-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هوية الأمة.. بين جَلَد المتربّصين وعجز الثقات!

سلطان بركاني
  • 2483
  • 0
هوية الأمة.. بين جَلَد المتربّصين وعجز الثقات!

في زمان كان الثقات يثبتون فيه كالأسود لنصرة الحقّ ويعتزّون بالانتماء إليه ولا يخشون في الدّفاع عنه لومة لائم، دعا الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قائلا: “اللهمّ إنّي أشكو إليك جَلَد الفاجر وعجز الثقة”، ربّما لأنّه تلمّس شيئا من التثاقل لدى بعض مَن هم حوله، في المسارعة إلى مقارعة الباطل، خاصّة من أولئك الذين لم يدركوا زمان النبوّة الأزهر.

لسنا ندري لو أدرك الفاروق زماننا هذا، ما عساه يكون قائلا؟.. إنّ الأمّة تعيش في هذا الزّمان محنة حقيقية ليس فقط مع أولئك الذين باعوا دينهم بدنياهم ولم يكفِهم التنكّر لقضايا الأمّة حتى تعاونوا مع المتربّصين بها، بكلماتهم وأقلامهم ومواقفهم، وتجنّدوا لتنفيذ مخطّطاتهم؛ ليست محنة الأمّة مع هؤلاء فقط، وإنّما هي أيضا مع كثير ممّن ينتسبون إلى هويتها وقضاياها، ويفترض أن يتحرّكوا لنصرة دينهم ويتصدّوا للمؤامرات التي تحاك ضدّه، لكنّهم مع كلّ أسف ركنوا إلى الدّعة وتحلّوا بسلبية قاتلة، وتركوا غمار المواجهة، خوفا من تبعاتها، وحرصا على مناصب كان المفترض أن يتّخذوها وسيلة لخدمة رسالتهم، لكنّ هذه المناصب أثّرت فيهم وجعلتهم يحنون رؤوسهم، وغدا الواحد منهم ما أن يخطو خطوة إلى الأمام حتى يُتبعها بأخرى إلى الوراء، خشية أن يصوّب نحوه العلمانيون سهامهم ويتّهموه بالرّجعية وتغييب مصلحة الوطن والانحياز للدّين وخدمة التطرّف!.
وفي مقابل هؤلاء، لا يُظهر أهل الباطل أيّ تردّد في خدمة قناعاتهم ومحاولة فرض خياراتهم ولو كانت مصادمة لقناعات وخيارات الأغلبية الغالبة؛ يسخّرون الإعلام المأجور ويستعينون بالصّوت المرتفع، ويستقوون ببعض المنظّمات العالميّة المشبوهة التي تتذرّع بحقوق الإنسان وحرية الأفراد، للمطالبة بتغيير كلّ ما يربط الشّعوب المسلمة بدينها وهويتها.
إنّه لأمر مؤسف حقا، أن يسخّر أهل الباطل المناصب التي يتقلّدونها في خدمة باطلهم، غير آبهين بانتقادات الأكثرية المغلوب على أمرها، بينما يسخّر أهل الحقّ أنفسهم لخدمة المناصب التي يعطُونها، غير مكترثين بالأمانة العظيمة التي تحمّلوها ولا بالآمال العريضة التي تعقد عليهم، بل الأنكى من هذا والأمرّ، أن تجد هؤلاء الخيّرين الذين قُلّدوا بعض المناصب، يجبُنون عن الردّ على العلمانيين والمفسدين حتى لا يُتّهموا بالتنكّر لحرية التّعبير! بينما تتدفّق ألسنتهم وتسيل أقلامهم بالرّدود القاسية والجارحة على منتقديهم من المصلحين النّاصحين! بحجّة أنّهم يسيئون بهم الظّنون ولا يقدّرون الظّروف الصّعبة التي يعملون فيها!.. لا أحد يجهل صعوبة مهمّة الإصلاح في واقع أمّة الإسلام، لكنّنا لا يمكن أبدا أن نغفل دور الهمّ والهمّة اللّذين يحرّكان كلّ إنسان في تغيير الواقع وخدمة الأهداف.. مصيبة بعض الخيّرين أنّ لدى بعضهم حرصا عجيبا على مراعاة مشاعر مناوئيهم، وسعيا دؤوبا لعدم استعدائهم، مع علمهم أنّ أولئك المتربّصين لن يرضوا عنهم حتى يكونوا على ملّتهم ويتخلّوا عن جميع خصوصياتهم.
لقد آن لهؤلاء الخيّرين الذين يسارعون –بلسان الحال- في إرضاء المناوئين لهوية الأمّة، ويقولون –بلسان الحال- “نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ”، آن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم، ويكفّوا عن الانزلاق في منحدر التّنازلات بحجّة التدرّج، ويتعلّموا الدّروس من دستورهم الأعظم.. لقد عاتب المولى تبارك وتعالى خيرة خلقه وإمام أنبيائه، في أوائل سورة “عبس” على أنّه أقبل بوجهه على بعض الكبراء يرجو إسلامهم وأعرض عن رجل ضرير أعمى، ونهاه –وهو المعصوم صلوات ربّي وسلامه عليه- في مواضع كثيرة من كتابه عن أن يهتمّ بأهواء الجاهلين، ومن ذلك قوله سبحانه: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِين)) (الجاثية، 18- 19).. إنّ الله -تبارك وتعالى- قد يمكّن عبده ويبلّغه مقاما تكون له فيه ولاية على بعض عباده، لينظر ماذا يعمل وهو العليم الخبير سبحانه؛ فإن كان همّه رضا خالقه، أعلى شأنه ورفع مقامه وأعزّه، وإن كان همّه رضا المخلوقين أذلّه الله لخلقه، وفي الحديث المشهور: “من التمس رضا الله بسخط النّاس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا النّاس بسخط الله; سخط الله عليه وأسخط عليه الناس” (ابن حبّان في صحيحه).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!