-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نحو منهجية لبناء نموذج تربوي عملي في الجزائر الجزء الأول

بقلم: مصطفى عشوي
  • 484
  • 0
نحو منهجية لبناء نموذج تربوي عملي في الجزائر الجزء الأول

أوضّح بداية أنني لن أعرض نموذجا تربويا مثاليا أي كما ينبغي أن يكون، بل سأركز على اقتراح منهجية عملية لبناء نموذج تربوي مستقبلي يخدم البلاد ومواطنيها قائم على البحث العلمي وعلى قواسم مشتركة من أهمها “أهداف مشتركة” للمجتمع الجزائري.

أبدأ بطرح بعض الأسئلة:

إذا أردت أن تعرف مستقبل الجزائر بعد عشرين سنة مثلا، فانظر إلى واقع المدرسة الجزائرية حاليا وتأمل في نوعية مخرجاتها بعد انقضاء مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي، وتأمل في مستوى الأجيال الخريجة من “المدرسة الجزائرية” منذ الاستقلال، واسأل: هل تم تقويم هذه المخرجات وفق معايير موضوعية، ومؤشرات دولية، وليس وفق مؤشرات ذاتية أو حالات محددة قد تكون استثنائية؟

وإذا أردت أن تعرف مستقبل المدرسة الجزائرية، فانظر إلى السياسات الحكومية التي تتعلق بالنظام التربوي في البلاد، واسأل: هل التربية القائمة على الجودة أولوية بالنسبة للنظام السياسي القائم في البلاد منذ استرجاع السيادة الوطنية؟

واسأل: هل هناك تخطيط استراتيجي حكومي لتطوير النظام التربوي في الجزائر على أسس علمية موضوعية قائمة على نتائج البحوث العلمية بعيدا عن التأثيرات الإيديولوجية والصراعات السياسية؟

لن نجيب عن هذه الأسئلة في هذا العرض المختصر بصفة مباشرة. ولكن قبل أن نحاول الإجابة، ولو بطريقة غير مباشرة عن مثل هذه الأسئلة وما يرتبط بها من قضايا ومشكلات، ينبغي أن نحدد مفهوم “التربية” في هذا العرض.

نقصد بهذا المفهوم: تنمية الموارد البشرية في إطار نظام رسمي يشمل التعليم، وتطوير الجوانب الذهنية والوجدانية والروحية والسلوكية للتلاميذ والطلاب خلال أطوار متعددة، يقوم بها معلمون وأساتذة وإداريون ومساعدون آخرون.

وقبل البدء في طرح تصور مستقبلي لآفاق المدرسة الجزائرية، ينبغي أن نؤكد أن أيّ محاولة لتغيير النظام التربوي تغييرا جوهريا وتطويره وفق أسس ومعايير موضوعية لن تتم بطريقة فعالة إلا إذا توافرت الشروط الآتية: إرادة سياسية، إرادة اجتماعية، الاستفادة من التجارب العالمية بوعي، التقويم الموضوعي الشامل للنظام التربوي القائم، التخطيط الاستراتيجي، والتقويم الموضوعي المستمر لأداء النظام التربوي.

سنتطرق إلى معظم هذه المفاهيم والمهام الرئيسة بشيء من الشرح؛ إذ تشكل في مجملها أركان النموذج التربوي الناجح الذ نقترحه للمناقشة والإثراء.

 التجارب العالمية:

تبين التجارب العالمية أن تغيير النظام التربوي وتطويره هو أساس التطور في شتى المجالات والميادين وفق الرؤية والرسالة اللتين توضعان للنظام التربوي المراد تغييره وتطويره.

وأن التغيير والتطوير يقودهما قادة سياسيون إستراتيجيون ذوو رؤية بعيدة المدى يحبون بلدانهم ويسعون إلى ترقيتها وتطويرها، وخبراء وعلماء مختصون في شؤون التربية والتعليم والتنمية الشاملة همهم تطوير التعليم والتربية ورقي البلاد.

إذا أخذنا النموذج التربوي الفنلندي مثالا، فإننا نجده يقوم على مبادئ مهمة جدا. من أهم هذه المبادئ: تطوير إبداع الأطفال وذكائهم، اكتشاف مواهب الأطفال وصقلها، احترام اختيارات التلاميذ والطلاب وتحفيزهم، والتعليم القائم على المفاهيم؛ وهو تعليم يحث التلاميذ والطلاب على التفكير بعمق في المحتوى الذي يدرسونه، وفي الوقائع أو البيانات التي يحصلون عليها بشتى الوسائل من البيئة والمحيط بصفة عامة.

وهذا النوع من التعليم يستدعي أن يقوم التلاميذ والطلاب بنقل معارفهم بين التجارب الشخصية، والتعلم من تخصصات متعددة، والتعلم من المحيط الاجتماعي الواسع.

