-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
بعد 44 سنة من وفاته              

هل هواري بومدين ما يزال حيا؟

عمار تو
  • 3808
  • 0
هل هواري بومدين ما يزال حيا؟

من الاندهاش المحير ألا تتضمن الرؤية التخطيطية للرئيس هواري بومدين في 1966، بصفة صريحة، اسقاطات التنمية لما وراء أفق 1977.

قد يكون ذلك من أجل انتظار النتائج المرجوة من تنفيذ المخططات التنموية المبرمجة: المخطط الثلاثي (1967-1969) والمخطط الرباعي (1970-1973) والمخطط الرباعي (1974-1977) قبل تحديد آفاق أخرى تبنى على هذه النتائج الواقعية. فبومدين توفي في 28 ديسمبر 1978 في سن مبكرة (46 سنة) وتم تنصيب خلفه الشاذلي بن جديد بتاريخ 9 فيفري 1979 ليصبح، في نفس الوقت، رئيسا للحزب الواحد، آنذاك، حزب جبهة التحرير الوطني، بموجب قانونه الأساسي، اقتداء بالمثيلات من الدول ذات التوجه الاشتراكي وحيدة الأحزاب، يومئذ.

ويترك “بومدين” وراءه نسيجا صناعيا قاعديا ثقيلا عاملا، يتكون من مركّبات صناعية ومصانع ضخمة تغطي كل الفروع الصناعية المعروفة ساعتها، بما في ذلك البرامج الإنمائية التي كانت قيد الإنجاز في نهاية 1977، إلا الصناعات البيتروكيماوية التي تبقى، حتى اليوم، لغزا محيرا. وكان من المنطقي ألا يتضمن هذا النسيج الصناعي فروعا تدعى، حاليا، صناعات في القمة و/ أو صناعات مستقبلية أو ذات تكنولوجيا متقدمة أو صناعات رقمية أو بصيغتها الجديدة “الذكاء الاصطناعي”. ويكمل هذا النسيجَ الصناعي القاعدي نسيجٌ صناعي قوامه وحدات صناعية تحويلية متوسطة الأحجام تتوزع على كل مناطق البلاد، تجسيدا لمبدإ ”التوازن الجهوي”، تشكل امتدادا عضويا للقاعدة الصناعية الثقيلة، بغرض تأمين مناولة تخلق قيمة مضافة عالية.(1)

وكانت، بالفعل، سنتا 1978 و1979 سنتين “بيضاوين” من المنظور التخطيطي. ويرى فيهما البعض، استراحة موضوعية اقتضتها الضرورة الحتمية من أجل إنجاز “تقييم نقدي رسمي” الأول من نوعه، لنتائج التخطــيط. وقد استغلت السلطات العمومية الجديدة للبلاد هذا العمل من أجل إنجاز واستصدار وثيقة سمتها “خلاصة اقتصادية واجتماعية “(2)، أفضت إلى حصيلة سلبية بخصوص نتائج النموذج التنموي المتبع إلى غاية ذلك الحين والتي سندحض، أسفله، في هذه المساهمة، أسسها ونتائجها وأحكامها، مشككين في موضوعيتها، بناء على الأرقام والتحاليل والمقارنات المتوفرة الوافية الشافية.

وتبعا لذلك، وتنفيذا لقرارات اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد آنذاك، في دورته لشهر ديسمبر 1979، وقرارات مؤتمره الاستثنائي لشهر جوان 1980، واستنادا إلى مشروع “صفري”، تمت المصادقة على مخطط تنموي “خماسي” انتقالي للفترة (1980-1984) في إطار رؤية عُشرية (1980-1990). ويتوجه هذا المخطط، حسب الخطاب السياسي الرسمي، إلى استدراك التأخر في إنجاز المشاريع. لكنه يندرج، حسب هذا الخطاب، في استمرارية الرؤية التخطيطية التي بدأ تجسيدها انطلاقا من سنة 1967، باستكمال القاعدة الصناعية الثقيلة واستمرار دعم النسيج الصناعي للصناعات التحويلية. ويأتي هذا المخطط، حسب نفس السياق، في امتداد قاعدة الصناعة الثقيلة التي كان انجازها قد تحقق خلال سنوات السبعينات (1970) طبقا للرؤية القاعدية التي اعتمدت في 1966.

