-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وسام في الذيل

وسام في الذيل

إن من له اطلاع ولو قليل على الأدبيات الفرنسية ذات الصلة بالجزائريين يندهش لتلك الدركة التي تردى إليها أكثر الفرنسيين بتلك التعابير السافلة التي كانوا يطلقونها على الجزائريين، وبتلك الصور الشائنة التي كانوا يصورونهم فيها حتى “كأن الجزائري مخلوق خاص (1)”، وليس إنسانا كالناس، وليس بشرا كالبشر.

كان الفرنسيون يستهدفون من وراء تلك التعابير البذيئة، والصور الكريهة محو الإحساس بالكرامة، وقتل الشعور بالمروءة لدى الإنسان الجزائري، ليسهل عليهم بذر ما سماه الإمام محمد البشير الإبراهيمي “القابلية للاحتقار” في نفسه.

لقد جهل الفرنسيون، أو تجاهلوا، أن الشعب الجزائري “ملقّح” ضد هذه “القابلية للاحتقار”، ومحصّن ضد القابلية للهوان، ومن أمثاله الشعبية المعبرة عن نفسيته: “مت مسْكين وماتموتش مسِيكن”.

إن الأمر الذي دعا الفرنسيين إلى أن يطلقوا تلك التعابير البذيئة على الجزائريين، ويصفوهم بتلك الصفات الذميمة هو سوء طوية الفرنسيين، من استعلاء بالباطل، وتعاظم فارغ، و”كل إناء بالذي فيه يرشح”، وكذلك جهاد الجزائريين العنيف للفرنسيين، وعدم استسلامهم لهم بسهولة، فقد أنطق الله الفرنسيين وشهدوا أن الجزائريين جاهدوهم جهادا كبيرا من ناحية إلى ناحية، ومن بلدة إلى بلدة، ومن شارع إلى شارع، ومن دار إلى دار..

لقد بذلت فرنسا طيلة وجودها في الجزائر، وماتزال، جهودا كبيرة لتشويه صورة الجزائريين، وإظهارهم أمام العالم في صورة “وحوش”، “غير قابلين للتربية والتهذيب”. ولكن شهادات النزهاء من الأجانب الذين زاوا الجزائر، أو عاشوا فيها قبل أن تدنس بالاحتلال الفرنسي تسفه كل ما ادعاه الفرنسيون، ومن هذه الشهادات المحايدة شهادة وليم شالر، قنصل الولايات المتحدة الأمريكة في الجزائر، حيث قال في مذكراته التي نشرت في عام 1826 في بوسطن: “هؤلاء السكان أبعد ما يكونون عن البربرية التي يصف بها البعض الجزائريين، فإن في سلوكهم لياقة ومجاملة، وأنا قد وجدتهم في المعاملات اليومية دائما مهذبين، ومتمدنين، وإنسانيين، وأنا لم أكتشف فيهم حتى أعراض التعصب الديني، أو الكره للأشخاص الذين يدينون بدين آخر غير دينهم، إنهم يدينون بالإسلام، ويقومون بكل مواضبة وإخلاص بالواجبات التي يفرضها عليهم دينهم، ولكن بدون مباهاة أو تصنّع، ولا يضمرون عداوة للأشخاص الذين يسلكون طريقا آخر للحصول على رضا الله (2)”.

لقد كانت فرنسا تريد أن ينهزم الجزائريون نفسيا، ويتحطموا معنويا، فيلقوا السلاح، ويتوقفوا عن جهادها. ولكنها لم تنجح بحربها النفسية، ودعايتها المعنوية في إيقاف الجزائريين عن الجهاد؛ بل استمروا فيه، ونفروا كلما أحسوا ببعض القوة فيهم، حتى سمى الفرنسيون الجزائر “الأرض البركانية”، حيث شبّهوها بالبراكين التي تثور الفينة بعد الأخرى، وحتى قال قائل منهم تعليقا على كثرة إعلان الجهاد في الجزائر ما معناه: يبدو أنه لا بد من إعادة غزو هذه البلاد كل ثلاث سنوات.

