-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل نحن في حاجة إلى ديمقراطية مونتيسكيو؟

محمد بوالروايح
  • 1135
  • 4
هل نحن في حاجة إلى ديمقراطية مونتيسكيو؟
ح.م

مات “مونتيسكيو” قبل قرنين أو يزيد ونبت الربيع على دمنته ولكن لا يزال قانون “الفصل بين السلطات” الذي وضعه في كتابه “روح القوانين” مرجعا في القانون الدستوري إلى يوم الناس هذا، وقد تساءلت كما تساءل كثيرون: ما هو الشيء المتميِّز الذي جعل فكرة مونتيسكيو حول السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية القضائية تنال كل هذه الشهرة؟ وهل نحن بحاجة إلى ديمقراطية “مونيسكيو” من أجل بناء مؤسسات الدولة؟ وهل لا يوجد في فقهنا الدستوري ما يمكن أن يشكل بديلا في هذا الجانب؟ وهل الأخذ بتصور وفكر “مونتيسكيو” حول عمل السلطات الثلاث هو شكل من أشكال تبعيتنا الفكرية والقانونية التي تضاف إلى تبعيتنا الاقتصادية والغذائية أم أن الأمر لا غبار عليه من الناحية العلمية فالعلم لا وطن له وقوانين مونتيسكيو حول الجمهورية والديمقراطية هي مظهر من مظاهر الأخذ والعطاء والالتقاء بين الثقافات والشرائع المختلفة؟.

كل هذه التساؤلات المُلحَّة التي أوردتها –وقد عفوت عن كثير- تتطلب أجوبة شافية كافية من المتخصِّصين في القانون الدستوري بحكم أن جل إن لم أقل كلّ ما ورد في كتاب مونتيسكيو “روح القوانين” يدور حول فكرة البناء المؤسساتي المتوازن للدولة الذي لا يتحقق في نظر “مونتيسكيو” إلا بالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحيث تمثل كل سلطة في هذا الثالوث سلطة مستقلة بذاتها.

إن فكرة كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو ليست فكرة جديدة بالمعيار المفاهيمي والتداولي، ففي كتابات من سبقوه ومن عاصروه إشارات إليها، ولكن ما يميز هذا الكتاب هو أن مونتيسكيو جعل فكرة الفصل بين السلطات أكثر واقعية وقابلية للتطبيق بعد أن ظلت حبيسة المخيال القانوني الذي يحسن أصحابه رسم تصوُّر افتراضي للفكرة ولكنهم يعجزون عن إخراجها من دائرة التصور الافتراضي إلى دائرة التكريس الواقعي، وهي المهمة التي نجح فيها مونتيسكيو فتفوَّق بذلك على من سبقوه ومن عاصروه لأنه ببساطة وجَّه كل ثقله لمعالجة التفاصيل و”الشيطان يكمن في التفاصيل”.

قرأت كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو وقرأت تباعا ما امتدحه وما انتقدوه فيه خصومه في مقدمة ذلك الملاحظات التي دوَّنها “فولتير” الذي سيطرت فكرةُ التسامح الديني على فكره وعقله فانصرف إليها بكله وكلكله، وصرف نظره عن غيرها وخاصة الأفكار التي تشجع على الفصل ولو كانت من قبيل الأفكار القانونية البعيدة كل البعد عن العلاقات البينية، هذه الأخيرة التي يراها “فولتير” وغيرُه من تيار المصالحة الدينية أهمّ وأعمّ من كل المقاربات القانونية التي تهتم –حسب تصوُّره- بروح الشريعة ولا تهتم بشريعة الروح، فالأولى تسعى لسيادة القانون والثانية تسعى لسيادة الإنسان. لقد عارض “فولتير” مونتيسكيو بشدَّة في المسألة التي ذكرتها ولكنه ناصره بل بالغ في إطرائه ومواراة بعض جوانب الضعف في كتابه “روح القوانين” نكاية بشانئيه.