وقد طبقت النموذج الفنلندي الذي يركز على الرياضيات والعلوم والقراءة عدة بلدان مما أدى إلى تطور أنظمتها التربوية. وقد بدا ذلك التطور واضحا من خلال التقويم الدولي لأداء التلاميذ والطلاب المسمى بيزا (Programme for International Student Assessment, PISA)

يشرف على هذا التقويم أو الاختبار الدولي الذي يجرى كل ثلاث سنوات منذ سنة 2000: “منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي” (OECD).

الهدف الأساسي لهذا الاختبار الدولي هو “تقدير أداء الأنظمة التربوية من خلال تقويم معرفة التلاميذ الذين يبلغون 15 سنة في كل من الرياضيات والعلوم الطبيعية (الأحياء) والقراءة بالإضافة إلى مهاراتهم في حل المشكلات”.

وفي ضوء نتائج هذا الاختبار الذي يعدُّ معيارا دوليا في أداء الأنظمة التربوية وخاصة في مرحلة التعليم المتوسط، تقوم بعض الدول باتخاذ قرارات حاسمة في تطوير أنظمتها التربوية لمسايرة التطوُّر العالمي في مجالات الرياضيات والعلوم والقراءة.

ومع الأسف، فإن النظام التربوي الجزائر يحتلُّ المراتب الأخيرة عندما تطبَّق عليه المعاييرُ الدولية في الجودة، وفي الأداء بصفة عامة.

ورغم أن النظام التربوي في الجزائر، ومنذ استرجاع السيادة الوطنية، قد استعان ببعض التجارب الدولية إلا أن “الأنظمة التعليمية المستعارة” لم تنجح بالمستوى المرجو في الجزائر لأنه لم تتوافر لها الشروط الموضوعية للنجاح.

الأسس النظرية للنماذج التربوية السائدة في العالم

يتحدث بعض خبراء الفلسفة التربوية مثل روبينز (Robeyns, 2006) عن ثلاثة نماذج للتربية والتعليم سائدة على المستوى الدولي. وهذه النماذج هي: نموذج الرأسمال البشري (Human Capital Model)، نموذج حقوق الإنسان (Huma Rights Model)، ونموذج القدرة أو الكفاءة (Capability Model).  وفيما يلي تعريف مختصر لكل نموذج دون تقديم الخوض في نقد هذه النماذج أثناء هذا العرض المختصر علما بأن لكل نموذج إيجابياتِه وسلبياته.

  • نموذج الرأسمال البشري: يندرج هذا النموذج في إطار النظرية الاقتصادية الليبرالية الجديدة. يعتبر هذا النموذج التعليم مهما ومناسبا إذا يؤدى إلى اكتساب المهارات وتحصيل المعارف التي تستخدم كاستثمار في إنتاجية العنصر البشري كعامل إنتاج اقتصادي.
  • نموذج حق التعليم: يندرج هذا النموذج في إطار نظرية حقوق الإنسان التي ترى أن التعليم حقا من الحقوق الإنسانية التي ينبغي للدول تقديمه لجميع المواطنين مجانا خاصة في أطوار التعليم الأولى. ومن أهم المدافعين عن هذا النموذج منظمات الأمم المتحدة مثل اليونيسكو واليونسيف.
  • نموذج القدرة أو الكفاءة: يعتبر هذا النموذج أو المقاربة إطارا معياريا واسعا للتقويم الاجتماعي لجودة حياة الفرد وظروفه، تصميم السياسات، ومشاريع التغيير الاجتماعي لمجتمع ما. وقد ظهرت هذه المقاربة في العشرية الأخيرة من القرن العشرين. وتعرَّف القدرات في إطار هذه المقاربة بأنها “الوظائف المتعددة التي يستطيع الشخص بلوغها إذ تشكل هذه الوظائف العناصر الأساسية للحياة أي العناصر الضرورية للعمل وللوجود” (Acting & Being).

يعدّ هذا النموذج من أوسع النماذج إذ يركز على الجوانب النفعية للتربية بالإضافة إلى جوانب ترقية الإنسان كما يركز على الأدوار المختلفة للنظام التربوي، ويقوم على ضرورة مراجعة السياسات التربوية وتقويم هذه الأنظمة.

ولاشك، أن الجزائر ومنذ استرجاع السيادة الوطنية، قد طبقت النموذج الثاني، وهو نموذج “حق التعليم” كحق أساسي لجميع المواطنين؛ إذ طبقت الجزائر مبدأ “ديمقراطية التعليم”، ونشر التعليم في جميع ربوع الوطن، كما استثمرت البلاد في مجالي التكوين المهني والتعليم العالي داخل وخارج الوطن استثمارا كبيرا مما أدى إلى محو الأمية، وتخريج الآلاف من المتعلمين والمثقفين والعلماء والخبراء في شتى الميادين.

أما النموذج الثاني فلم يُطبق إلا جزئيا في بعض المدارس العليا المتخصصة، في حين  نجد للنموذج الثالث القائم على القدرات صورة تطبيقية ولو جزئية في الجزائر فيما يعرف بـ”المقاربة بالكفاءات”. وقد بدأ تطبيق هذه المقاربة منذ العام الدراسي-2003 2004.