لقد اغتر بعض الجزائريين بادعاء فرنسا بأنها دولة قيم ومبادئ وتظاهرها بذلك، فركنوا إليها، وتعاملوا معها، بل وساعدوها على بسط نفوذها وسيطرتها هنا وهناك… ولكن كثيرا منهم تبين لهم بعد ما خبروا الفرنسيين أن ذلك المظهر الخارجي يخفي وراءه وجها بشعا، وأن ذلك اللمعان الظاهر الذي يخطف الأبصار يغلّف صدأ… فاعترفوا بخطئهم، واستغفروا لذنبهم، ورجعوا إلى صفوف شعبهم…

من هؤلاء الجزائريين الذين حسبوا سراب فرنسا شرابا الحاج محمد المقراني الذي أكرمه الله – عز وجل- بالشهادة في مثل هذا الشهر من عام 1871.

عين الفرنسيون الحاج محمد المقراني سنة 1859 حاكما على المنطقة التي كان يحكمها أبوه، ومنحوه لقب “الباشاغا”، ووساما من أوسمتهم، ولكن في الأخير نزعه عرقه الأصيل، ومعدنه النبيل فاستقال في 27 فبراير 1871، ولما رفضت السلطات الفرنسية استقالته أصر عليها وقدم استقالة أخرى في 9 مارس 1871، وأعاد إلى السلطات الفرنسية راتبه لشهر فبراير (3).. ثم أعلن الجهاد ضد فرنسا في 14 مارس 1871.

ومن مواقف الحاج محمد المقراني -رحمه الله- أنه جاء بذلك الوسام الذي منحته له فرنسا، ورأى أن أنسب مكان لذلك الوسام ليس صدور الرجال، ولكن أذيال البغال، فعلقه في ذيل حصانه (4)، إهانة للوسام، واحتقارا للفرنسيين الذين طغوا في الجزائر، وبغوا على أهلها، حتى قال أحد كبرائهم وهو پيير بورد (والي ولاية قسنطينة ثم حاكم عام) في خطاب له ألقاه في بلدة عين البيضاء: “إن قطرة من الدم الفرنسي لا تغسلها دماء القطر الجزائري (5)”.

وليقارن القارئ بين كلام هذا “الفريعن” الفرنسية الذي يفوح عنصرية، وينضح خسة وسفالة، رغم ادعائه “الحضارة” و”الإنسانية”، وبين كلام ذلك العملاق الذي أدبه الإسلام، وهو الإمام إبن باديس الذي كتب في جريدة “المنتقد” ما يدل على نبل معدنه، وسمو خلقه وهو: “إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلاّ، ونحب وطننا ونعتبره منها جزءا، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها، ونبغض من يبغضها ويظلمها..(6)” فأي القولين أرقى، وأي القائلين أزكى؟

رحم الله المجاهد الشهيد محمد المقراني، وسائر شهدائنا الأبرار، وعلمائنا العاملين الأخيار، وأذل كل عتلّ جبّار..

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جريدة الشهاد ع 21 في 8 / 4 / 1926 ص 3

(2) مذكرات وليم شالر ص 80

(3) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية ج1.ق2. ص 251

4) Camille Brunel: la question indigène en Algérie

Challmel Paris 1906 P 109

5) جريدة المنتقد ع 16. في 15 / 10 / 1925 ص 1

6) جريدة المنتقد ع 1 في 2 / 7 / 1925 ص1

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
13
  • بدون اسم

    حياك الله وبيك وجعل الجنة متواك

  • Rachid

    Choukran djazilan
    Al maktaa fi safha 55 min kitab
    Sketches of Algiers
    Al marjaa

    Choukran

  • لخضر

    بارك الله فيك يا شيخنا ونفعنا الله بعلمك الوافر ووفقك الله لصلاح هذه الامةلقد أتحفتنا بمقالاتك الهادفة فلك الشكرالجزيل المجد والخلود لشهدائنا الابرار,

  • أسمهان

    المهم ناكلو نشربو نرقدو نخدمو بسلام

  • حبيب آيث ايجوراف

    أنت على حق ياشيخنا الكريم..لأنني أظن أن الجزئريين من بين كل الشعوب الأخرى عزيزو النفس ، يأنفون الذل تحت أي سلطة ظالمة ..