في حين، يتحدث آخرون من المهتمين بمثل هذا الملف، على العكس من ذلك، عن الحدس “البومديني” بخصوص قلة الخبرة والتجربة لدى الفريق الشاب الذي أنيطت به مهامّ صِعاب يلتقي فيها، لأول مرة، بتخطــيط فائق الطموح وصعب الاسترضاء، يتطلب، بكل موضوعية، كثيرا من الحنكـة والوقت من أجل استدرارك تأخرات في الإنجاز كانت، موضوعيًّا، منتظرة بالنسبة لمشاريع ثقيلة معقدة التقنية والتركيب والتي كانت مسجَّلة في المخطط الرباعي (1974-1977)، وبالخصوص تلك المشاريع التي لا تنطلق أشغال إنجازها، موضوعيا، إلا في السنة الأخيرة أو السنة ما قبل الأخيرة من المخطــط.

وإذا كانت سنة 1978 سنة انتظار، فإن سنة 1979 كانت سنة نظام جديد، والذي لم يكن نظام استمرارية بكل المقاييس، كما قد يتبادر إلى الأذهان. لأن المخطَّـط الخماسي (1980-1984) يشكل، على العكس مما قد يتصور، منعرجا يحمل أسباب كسر صناعي أكيد ستعرفه صيرورة التنمية في الجزائر المستقلة بين نهاية 1978 إثـر الوفاة المفاجئة لـ”بومدين”، ونهاية 1998. وسيشكل جــبر هذا الكسـر إشكالية عويصة الحـل خلال سنوات طـوال لا تزال مفتـوحة حتى الساعـة رغم الجهود الحثيثة الحالية لتجديد صنع تاريخ أمجد للتنمية الاقتصادية في الجزائر.

لقد جاءت وفاة “بومديـن” مباغتة، بالرغم من أنها، بالفعل، كانت منتظرة عند المحيط العليم، وهو مهندس الرؤية التنموية. جاءت وفاته لتقلب كل الموازين رأسا على عقب، حتى وإن كان هذا المخطط الخماسي (1980-1984)، من حيث الدلالات، يكرس نفس الرؤية الاستشرافية التي كرسها التخطيط التنموي الذي كان قد تحدد في 1966 والذي كان قد تقرر الانطلاق في تجسيده، ميدانيا، ابتداء من 1967.

والمخطـط الخماسي (1980-1984) يظهر، بالتالي، وكأنه موجَّه، بصدق، إلى استدراك الفرص التي ضاعت لإنجاز مشاريع أو استدراك ما تأخر من أشغال الإنجاز من مشاريع المخططات السابقة والتي لم تتهيأ الظروف لإنجازها خلال سنتي 1978 و1979 وحتى خلال سنة 1980 التي تندرج، هي أيضا، ضمن منظور أفق التخطيط المبرمج للإنجاز انطلاقا من سنة 1967.

ومن ذلك، فإن الأهداف التي ضاعت حتى نهاية 1977 والتي لم يستدرك إنجازها خلال سنتي 1978 و1979، قد تم، فعلا، وبكل بساطة وتجاوزا للدلالات، قد تم إهمالها أو، في أضعف الإيمان، تقزيمها في العمق أو، في أحسن الأحوال، إرجاؤها إلى أجل غير مسمى أو إلى عشر سنوات أو عشرين سنة. والأمثلة على ذلك وفي كل الميادين، كثيرة شاهدة.

ومن مسعى معقول لتبرير التقييم الرسمي (الخلاصة الاقتصادية والاجتماعية) المذكورة سالفا والمسمـاة “تقييما نقديا”، لنتائج تطبيق النموذج الجزائري “اللامتوازن” للتنمية، خلال الفترة (1967-1977)، انطلى عليه، في نهاية الأمر، طابع المغالطة، عند عديد المهتمين والاختصاصيين من ذوي الشأن الاقتصادي والصناعي والسياسي، القريبين من مثل هذه الملفات.

ومقابل ذلك، ظهر المخطـط الخماسي (1980-1984) كتمـويـه، الهدف من ورائه التغطـية على تغيـيـر، بنسبة 180 درجة، لرؤية توجُّه التنمية التي تم ضبطها في سنة 1966، في غياب الشجاعة السياسية والأدبية للبوح عاليا بذلك وبالقوة الضرورية والإفصاح به بكل شفافية من قبل سلطات البلاد الجديدة التي خلفت فريق “هواري بومدين.” وقد يكون ذلك مرافعة، لها مبرراتها الذكية، تفادىا للعرقلة.

