لا يعجزه استحضار فرعون والحجاج وهتلر وموسيليني وستالين وبينوشي وصدام حسين وحافظ الأسد وجمال عبد الناصر وغيرهم وغيرهم…

ولكن لم يحدّث الواحد منا نفسه بشيء عن كيفية ميلاد هذا الطاغية؛ لأن الطاغية لا يولد طاغية، وليس قدرا محتوما يسقط على الناس من السماء دون سابق إنذار، أو أنه يولد من خارج منظومة المحتمع ومؤسساته، وإلا اتهمنا الله في عدله مع خلقه.

إن الطاغية كغيره من الناس، يولد فيكبر ويصبح طفلا، ثم شابا وكهلا وشيخا بعد ذلك، إذا أمد الله في العمر، ويمر بصعوبات ومكارم ومكاره، ويثني على الناس ويشكرهم ويشكرونه ويثنون عليه في مرحلة من مراحل حياته، ويمقت الناس ويمقتونه، ويحب ويبغض، ويصح ويمرض.

ومروره بهذه المراحل العمرية يقتضي أنه لم يكن طاغية في مرحلة منها على الأقل، إذ عندما كان طفلا يفترض أنه لم يكن طاغية، وعندما كان شابا أغلب الظن أنه لم يكن طاغية أيضا…؛ لأن طبيعة الشبابا البحث عن آخر يألفه ويصاحبه ويستعين به، فمتى أصبح طاغية؟ وكيف تحول من شخص طبيعي إلى طاغية في كهولته أو شيخوخته؟

على أن الطاغية يولد كما يولد كل الناس، ينزل من بطن أمه باكيا كما يبكي كل الأجنة عندما تستقبلهم الدنيا مرحبة بهم، ويعيش طفولة بأنانية مفرطة وتعلقٍ كبير بالأشياء التي تعجبه، والتي لا تعجبه يرفضها بقوة وإصرار، مثله مثل أي طفل في الدنيا، يعبر عن الأولى بالفرح والضحك وظهور الرغبة على ملامحه، ويعبر عن الثانية بالصراخ والبكاء وملامح الاشمئزاز على وجهه، وعندما يكبر قليلا يحاول أن يتنازل عن بعض طفولته لغيره ممن يحيطون به من الأصدقاء والأقارب والجيران، وعندما يشب يبدأ في التقرب من الآخرين ليتخذ منهم أخلاء وأصدقاء ويفجر طاقاته الكامنة بينهم وفق ما استقر عنده من مفاهيم وقناعات واستعدادات للتضحية، وعندما يبلغ سن الكهولة يكون أكثر نضجا فتصقل خبرته وسلوكاته بما جد في حياته من مسؤوليات وأخيرا عندما تهجم عليه مرحلة الشيخوخة يكون قد انتهى دوره الفعال؛ لأنه استنفذ –في الغالب- الطاقة التي كان يحملها في شبابه وكهولته.

فجميع هذه المراحل تنطبق على الطاغية كما تنطبق على غيره من بني البشر، كقوانين ثابتة من لوازم الحياة، يتساوى فيها الغني والفقير، والعزيز والحقير، والخيِّر والشرير، الجميع يخضعون لتجارب كأفعال وردود أفعال منهم ومن محيطهم، وهنا ييدأ اختلاف الطاغية عن غيره من البشر، وذلك انطلاقا من مرحلة الطفولة، وليس عند الاصطدام بالواقع، فلا نقول عن فرعون أنه أصبح طاغية عندما أرسل إليه موسى، وإنما هو طاغية من قبل عندما (استخف قومه فأطاعوه) كما قال عنه الله في القرآن الكريم، وقبل ذلك، طغى عندما تهيأ له الجو الذي صنع فيه الشعور بالألوهية.

فالطفل الذي يمارس أنانيته ولا يجد من يقول له لا، ليس هكذا، لا تفعل، عيب “مايليقش”… ويستمر على هذه الحال، سوف لن يكون إلا أنانيا، والأنانية مادة خام لصناعة الطغيان والاستبداد والتمتع باستعباد الآخر، وكذلك عندما يتعرض للمنع المتواصل، لا تفعل.. ليس هكذا.. لا يليق..، بحيث يتحول الطفل إلى لقمة سائغة للطواغيت والمستبدين، أو متمرد على واقع يريد حرمانه من ممارسة حريته التي خلق بها، ليمارسها في الواقع كما تملي عليه ميولاته، وهنا يتحول إلى طاغية ينتقم من الواقع الذي استبد به.