  • محمد

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على رسول الله.
    بارك الله فيك و جازاك الله خيرا و سلمت يمينك و أطال الله عمرك .
    والله إننا نتمتع بما تكتب ونستفيد من علمك الذي علمك الله .
    إني ادعو الله و اليوم جمعة ولعلها ساعة استجابة أن يرزقك علما نافعا و رزقا واسعا و قلبا خاشعا و شفاء من كل داء .
    محمد بن زاهية - بلدية بنزوه أولاد سيدي ابراهيم -

  • Abousohaib eldjazairi

    Assalam alikoum ,Allah yahafdak ya chikh

  • yacin

    الشيخ المقراني خالص المعدن نقي البصيرة والقلب لم تغويه الاموال ولا المناصب داره في مدينة مجانة من الديار الفاخرة
    والحديقة المقابلة لها اقام فيها الحاكم العام للجزائر حين نداه الواجب لبى واتكل والبلدة التي سقط بها اخذت اسمه والمعلم التاريخي الذي شيد بساحة البلدية يعبر اشد التعبير عن شهامته
    حيث يشهر سيفه كانه يريدها مقاومة اخرى

  • الجزائري موت واقف

    ان فرنسا العجوز انما استعمرتنا و هو حال اي استعمار لسببين لتقدمها العلمي وهو تقدم لايضاهي الالمان و الانجليز انذاك وحتى يومنا لانهم ما فتؤو يتلقون الهزائم تلوى الاخرى على يد بسمارك في 1870تم الحربين العالميتين1914 و1939 فلنعم الرجل هتلر ولنعم الجنرالات هم الجنرالات الذين احتلو فرنسا في 24 ساعة ووقتها قال احد جنرلات فرنسا لقد هزمت مدرستنا
    لااعتقد ان الامر يحتاج الى تفسير نحن كنا متخلفين علميا والضعيف مفتون بثقافة القوي
    السبب الثاني و هو اننا كنا قبائل متفرقة افلت شمسنا فوهنا وذهبت ريحنا ولم نجتمع على كلمة سواء حتى قرر فتية من حزب الشعب امنو بربهم وزادهم الله هدى ان ما اخد بالقوة لايسترجع الابالقوة
    فميزة هذا الشعب انه كما قلت يا سيدي
    ان رحمه لاتعقم عن انجاب الرجال العضام فالرحم التي انجبت طارق وجنوده الفاتحين هي التي اخرجت الفرنسيين المستدمرين ومن خلفهم جيوش الحلف الاطلسي وجحافل المرتزقة وشذاذ الافاق السافلين
    ان مدرسة الامام الاعضم ابن باديس وسيد العلماء و شيخهم الإمام محمد البشير الإبراهيمي
    هي مدرستنا...............ولن تقوم لنا قائمة في ذي البلاد ومنهجها مغيب وافكارها مردومة ومبادؤها محتقرة
    انها كما قلت يا سيدي المدرسة التي هزمت فرنسا

  • بدون اسم

    (2) Sketches of Algiers

  • walid

    بارك الله فيك يالشيخ

  • emed lebid

    و الله يا شيخ ما عسانا القول سوي بارك الله فيك

  • محمد غرداية

    لا زلت ـ شيخنا الفاضل ـ تحيي فينا الروح العالية وتنفض الغبار عن معدننا وتثير فينا الروح العلمية لأن يطلع المسلم الجزائري على تاريخه الحافل بالفضائل والمكرمات وتسلط الأضواء على الشخصية الجزائرية ليعرف حقيقتها القاصي والداني والعدووالصديق والجاهل والعالم ...