وفي حقيقة الأمر، فإن الجزائر دخلت ابتداء من سنة 1980، منعرجها الخطير في ميدان السياسة الاقتصادية وسياسة التنمية الصناعية. وستمتــد آثاره،، حسب أدنى التقديرات، إلى غاية 1998. حينها سيعرف المشهد الاقتصادي الجزائري استعادة آلية التخطـيط دورها، لكن، أسـفا، بصفة متدنـية استئناسية، في شكل برمجة قطـاعية تفتقـر إلى الرؤية الشاملة المتجانسة الصارمة المتكاملة التي يقتضيها اقتصـاد بالغ التفكــك، بفعل المحن التي تعرض لها خلال سنوات1979) -1986)، أساسا.

المخطـط الخماسي (1980-1984) كان، تبعا لذلك، موجَّها، بمفهوم نظري، إلى تغطية حاجات السكان الاجتماعية وتوسيع وتنويع مدعومين للإنتاج الوطني ودعمه وتكييفه مع تطور الحاجيات الحقيقة ومع الشروط الملموسة للتحكم في التنمية.

وعلى صعيد الموارد المالية المرصودة للمخطـط، فإنها تبلغ 560,60 مليار دينار جزائري (دج) أو ما يعادل 140 مليار دولارا أميركيا جاريا بالتقريب (بمقابل الدينار الجزائري لتلك الفترة، (دولار واحد = 3,9-4,1 دج)، منها 210 مليار دج أو 52,50 مليار دولارا تم تخصيصها للصناعة، بتراجع واضح، من 53,93 %، في المتوسط خلال المخططات السابقة، إلى 37,77 % فقط، في المخطط (1980-1984).(3)

والنيّات الحقيقية التي ظلت خفية إلى غاية ذلك الحيـن بشأن التوجـه المراد إعطاؤه للاقتـصاد وللصـناعة الجزائريين، خرجت، هكذا، إلى العـلـن في وضح النهار. وهي تعبّر عن ميل بارز الوضوح، طرح كثيرا من التساؤلات، سنحاول الرد عليها أدناه. علما أن حجـم الاستثمارات المسجلة في المخطط الخماسي (1980-1984) تتضمن المشاريع المتأخرة أو تلك التي كانت قـيد الإنجاز والتي كانت مسجَّلة بعنوان مخططات التنمية السابقة والتي تبلغ قيمتها الإجمالية 196,90 مليار دج أو ما يعادل حوالي50 مليار دولار، من مجموع يبلغ560,60  مليار دج أو ما يعادل 140 مليار دولار. بالتقريب مرصودة في كل المخطط الخماسي، كما سبق ذكره. ما يعادل مثقالا نسبيا يبلغ 35 %. فهي، بالتالي، طاقة استيعاب للاستثمارات مستنقصة، أصلا في مرحـلة البرمجـة، إلى 65 % فقط.

من الناحية النظرية، يتمحور هذا المخـطط، في السياسة الصناعية، حول محورين أساسين:

1- دعم القاعدة المادية الصناعية وتوسيعها.

2- تحسين ضروري لجهاز الإنتاج الذي تم بناؤه.

 المحور الأول، يرتكز على ثلاثة أهداف متكاملة:

ا- الأولوية تذهب إلى أعمال دعم الإنتاج القائمة ولتثمينها للإنجاز في كل المستويات (“آلات تصنيع” كمرحلة تقنية كهدف أسمى أخير للتصنيع).

ب- تنفيذ البرامج والمشاريع التي تحتاج إلى آجال نضج سريعة بغرض التخفيف من التوترات الاجتماعية الأكثر حـدة للتصحيح التدريجي للاختلالات التي ظهرت على سير الاقتصاد.

ج- إنهاء أشغال المشاريع السارية، وبالتوازي، إطلاق البرامج الاستثمارية الكبرى الموجهة إلى توفير شروط تحضير المستقبل في كل المجالات الإستراتيجية.

أما بالنسبة للمحور الثاني، فقد تم إبراز الإطار العامّ للبحث عن أحسن النجاعات العامة للاقتصاد وقدرتها على خلق موارد كافية من أجل ضمان النمـو على الدوام.