وقد نعدّ هذا النموذج الثالث الذي يحث على تقويم السياسات التربوية القائمة، مدخلا لموضوعنا الذي يحاول وضع تصور لنموذج ناجح للنظام التربوي في الجزائري وفق منهجية علمية دون الدخول في تفاصيل هذا النموذج.

وغنيٌّ عن البيان أن اقتراح أي مشروع أو أي صياغة نموذج تربوي لمجتمع في طور النمو مثل المجتمع الجزائري يتجاوز قدرة أي فرد أو جمعية أو فريق من الخبراء أو أي نظام سياسي، بل هو مسؤولية كل هذه الأطراف مع شركاء اجتماعيين سنذكرهم عند عرض منهجية تقويم النظام التربوي القائم في الجزائر.

ولوضع تصور لنموذج تربوي ناجح، ينبغي -في تصوري- البدء بتقويم النظام التربوي القائم تقويما موضوعيا شاملا كما سنوضح فيما سيأتي.

منهجية تقويم أداء النظام التربوي في الجزائر

ليس الهدف هنا تقويم أداء النظام التربوي بل وضع تصور منهجي للقيام بهذا التقويم كمنطلق لبناء نموذج أو نظام تربوي متكامل نابع من إرادة سياسية وإرادة مجتمعية صادقة لتطوير البلاد، وتحسين معيشة العباد. وينبغي أن تنبع هذه الإرادة من إدراك الأخطار المحدَقة بالأمة من شتى الجوانب جراء تخلُّفنا علميا وتكنولوجيا وإداريا وتربويا بل وتخلفنا حضاريا وثقافيا.

ولا شك أن هذا الإدراك ودق ناقوس الخطر على المستوى السياسي والمجتمعي هو الذي يؤدي إلى استنهاض الهمم والبحث العلمي لوضع تصورات منهجية وعملية لتطوير النظام التربوي في البلاد؛ إذ أن هذا التطوير هو أساس أي تقدم حضاري.

إذا أردت أن تعرف مستقبل الجزائر بعد عشرين سنة مثلا، فانظر إلى واقع المدرسة الجزائرية حاليا وتأمل في نوعية مخرجاتها بعد انقضاء مراحل التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي، وتأمل في مستوى الأجيال الخريجة من “المدرسة الجزائرية” منذ الاستقلال، واسأل: هل تم تقويم هذه المخرجات وفق معايير موضوعية، ومؤشرات دولية، وليس وفق مؤشرات ذاتية أو حالات محددة قد تكون استثنائية؟

قد تُعَدّ الولايات المتحدة مثالا جيدا في هذا المجال؛ إذ دقت “ناقوس الخطر” حول ضعف المستوى الدراسي للطلاب الأمريكيين مقارنة بالدول المتقدمة صناعيا، وبناء على المعايير الدولية التي بينت تراجع ترتيب الولايات المتحدة في التعليم على المستوى الدولي.

شكّل وزير التربية الأمريكي سنة 1983 لجنة وطنية من أعضاء يمثلون قطاعات مختلفة  لإعداد تقرير حول هذا الموضوع؛ فقدمت اللجنة بعد نقاش وطني واسع تقريرها تحت عنوان: “أمة في خطر” (A Nation at Risk). تضمن التقرير 38 توصية مست خمسة محاور أساسية وهي: المحتوى، المعايير والتوقعات، الوقت، التدريس، والتمويل.

إذا أخذنا النموذج التربوي الفنلندي مثالا، فإننا نجده يقوم على مبادئ مهمة جدا. من أهم هذه المبادئ: تطوير إبداع الأطفال وذكائهم، اكتشاف مواهب الأطفال وصقلها، احترام اختيارات التلاميذ والطلاب وتحفيزهم، والتعليم القائم على المفاهيم؛ وهو تعليم يحث التلاميذ والطلاب على التفكير بعمق في المحتوى الذي يدرسونه، وفي الوقائع أو البيانات التي يحصلون عليها بشتى الوسائل من البيئة والمحيط بصفة عامة.

وبعد مرور 25 سنة عن تاريخ صدور التقرير، أصدرت منظمة أمريكية تدعى “مدارس أمريكية قوية (Strong American Schools)  تقريرا آخر أكدت فيه “أن الوقت الآن ليس لبحث تربوي أكثر، أو لتقارير أو للجان. لدينا ما يكفي من الأفكار البديهية المدعمة بعقود من البحث العلمي لتطوير المدراس الأمريكية جديا. إن العامل الغائب ليس تربويا على الإطلاق بل عاملٌ سياسي…”.

ولعل إبراز العامل السياسي وأهميته في التغيير والتطوير التربوي هو الذي يؤدي بنا إلى القول إن البلدان التي عرفت طفرات نوعية في أنظمتها التربوية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وفنلندا إنما كان نتيجة قرارات سياسية نيّرة من قادتها السياسيين الذين استفادوا من تجارب الأمم الأخرى التي سبقتها، ومن بحوث وتوصيات الخبراء والقادة التربويين.

… يُتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!