-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا نستثمر في معركتنا مع أدعياء التّنوير

سلطان بركاني
  • 1317
  • 0
هكذا نستثمر في معركتنا مع أدعياء التّنوير

روى الإمام ابن الجوزيّ –رحمه الله- قصّة وقعت أحداثها بجوار الكعبة المشرّفة، ملخّصها أنّه وبينما كان الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم، قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثمّ بال في البئر والناس ينظرون! فما كان منهم إلا أن طافوا به وانهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: “حتّى يعرفني الناس، ويقولوا: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم”!

الغاية التي نَشدها هذا الأعرابيّ الذي أدرك بعضا ممّا طلب، فذكَره أهل زمانه بمنكره الذي أتاه، وعُرف بين النّاس بصاحب الفعلة الشّنيعة، لكنّه ما أن مات حتى خمد ذكره ولم يعد يسمع به أحد؛ غايته هذه لم يزل ينشدها المتطلّعون إلى الأضواء في كلّ زمان، وفي زماننا هذا الذي انتشرت فيه وسائل الإعلام اللاهثة خلف الإثارة، تكاثر هذا الصّنف من النّاس، وتنوّعت الأساليب المنكرة التي يتّخذونها لبلوغ مآربهم؛ لكنّ أسرع وسيلة أصبحت تستهويهم هي الطّعن في المقدّسات وإثارة النّقاش حول المسلّمات؛ فبين الحين والآخر يُخرج لنا الإعلام من غياهب الجهل والجهالة وجوها لا قبل لنا بها، تتحلّى بالصّفاقة، وتطعن –بجهل وجرأة- في الدّين ومصادره ورجاله، وتنتشي عندما توجّه إليها الأضواء وتسيل بذكرها الحناجر والأقلام وتصبح حديث العامّ والخاصّ وتتنافس قنوات الإثارة على استضافتها وتقديمها للنّاس، وربّما تُصبغ عليها من الألقاب ما يُغري السّامعين؛ فهذا باحث في التراث! وتلك باحثة في قضايا المرأة! وهذا مفكّر! وتلك ناشطة اجتماعية… وهكذا، بينما واقع الأمر أنّها ألقاب لا حقيقة لها، كما قال الشّاعر الأندلسي أبو بكر محمد بن عمار المهري:

أسماء مملكة في غير موضعها * كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد.

تجد الواحد من هؤلاء “المنتفخين” يتكلّم بصوت مرتفع ويكتب بلغة استعلائيّة، ويتحدّث بجهل مفضوح في مسائل الزّواج والطّلاق والنّفقة والميراث والدية… ويتحدّى العلماء والمشايخ والباحثين أن يردّوا عليه، بل ربّما يُطاول الهيئات العُلمائيّة والمجامع الإسلاميّة، ويتّهم غيره بالتخلّف والرجعية، ويستدعي الاتّهامات الجاهزة ضدّ كلّ من ينكر “فعلته”، ويستجدي الدّعم الخارجيّ ويدّعي أنّه يهدَّد ويلاحَق بسبب “أفكاره”، وأنّ حياته أصبحت في خطر، وربّما يطلب جنسية إحدى الدّول الأوروبية الحريصة على إيواء أمثال هؤلاء، على الرّغم من أنّه لا هو في العير ولا في النّفير، وقصارى سعيه أنّه يجترّ ما يقوله أمثاله من العلمانيين وأدعياء التّنوير في دول أخرى، ويردّد الشّبه التي أخذوها عن المستشرقين، وهو لا يعلم –ولا يحبّ أن يعلم- أنّ أعلام الأمّة قد ردّوا عليها وأجهزوا عليها في مهدها، بل توسوس له نفسه الأمّارة بالسّوء أنّ أسئلته “تساؤلات جديدة” ألجمت العلماء وجعلتهم يستخفون من النّاس!

هذا الصّنف من هواة الإثارة الذين وجدوا ضالّتهم في قنوات التّهريج التي تتمترس خلف شعار “الرّأي والرّأي الآخر” لزيادة عدد متابعيها، ليس يهمّهم أن يحظوا بأجوبة عن أسئلتهم أو يجدوا من يناظرهم، لأنّ طرح الأسئلة وإثارة الشّبهات حول المسلّمات، هي غايتهم، لذلك تراهم ينتقلون من قضية إلى أخرى؛ فتارة يطعنون في كتب السنّة ويشكّكون في جامعيها، وتارة يشكّكون في ناسخ القرآن ومنسوخه وفي مراحل جمعه، وأخرى يتوجّهون إلى مسائل الفقه التي لم يقفوا على تفاصيلها، وإلى سير الرواة والعلماء… وهكذا.

الأمّة المسلمة تمرّ بمرحلة حرجة، وتعيش محنة خانقة، بسبب إعلام “حمّالة الحطب” الذي تبرّر الغايةُ عنده كلَّ وسيلة، ولو كان الإعلام ينبض بهموم الأمّة لما وجد أمثال هؤلاء المنتفخين موطئ قدم لهم في السّاحة، ولما سمع بهم أحد، ولكانت الأمّة في غنى عن الالتفات إليهم، لكن ولأنّ واقع الإعلام هو على غير ما هو مرجوّ، فإنّ الغيورين على الأمّة ودينها، ينبغي أن يتحرّكوا في ميادين الإعلام البديل للردّ على هؤلاء المتجرّئين بالحجّة والبيّنة، ويناقشوا أحابيلهم بعلم وعزّة، من دون الحاجة إلى الدّخول معهم في مهاترات تغطّي على قوة الحقّ أو الانجرار معهم إلى خصومات تساعد الأدعياء على بلوغ مآربهم في “الشّهرة” و”الحظوة” لدى الزّمر العلمانية.

هذه المحنة التي تعيشها الأمّة المسلمة مع هذا الإعلام ومع هؤلاء المتطلّعين إلى الأضواء، مهما كانت وطأتها صعبة على الغيورين على دينهم، إلاّ أنّها ستحمل معها –بإذن الله- كثيرا من الخير للأمّة؛ ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، لأنّها ستشجّع العاملين لدين الله على مزيد من البحث لكشف زيف الدّعاوى المخالفة لدعوة الإسلام وزيادة اليقين بأحقية الرسالة الخاتمة، وستحمل الدّعاة إلى الله على تجديد أساليبهم وتطوير وسائلهم في مواجهة الباطل.. العلمانيون والملاحدة يجدّدون صياغة شبهات أسلافهم، ويحاولون إيهام النّاس بأنّها نتاج “الحرية العقلية” و”المطالعة الفلسفية”!.. والواجب على الدّعاة إلى الله أن يجدّدوا الرّدود التي كتبها أعلام الأمّة على شبهات المستشرقين، ويضيفوا إليها ما يستدعيه الواقع المستجدّ، ويستفيدوا ممّا وصلت إليه العلوم الحديثة، لزيادة قوتها ومتانتها، ولا شكّ في أنّ هذا كلّه داخل في معنى التّقوى التي أمِرنا بها في قول الله تعالى: ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور)) (آل عمران، 186).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!