ويندرج هذان المحوران، بطبيعة الحال، ضمن إطار التوجُّهات بعيدة المدى في ميدان تمفصلات المخططات والأولويات التي حددتها سياسة الجزائر الاقتصادية ”البومديينية” في 1966.

وهكذا، ومن زاوية هذين المحورين، فواجب السياسة الصناعية للبلاد هو خدمة التنمية الموجهة إلى المناحي التالية:

– دعم القطاعات ذات الأولوية: السكن، الفلاحة، الري، البنيات التحتية الاقتصادية والاجتماعية.

– تثمـين الشغل.

– تلبية حاجات السكان من السلع الصناعية.

– تـنمية طاقات التراكم.

– إدماج السوق الوطنية ضمن إطار سياسة التهيئة العمرانية.

إلا أن أيّ توجه جديد أساس، لم يُعـلن عنه بوضوح بالنسبة للأهداف الطويلة الأمد الموكلة للتصنيع المكرَّسة في بداية مرحلة التخطـيط في سنة 1966.

وفي المقابل، وبغضِّ النظر عن هذه القراءات، فإن المخطط الخماسي (1980-1984) والبرنامج العشاري (1980-1990) يتضمنان، بالفعل، عديد النيّات، المستتر منها والمتـناقض، تدَّعي لنفسها أهدافا كان قد سبق أن تضمنها مآل مسار الأهداف الإستراتيجية المتضمنة في المخططات السابقة أو تستلهم (هذه النيّات) أهدافها من التقييم (الخلاصة الاقتصادية والاجتماعية) المشار إليه سالفا.

وكان من المنهجية الموضوعية بمكان، أن يُلجأ إلى مثل هذا التقييم التشخيصي من قبل السلطات الجزائرية الجديدة آنذاك، لولا الطعـن المؤسَّس المبني على دراسات جامعية أكاديمية وغيرها دحضت، ابتداء من سنة 1982، نتائج التقييم والأحكام التي أصدرها في حق نموذج التنمية “البومديني”.

لكن السلطات العمومية الجزائرية الجديدة يومئذ، استغلت بلباقة، الثغرة القاتلة التي منحتها إياها نتائج هذا التقييم والتي تتيح لها قلب الموازين لصالح تغيير الخـط الأصلي للتخطـيط الذي تم تحديده في 1966 وتطبيقه ابتداء من سنة 1967. وذلك ما ستؤكده الوقائع خلال السنوات اللاحقة لسنة 1986

ويجدر التنبيه إلى أنه، وبالرغم من التفاوتات المقارنة في التجربة التي كان يتمتَّع بها إطارات الشركات الوطنية الاشتراكية (المؤسسات العمومية) خلال الفترة (1967-1977)، فإن نِسب إنجاز المخططين الرباعيين (1970-1973) و(1974-1977) كانت أحسن بكثير من تلك التي ستسجل بالنسبة للمخططين الخماسيين (2005-2009) و(2010-2014).

أما المقارنة بنِسب إنجاز المشاريع خلال الفترة (1987-1998)، فيجدر التنبيه كذلك، إلى أنه خلال هذه الفترة، لم تطلق، بكل بساطة، مشاريع صناعية جديدة للإتجار. لأن قمحنا، أسفا، قد استهلك حشيشا، خلال الفترة (1980-1986).

أما فيما يتعلق بنسب استعمال الطاقات الصناعية المنشأة إلى غاية 1978/1979، واعتبارا حتميا للتدرُّج العادي في استعمال طاقات الإنتاج الثقيلة الجديدة، لاسيما تلك المعقدة تكنولوجيا منها، فإن نسبة استعمال متوسطة بمستوى 77,10 % قد تحققت لمجموع من الصناعات الأساسية المنشأة، مع استثناء الآليات الفلاحية والصناعات الإلكترونية التي كانت لا تزال في مرحلة الرفع التدريجي للإنتاج، وكذا المصنع الوحيد لآليات التصنيع التي يدخل اقتناؤها ضمن طموح لم يكن قد بلغ سوى درجة الرمزية والتي لم تكن بعد، قد ارتقت إلى أداة للتعبير عن حسن أو سوء استعمال طاقات الإنتاج. والدليل المنطقي، فإن نسبة استعمال طاقات الإنتاج المنشأة ما بين 1967 و1980 قد بلغت مستوى83,38 % في 1980/1981. (5)