لا شك ان الطفل في أمس الحاجة إلى التوجيه في طفولته المبكرة خاصة، ولكن ما يؤثر عليه سلبا ويصنع منه شخصا غير طبيعي، عندما يتعرض للمنع المستمر، أو إطلاق العنان له بإطلاق، فيجبر على وجهة واحدة باستمرار فيعيش حرا طليقا يمارس أنشطته كيفما اتفق بلا توجيه ولا منع ولا استدراك، أو يعيش مكتوم النفس لا يملك فعل شيء تشتهيه نفسه… وعندما لا يشعر بأنه يمارس حريته، أو يشعر بأنه يمارسها بلا رقيب ولا حسيب، تنمو فيه الأنانية بقوة، سواء للإنتقام من واقع لم يسمح له بممارسة حقه في التمتع بالحرية التي حباه الله بها، او بفرض ما تربى عليه وهو رفض كل من يقول له لا؛ لأنه لم يرب على ذلك، فيكون مرشحا لأن لا يكون سويا، ومن ثمار ذلك تحوله إلا طاغية…، هكذا يولد الطاغية في مرحلة من مراحل عمره.

فالأسرة التي تجبر الطفل على لون معين من القول والفعل والسلوك هي في الحقيقة تعمل على صناعة كذاب ومناقف وطاغية ومستبد؛ لأن الحرية بالنسبة للإنسان بضاعة غير قابلة للبيع، وكما قال العلامة ابن باديس رحمه الله “من يتخلى عن حريته يتحول إلى جماد، ومن يعتدي على حرية غيره يتحول إلى وحش مفترس” [الشيخ عبد الحميد ابن باديس حياته وآثاره، للدكتور عمار طالبي]، والطاغية من النوع الذي يعتدي على حريات الغير.

ولذلك كان أفضل التعامل مع الطفل في مراحل عمره الأولى، العطاء والمنع، والترهيب والترغيب، والتخويف التشجيع على الإقدام، والتحذير والتحريض، وكل تركيز على جانب واحد دون ما يقابله وما يعاكسه يحول الطفل عن الاعتدال والتوازن، ومن ثم يكون مرشحا للانحراف ومن بين الانحرافات التي يتعرض لها بسبب ذلك الطغيان [نظرية إريك اركسن، في النمو النفسي الاجتماعي].

قد يجتاز الطفل هذه المرحلة بسلام لأن نشاطه محدود وممارساته قليله، ولكنه عندما يتحول إلى مؤسسات المجتمع: المدرسة والشارع والسوق والملعب والحومة… سوف يستقبل مواد أخرى شبع مصنعة لصناعة الطاغية، ذلك أن المجتمع له قوانينه هو الآخر ليست بالضرورة هي التي كانت في الأسرة، والطفل لم يبق طفلا وإنما تحول إلى مستويات أخري ومراحل عمرية أخرى، مراهقة.. شباب وكهولة وشيخوخة، وأهم هذه المراحل وأخطرها وأكثرها تعرضا “لصناعة الطاغية”، هي مرحلة المراهقة وهي مرحلة تحول قوية من الطفولة إلى مرحلة الشباب، مثل الأوجاع التي تصيب العضلات عند ممارسي الرياضة عندما تبدأ في التحول، فالمراهقة هي مرحلة إثبات الذات والشروع في صنع الهوية، ومرحلة يغلب عليها طابع التفلت؛ لأن الطفل فيها يريد أن يكون هو وليس غيره، ولكن عندما يحرمه المجتمع من إثبات ذاته بالمنع المطلق أو بإطلاق الحبل على الغارب، يكون مرشحا لأن يكون طاغية أيضا أو من ضحايا الطاغية الذين هم أفضل من يصنعه؛ لأنه لم يسمع يوما من قال له لا، أو لا تفعل، أو ليس هكذا…، وإنما سار بوتيرة تعلم فيها أنه هو الذي يقول وهو الذي يفعل وليس غيره ومن ثم فهو الأولى بكل شيء، فيصبح طاغية بسبب ذلك، أو أنه يرى نفسه مكبلا لا أحد يسمح له بفعل شيء فيتمرد كما تمرد الطفل من قبل… أو يستسلم للواقع الذي يعيش فيه، فلا يرى من نفسه إلا كالريشة في مهب الريح، بحيث يتحول إلى مادة رمادية لصناعة الطغيان؛ لأنه سوف يلاقي الكثير من الآراء والمفاهيم، وبحكم أنه لم يصادف يوما أن كان شريكا في ذلك، فإنه يتحول إلى عبد مستسلم لكل رأي وفعل.