لقد لقي كتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو معارضة شديدة من التيارات الدينية الجانسنية واليسوعية على وجه الخصوص لأنها رأت فيه رفضا ماكرا للمسيحية، ولا يعنيني هنا البحث في أسباب وخلفيات هذا الرفض الديني بل يهمني أولا وأخيرا الإجابة على التساؤلات التي أوردتها في المقدمة بشأن الصورة الديمقراطية التي رسمها “مونتيسكيو” للدولة الديمقراطية التي تتمتع فيها السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية بالاستقلالية الكاملة التي لا تعني تجاوز وظيفة ممارسة السلطة إلى وظيفة ممارسة التسلط باسم السلطة.

إن صورة الدولة التي رسم “مونتيسكيو” معالمها وأبان عنها في كتابه “روح القوانين” تقوم على دعامتين اثنتين: الدعامة الديمقراطية، فهو يدعو إلى بناء جمهورية ديمقراطية يكون الحكم فيها للشعب فهو الحاكم والمحكوم والمشرِّع للقوانين، وهذه الجمهورية -في نظره- هي الجمهورية الأفضل والأعدل والأصلح لتحقيق مبدأ العدل بين الأفراد والجماعات على خلاف الجمهورية الأرستقراطية التي يكون الحكمُ فيها للقلة ويكون الشعب هو الرعية، وعلى خلاف أيضا الدولة الملكية التي يمارس فيها الملك وحاشيتُه الحكم المطلق والشعب عوان عندهم لا يملك حريته ولا يملك أمر نفسه.

وأما الدعامة الثانية للدولة التي يسعى “مونتيسكيو” لإقامتها فهي تتعلق أساسا بضمان وحماية الحريات الشخصية. يرى “مونتيسكيو” أن مفهوم الحريات يبقى فضفاضا وعديم المعنى وعديم الجدوى من غير الإقرار بمبدأ الفصل بين السلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية . ويحدد قانون “مونتيسكيو” لهذه السلطات مجالا وظيفيا محددا، فالسلطة التشريعية تسن القوانين ولا تنفذها، والسلطة التنفيذية تنفذ القوانين، والسلطة القضائية تفسر القوانين وتحكم بمقتضاها. ويتمخض عن استقلال السلطات الثلاث -في نظر مونتيسكيو- تحقيق سيادة الدولة التي هي غاية الديمقراطية وأساس الدولة الجمهورية. ولمبدأ الفصل بين السلطات في فكر مونتيسكيو مقصدان اثنان: أوَّلهما ضمان استمرار واستقرار الدولة لأن اجتماع السلطات في سلطة واحدة يؤدي إلى الاستبداد، وثانيهما أن الفصل بين السلطات هو الوسيلة الوحيدة لاحترام القانون والحريات الفردية والحقوق.

تمثل ديمقراطية “مونتيسكيو” أنموذجا أرقى مقارنة بالنماذج الديمقراطية الأخرى وذلك لقيامها على مبدأ الفصل بين السلطات الذي كان فتحا حقيقيا وفخا حقيقيا في زمن مونتيسكيو، فتح حقيقي لأنه كان ثورة على النظام الملكي الأرستقراطي الاستبدادي الذي انتشر في فرنسا وربوع أوروبا ومنها إلى مناطق أخرى من العالم، وفخّ حقيقي استطاع من خلاله “مونتيسكيو” الإيقاع بمناوئيه وتشكيل معارضة داخلية من الطبقات الشعبية التي لم تكن في السابق قادرة على الاعتراض والامتعاض فوجدت نفسها قادرة على إسماع صوتها وإثبات وجودها والانتقال من ذل المحكومية إلى شرف الحاكمية.

لقد كانت ديمقراطية “مونيسكيو” صورة مضيئة لفرنسا بعد حقبة ظالمة ومظلمة يملك فيه الملك ويحكم “لا معقب لحكمه”، لقد جسد “مونتيسكيو” هذه الصورة بعد تنقلاته وسفرياته إلى البلاد الأوروبية وعكوفه على دراسة القانون حتى لان له ثم انتقل من الدراسة إلى وضع مخطط للممارسة فحدث التغيير السياسي المنشود الذي ناضلت الشعوب المضطهَدة من أجله لعهود.