وأما بخصوص نسبة الاندماج، فالأداء، هنا أيضا، كان جيـد التعبير؛ فحجـم وتـنوع المنتجات الصناعية في الحصيلة المعدَّة في سنة 1978 مقارنة بسنة 1967، للفلاحـة والأشغال العمومية والنقل، هي ترجمة جيدة ومصدر فخـر لصناعة تتقدَّم، بغرض تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي تم تحديدها في سنة1966.(6)

كان الاندماج داخل نفس الفرع الصناعي أو داخل نفس المصنع، يترجم بوضوح الطموحات الكبرى لتحقيق استقلالية مريحة في الآفاق ضمن صيرورة التصنيع، ومنها استقلالية الاقتصاد برمته. فالمؤشرات بهذا الشأن والتي أغفلتها، باستغراب، الحصيلة الاستخلاصية الاقتصادية والاجتماعية المشار إليها سلفا، تتعارض، جذريا، مع التبعية الشاملة للمدخلات المستورَدة والتي طبعت الاقتصاد الوطني فيما بعد، وإلى غاية السنوات العجاف ما بين 2014 و2020، بعد إجهاض الرؤية ” البومدينية” ابتداء من سنة 1979. الإنتاج الصناعي، منذ ذلك التاريخ، قد تخصّص، على العكس مما كان مأمولا، في آخر درج من مراحل العملية التصنيعية: تغليف و”كبلسة” وتعليب المنتجات االمستوردة مكتملة كمنتجات في شكلها النهائي(7). وتذكّر المعطيات أن 90 % من مجموع المدخلات في الإنتاج الصناعي لكثير من الفروع الصناعية، كان يتم استيرادها من الخارج.

ويجدر التذكير بأن الصناعات الإلكترونية لسيدي بلعباس (التلفزات) وصناعة الآليات الفلاحية في نفس المدينة (الحاصدات- الدارسات) وفي قسنطينة (محرِّكات الجرارات والجرارات) والصناعات الإلكتروتقتية بتيزي وزو (الإلكترو- منزلي) والصناعات الميكانيكية برويبة- الجزائر العاصمة (حافلات وشاحنات من كل الأوزان) وصناعة المشاحن المسطحة للشاحنات الضخمة في تيارت، وغيرها، كانت تتجاوز نسب الاندماج الصناعي فيها 60% إلى 70%. فمن أجل ذلك، كانت كل مصانع الميكانيك والصناعات الإلكتروتقنية التي تستعمل الصفائح المعدنية بأنواعها المختلفة، تشتمل على مسابكها الخاصة لإذابة ودرفلة وتشكيل أجزاء المنتجات المصنوعة لديها.

لقد جاءت وفاة “بومديـن” مباغتة، بالرغم من أنها، بالفعل، كانت منتظرة عند المحيط العليم، وهو مهندس الرؤية التنموية. جاءت وفاته لتقلب كل الموازين رأسا على عقب، حتى وإن كان هذا المخطط الخماسي (1980-1984)، من حيث الدلالات، يكرس نفس الرؤية الاستشرافية التي كرسها التخطيط التنموي الذي كان قد تحدد في 1966 والذي كان قد تقرر الانطلاق في تجسيده، ميدانيا، ابتداء من 1967.

هذا ما كان يفسّر مكانة الإنتاج الصناعي المرموقة التي بلغت مستوى16,8 % من مجموع الإنتاج الداخلي الخام في سنة 1985 والتي نزلت بعدها إلى 5 % نزولا هيكليا يؤرِّق اليوم السلطات العمومية التي تعمل جاهدة لتداركه في سعيها الحثيث لاستيفاء شروط انضمام الجزائر إلى مجموعة ”البريكس” في 2023.

وأما القيمة المضافة التي أنتجتها الصناعات الثقيلة عموما والصناعات التحويلية خصوصا، بين 1970 و1986، فإنها تمثل، من جهتها، 3,5 مرات أكثر من الفترة التي سبقتها.(7) فالصناعات التحويلية المقامة بين 1970 و1986 تغطي كل المصانع العمومية التي تم إطلاقها للإنجاز بعنوان المخططين الرباعيين (1970-1973) و(1974-1977) والمستلمة لدخولها مرحلة الإنتاج خلال هاتين المرحلتين، وكذا المشاريع المتأخرة في الإنجاز والبرامج التي كانت قيد الإنجاز التي استلمت لدخولها مرحلة الإنتاج خلال الفترة الموالية (1978-1986) للأسباب التي عرضناها سالفا.