والصورة الثالثة التي يولد فيها الطاغية هي عندما يدخل المرء الحياة العملية وممارسة الأنشطة الجماعية عموما، ابتداء من الحياة الأسرية وغيرها من مواقع المسؤولية، فيكون مسؤولا على فريق عمل في إطار مؤسسة إدارية أو اقتصادية مثلا، أو منصب سياسي أو جمعية أو حزب سياسي، ولا يجد من يقول له لا ليس هكذا، بحيث لا يسمع إلا نعم سيدي، هكذا الشاف، نعم الرايس…، وعلى مر الأيام يتحول هذا الإحجام عن قول لا إلى حق مطلق للسيد المسؤول أو السيد الرئيس، بحيث يشعر بان قول لا في غير صالح المؤسسة ومضاد للمصالح العامة أو في غير صالح الخير…

فعلموا أولادم قول لا، وعلموا شبابكم قول لا، وعلموا عمالكم ومن في مسؤولياتكم من العمال والمتعاملين والنشطاء قول لا؛ لأن من أسباب طغيان فرعون كما أسلفنا أنه استخف قومه فأطاعوه. فالطغيان ليس بالضرورة من صنع جهة واحدة، فيكون من صنعكم، أو من اختياركم، كما قد يكون من صنع أطفالكم وشبابكم وأتباعكم الذين لم تقولو لهم لا يوما ما، ولم يقولوا لكم لا في يوم من الأيام، ليس هكذا، فاعتقدتم كلكم أنكم على صواب دائم، بحيث استهنتم بكل من يخالفكم…، ولكنكم حينما يكتب الله عليكم السقوط، فسوف لن يسقط معكم أحد.

فالرئيس القذافي الذي استبد بشعبه، حينما قال له لا ذات يوم بعد عمر طويل من الاستبداد لم يسمع فيه من يقول له لا، كانت النتيجة أن وصف الشعب “بالموسخين المقملين”، ولكن لما سقط، سقط وحده مع حاشيته التي كانت تسبح بحمده، فلم تبكيه شوارع طرابلس ولا ندبته عشيرته التي لم تقل له لا في يوم من الأيام!! وكذلك صدام حسين لم ينفعه ما قدم للعراق من مكاسب وطنية هامة يوم قرر القدر إسقاطه، فلم يجد من يحميه ويسانده؛ لأنه صنع عبيدا ولم يصنع أحرارا يحققون له الحماية له وللوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • مواطن

    بمعنى هذه الأمة هي نتاج سلسلة من الطغاة موغلة في القدم ولاسبيل للفكاك منها لأنها الأصل والحرية والتحرر هما الإستثناء يالطيف ألطف!!!

  • ابن الجبل

    شكرا يا أستاذ مجوري على هذا المقال القيم ، الذي يسلط الضوء على الطاغية ومراحل ولادته ونموه حتى يصبح شابا ثم كهلا ثم شيخوخة . هذا المسار كله ينسى هذا الطاغية كيف تكون نهايته ، ولم يحدث نفسه يوما أن يراجع نفسه ، ويفعل خيرا لعل الله ينجيه من عذاب يوم القيامة . وقد أكد الله تعالى مأوى الطاغية في القرأن الكريم : " ... فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى ..."الأيات 37 38 39من سورة النازعات ... فهل يعتبر الطاغي ويستغفر ويتوب قبل فوات الأوان ؟! . يا أيها الناس توبوا الى ربكم قبل ان تفاجئكم الموت بغتة ...!!!