ليس في ديمقراطية “مونتيسكيو” جديدٌ لافت للنظر؛ فالفصل بين السلطات ومحاربة الاستبداد كلها مبادئ مكرَّسة في تراثنا الدستوري، ولكنها بقيت مادة مكدسة لأن بناء الدولة لم يشكل أولوية للعقل العربي منذ الأفول الأموي، في منظومتنا الدستورية والقانونية تفاصيل مملة عن “الأحكام السلطانية” القائمة على تحريم الاستحواذ وتجريم الاستبداد في الحكم، وليس هناك أفضل ولا أجمل ولا أعدل من مبدأ الشورى الإسلامي، وفي تراثنا الدستوري العربي الإسلامي ما يغنينا عن ديمقراطية “مونتيسكيو” ولكننا غفلنا عن هذا التراث فأخذه غيرُنا وطوّروه وحوروه وأضافوا إليه ثم أعادوه إلينا في ثوب غربي، فانطبق علينا قوله تعالى: “ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة”.

في ظل هذا الواقع الذي لا نحسد عليه، وجدنا أنفسنا زبائن لدى “مونتيسكيو” وغيره “فالغالب مولع دائما بإتِّباع المغلوب”، وعلى أمل أن يتغيَّر حالنا ونعود إلى “أسلحتنا” أقول شكرا مونتيسكيو لأنك علمتنا مبادئ الديمقراطية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • خيرالدين هني

    الفصل بين السلطات مبدأ دستوري ترقى عبر نضالات كبار المفكرين، من أمثال هوبز ولوك وغيرهما حتى وصل إلى مرحلة النضج على عهد مونتيكسيو، والعقل الآري -مع الأسف- قابل للتعلم والتطور، لذلك تراه يسارع إلى قبول الأفكار والنظم الجديدة، ولكن العقل العربي مصاب بالنكوص، لذلك لايقبل التعلم والتربية والتطور.

  • أ.د/ غضبان مبروك

    تطور "مبدأ الفصل بين السلطات" لا حقا الى مبدأ "تقاسم السلطات" لكن هذا التطور الأكثر شيوعا والأسهل فهما اليوم لم يمس بركائز المبدأ العام ولاسيما ركيزتي: التوازن والرقابة. أي التوازن بين السلطات والرقابة فيما بينهما. فدساتيرنا وان نصت على المبدأ ، فانها تناست الكيزتين ، وان نصت عليهما فانها أفرغتهما من محتواهما. المحصلة = لا المبدأ ولا ركائز المبدأ.

  • أ.د/ غضبان مبروك

    دعنا نقولها صراحة وبصفة مباشرة. نعم نحن في حاجة ماسة الى ديمقراطية مونتيسكيو. لماذا؟ لأن هذا النوع من الديمقراطيةالذي أخذ به الغرب وغي الغرب منذ قرون ثبت بأنه ناجع وفعال ومتماش مع طبيعة الانسان. فلانسان يريد الحرية ويرغب في المنافسة ويتوق الى العدالة.
    ديمقراطية مونتيسكيو تبدوا بسيطة منحيث الصياغة ولكن صعبة جدا من حيث التجسيد مما جعل دساتيرنا تفشل في ايجاد توازن بين ما تصيغه وما يأتي تطبيقه. فالأنظمة مستبدة بطبعها وتريد المزيد من السلطات والصلاحيات حتى ولو على حساب من ولاها الأمر ولا يمكن وقف جشع الأنظمة الا قوانين ومبادئ فلاذية وعلى راسها "مبدأ الفصل بين السلطات" .

  • جلال

    اجتماع السلطات في سلطة واحدة لايؤدي إلى الاستبداد فقط في ديننا بل الى الشرك, (لا يشرك في حكمه أحدا) والسلطة التي لا تشرك في حكمها أحداً فقد تعدت على الله في حاكميته.لا زال يقودنا مع الأسف الغزالي وابن تيمية وغيرهم من جهابذة الجبرية أصحاب القواعد الشرعية من مثل(الطاعة لذي الشوكة أو لذي الغلبة) و (تطيع أميرك ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) و(طاعة الإمام واجب لا يصح إيمان الا به )وأتعجب من أمر بعض الكتاب والمثقفين الإسلاميين كل ما حدث جديد في الغرب يقولون لك( يا حسراه) هذا موجود عندنا منذ زمن, فلماذا لم تخرجوه إذن للناس وتكونون أنتم السباقون ؟وما الضير بالإستعانة بغيرنا في أمور تختص بمصلحتنا ومنفعتنا