وتبعا لذلك، يصبح من الخطأ بمكان أن يُحسب، بدون وجه حق، الأداء الحسن في ميدان إنتاج القيمة المضافة المحققة خلال الفترة (1970-1986)، كإنجاز “إضافي” لصالح تسيير السنوات من 1979 إلى 1986 (3). أما سوء الأداء في الإنتاج الصناعي للفترة (1987-1998) فيجسِّده انهيار بنسبة 25,7 % مقارنة بما تحقق خلال الفترة (1970-1986). أما مؤشر الإنتاج الصناعي، من جهته، فقد تآكل متراجعا إلى 69,00 في سنة 1998 مقارنة بالمؤشر المرجعي (100) المسجل في سنة 9198. ولم يستعد مستواه لسنة 1989 إلا في سنة 2017 حيث بلغ (101,7) (8) والذي يكون قد تجاوز حاليا عتبة 108.

في حقيقة الأمر، فإن الجزائر دخلت ابتداء من سنة 1980، منعرجها الخطير في ميدان السياسة الاقتصادية وسياسة التنمية الصناعية. وستمتــد آثاره،، حسب أدنى التقديرات، إلى غاية 1998. حينها سيعرف المشهد الاقتصادي الجزائري استعادة آلية التخطـيط دورها، لكن، أسـفا، بصفة متدنـية استئناسية، في شكل برمجة قطـاعية تفتقـر إلى الرؤية الشاملة المتجانسة الصارمة المتكاملة التي يقتضيها اقتصـاد بالغ التفكــك، بفعل المحن التي تعرض لها خلال سنوات1979) -1986)، أساسا.

وقد ظهرت على صعيد التطبيق، خلال نفس الفترة، سياساتٌ لم يرد ذكرها، بتاتا، في المخطط الخماسي (1980-1984). وتتنافى هذه السياسات جذريا مع النموذج التنموي المطبق إلى ذلك الحين. وتزيح هذه السياسات، بكثير من الليــن، النقاب عن النيّات الحقيقية للتوجه السياسي في الميدان الاقتصادي لسلطات البلاد الجديدة التي وصلت إلى سدة الحكم في سنة 1979 والتي لم تكن، إلى غاية ذلك الحين، مدمَجة بصفة صريحة، في المخطط الخماسي (1980-1984.

ويمكن أن نوجز هذه السياسات في المعالم التالية:

بغضّ النظر عن:

أ- صناعة قاعدية كانت لا تزال، بعد، في مهدها.

ب- صناعة تحويلية (أو خفيفة) تشمل الصناعات الزراعية- الغذائية الناشئة بفعل التأخرات المسجَّلة في إنجاز البرامج المخططة كما أسلفنا الإشارة إليه.

ج- استدانة خارجية على الاستثمارات ثقيلة نسبيا والتي كانت تتسارع بشأنها آجال التسديد.

د- مستوى احتياطي الصرف الأجنبي عاجز عن التشكل بسبب واردات مفرطة لا لجم لها.

وكانت السلطات الجزائرية مبالغة في الثقة التي كانت تضعها في الأوضاع السائدة المريحة آنذاك في السوق البترولية، فاتخذت بدون حذر، أربعة قرارات غير محسوبة العواقب في ميدان التوجه الاقتصادي لم تكن، هي الأخرى، مدرَجة في المخطط الخماسي (1980-1984).

وتتلخص هذه القرارات في ما يلي:

1- توجيه الجزائر نحو مجتمع استهلاكي.

2- رفع قيمة العملة الوطنية، إداريا.

3- استحداث منحة سياحية سنوية بالعملة الأجنبية في فائدة المسافرين إلى الخارج، في حين كانت الجزائر مثقَلة الاستدانة وباستحقاقات تسديد قريبة.

4- إعادة هيكلة الشركات الوطنية الاشتراكية (التي تحولت ابتداء من 1988 إلى مؤسسات عمومية اقتصادية).

يجدر التذكير بأن الصناعات الإلكترونية لسيدي بلعباس (التلفزات) وصناعة الآليات الفلاحية في نفس المدينة (الحاصدات- الدارسات) وفي قسنطينة (محرِّكات الجرارات والجرارات) والصناعات الإلكتروتقتية بتيزي وزو (الإلكترو- منزلي) والصناعات الميكانيكية برويبة- الجزائر العاصمة (حافلات وشاحنات من كل الأوزان) وصناعة المشاحن المسطحة للشاحنات الضخمة في تيارت، وغيرها، كانت تتجاوز نسب الاندماج الصناعي فيها 60% إلى 70%.

الصعوبات كانت هي نفسها تلك التي تقتضيها التنمية الطموح المنشودة. والهدف منها، بناء وتشغيل جهاز صناعي غير معتـاد، في اقتصاد ومجـتمع غير معـدَّيْن لذلك، يستدعيان التغلب على المعيقات، عوض اختصار الطريق برفض اختيار يسعى، بعلوِّ همَّة، إلى بناء اقتصاد ومجتمع يقتـديان بالأمم المتقدِّمة. وللجزائر الحق في الطموح كما كانت ولها حقُّ الطموح في حاضرها ومستقبلها. فجهازها الصناعي، كما تم بنيانه تحت قيادة بومدين، يبقى، في الوقت الراهن، رغم الانتقاص منه، المرجعـية الأوحد، نسبيا، ويبقى منصة ثمينة من أجل انطلاقة صناعية متعددة الأشكال تساعـد على الشراكة مع الرأسمال والتكنولوجيات والأسواق الأجنبية. وذلك بالرغم من عـديد الضربات العنيفة التي تلقاها عند كل منعـرج في التاريخ الاقتصادي الجزائري منـذ 1979.

وإن من القرارات في حياة الأمم والدول، لمّا يُرهن مستقبلها تماما كمنعرج يتحكم فيه فترزق السلامة أو، لسوء الطالع، يحدث الزيغ فيه، فتنفلت الأمور وتُزهق الأرواح ولا من رادٍّ لها.

ظهرت على صعيد التطبيق، خلال نفس الفترة، سياساتٌ لم يرد ذكرها، بتاتا، في المخطط الخماسي (1980-1984). وتتنافى هذه السياسات جذريا مع النموذج التنموي المطبق إلى ذلك الحين. وتزيح هذه السياسات، بكثير من الليــن، النقاب عن النيّات الحقيقية للتوجه السياسي في الميدان الاقتصادي لسلطات البلاد الجديدة التي وصلت إلى سدة الحكم في سنة 1979 والتي لم تكن، إلى غاية ذلك الحين، مدمَجة بصفة صريحة، في المخطط الخماسي (1980-1984.

إجهاض الدينمة التنموية البومديينية لسنوات (1967-1980) باختيارات الفترة (1979-1986) في الميادين الاقتصادية عموما والصناعية على وجه الخصوص، في تنكر للإنجازات الصناعية والتنموية الزاخرة للمرحلة التي سبقتها، يبقى يُحدث آثارَه الوخيمة باستمرار على حياة الجزائر الراهنة.

لكن الأمل في إعادة بناء ما تهدم من منجزات العهد البومدييني، يتشكل اليوم حثيثا تترجمه الحركة التنموية الاقتصادية المتعددة الأبعاد الجارية والتي سنعود إليها لاحقا بمساهمات أخرى بحول الله.

——————————————–

(1)عمار تو: بلعـيــد عبد السلام، عبقرية أم شــطط؟ على فايسبوك بتاريخ 28/6/2020 وعلى جريدة “يومية وهران” (Quotidien d’Oran) بتاريخ 08/07/2020.

(2) الخلاصة الاقتصادية والاجتماعية. وزارة التخطيط والتهيئة العمرانية، 1980.

(3) المخطط الخماسي (1980-1984) وزارة التخطيط والتهيئة العمرانية. والبنك العالمي.

(4) أحمد بويعقوب في. Quotidien d’Oranبتاريخ 07/07/2020.

(5) ع. بناشنهو. التخطيط والتنمية. الطيب سعيد عامر، تنمية الجزائر الصناعية.

(6) الطيب سعيد عامر. التنمية الصناعية للجزائر.

(7) تصريح وزير الصناعي الجزائري لقناة “الحياة” التليفزيونية بتاريخ أول سبتمبر 2020.

(8) صندوق النقد الدولي (إصلاح القطاع المالي في الجزائر- 17 سبتمبر 2005ة.). وبنك الجزائر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!