-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وفي الخرافة مآرب أخرى

سلطان بركاني
  • 1366
  • 0
وفي الخرافة مآرب أخرى

قبل رحيله عن هذه الدنيا بساعات معدودات، كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يرفع الإزار عن وجهه من حين لآخر ويقول: “لعن الله اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، “ألا لا تتّخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك”.. وكأنّه –عليه الصّلاة والسّلام- خشي أن تحذو أمّته حذو الأمم قبلها، وتتّخذ قبره وقبور الصالحين من أمّته أماكن تُطلب عندها الزّلفى والقربى إلى الله، كما تُطلب في بيوت أذن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فحذّر من ذلك ونهى عنه أشدّ النّهي، ولعن من يفعل ذلك، ثمّ دعا الله فقال: “اللهمّ لا تجعل قبري من بعدي وثنا يعبد.. لعن الله قوما جعلوا قبور أنبيائهم مساجد”.

وصية من أغلى وصايا نبيّ رحيم بأمّته حريص على نجاتها، بها قوام الدين وصلاح أمر والمسلمين.. فما خَلق الله عباده إلا ليعظّموه ويدعوه ويسألوه ويستغيثوا به وحده، وهو القريب المجيب القائل سبحانه: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون))، والقائل: ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون)).. أبوابه مفتوحة للطّائعين والعاصين، والمؤمنين والكافرين؛ فمن ذا الذي أمّله لنوائبه فخيّب أمله؟ ومن ذا الذي رجاه لعظيمة فقطع رجاءه؟

إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن لتلك المظاهر التي تحرص وسائل الإعلام العموميّة والخاصّة على نقلها من حين لآخر على أنّها عادات وتقاليد يحرص بعض المسلمين على إحيائها عند أضرحة بعض الصّالحين، في مواسم ومناسبات شتّى، أين تفد الوفود وتجتمع الجموع من أماكن ومناطق شتى، كلّ يحمل رجاءه ومطلبه وحاجته ليُنزلها بالله عند الضّريح، وربّما يرجو وساطة ساكن القبر إلى من بيده الأمر، بل ربّما يغريه الشّيطان بدعاء ورجاء صاحب القبر، ليكشف عنه الكرب ويدفع عنه الخطب، ويعطيه ويرزقه.. مع أنّ الواحد الأحد يقول: ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير* إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)).

عشرات الآلاف من الأضرحة في العالم الإسلامي تُقام عندها المواسم وتُزار ويدعى ساكنوها وتنذر لهم نذور تتجاوز قيمتها حسب بعض التّقديرات 5 مليار دولار كلّ عام. في مصر وحدها ما يقارب 6 آلاف ضريح، وأكثر من 3 ملايين مسلم يزورون قبر البدوي بطنطا المصرية سنويا، وأكثر من مليون مفتون يزورون قبر الشاذلي على جبل حميثرة قرب الصعيد بمصر، ويذبحون هناك ما يزيد على 120 ألف رأس من الخراف والماعز والإبل.. في العراق، 7 ملايين مسلم يزورون قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- كلّ عام، وأكثرهم لا يزورونه تقرّبا إلى الله بزيارته، وإنّما لقضاء حوائجهم ونيل مطالبهم، وربّما عددهم أو يزيد يزورون قبر الحسين بن علي –رضي الله عنه- لذات الأغراض.. مئات بل ربّما آلاف الأضرحة التي تزار في السّودان والمغرب والجزائر، ولا يختلف الواقع في كثير من بلاد المسلمين الأخرى، حيث مئات وآلاف القباب والمزارات والمساجد المبنية على القبور، يحصل عندها من الأمور التي لا يرضاها الله ما تأسى له قلوب الموحّدين، بل ربّما ينحدر بعض المفتونين عند عتباتها إلى الشّرك الأكبر بالله جلّ في علاه، يقول الشيخ محمّد الغزالي -عليه رحمة الله- في كتابه “عقيدة المسلم”: “ولماذا نستحي من وصف القبوريين بالشّرك، مع أنّ الرّسول –صلّى الله عليه وسلّم- وصف المرائين به، فقال: (الرياء شرك). إنّ واجب العالم أن يرمق هذه التوسّلات النابية باستنكار، ويبذل الجهد في تعليم ذويها طريق الحقّ، لا أن يفرّغ وسعه في التمحّل والاعتذار، ولست ممّن يحبّ تكفير النّاس بأوهى الأسباب، ولكنْ حرام أن ندع الجهل بالعقائد ونحن شهود”. ويقول عليه رحمة الله: “إنّ الواحد منهم قد يصادق أفسق النّاس، وقد يقطع والديه وهما أحياء، ثمّ تراه مشمّرا مجدا في الذّهاب إلى قبر من قبور الصّالحين، لا ليدعو له ويطلب من الله أن يرحم ساكن هذا القبر، بل ليسأل صاحب القبر من حاجات الدنيا والآخرة ما هو مضطرّ إليه، وذلك ضلال مبين”ا.هـ.

إنّه أعظم المنكرات التي يجب أن تتحرّك لها القلوب والألسن، ويجب أن يتحرّك ولاة أمر المسلمين لإزالتها بإشاعة العلم ومحاصرة الخرافة، وليس بالتّشجيع عليها ودعمها، بحجّة أنّها البديل للتطرّف!

إنّه لأمر مؤسف حقا أن يتخلّى بعض الحكّام عن واجب حماية عقيدة المسلمين، ويتمادى بهم الأمر إلى حدّ رصد الأموال الضّخمة لبناء وتشييد الأضرحة والمزارات، وتسخير وسائل الإعلام لدعم القبورية والترويج لها، وإلى تنظيم الملتقيات والمؤتمرات التي تروّج لهذا النّهج، وإنّ من الإسفاف أن تستثمر كثرة المزارات والأضرحة لاستجداء رضا أمريكا التي تريد أن تفرض على الأمّة المسلمة ما تسمّيه مراكز أبحاثها “الإسلام التّقليديّ” أي إسلام القبور والأضرحة والمزارات والزّردات والوعدات.. تقرير مؤسّسة رند الأمريكية الصّادر سنة 2007م دعا صراحة إلى دعم العقائد القبورية وتشجيع الحكومات المسلمة على دعمها.. لجنة الحريات الدينية بالكونجرس الأمريكي أقرّت توصيات بدعم التصوّف في العالم الإسلامي.. سفراء أمريكا يحرصون على عقد لقاءات مع عدد من شيوخ الطّرق في بعض دول المسلمين.. اليونسكو النّصرانية أشادت بابن عربي وجلال الدين الرومي، وكرّمت شيوخ بعض الطّرق، ورعت عدّة مؤتمرات في عدد من الدّول لإحياء التصوّف.. القوات الأمريكية فتحت المزارات والأضرحة وشجّعت على إحياء الموالد مباشرة بعد دخولها أفغانستان، وكذلك فعلت في العراق.. حكومات العديد من دول المسلمين تتنافس في دعم التصوّف وتبنّي طرقه.

أمريكا تريد للطّرق الصّوفية ولتجارة القبور أن تنتعش، والعلمانيون كذلك.. ليس حبا للتصوّف ولا للأولياء الصّالحين، وإنّما لصدّ شباب الأمّة عن دينهم بإظهاره دينا للخرافات والتعلّق بالأموات.. المتربّصون بهذا الدّين يعلمون أنّه متى ما انتشرت الخرافة انتشر الإلحاد بين الأجيال الجديدة من المسلمين، وزهد الغربيون في الإسلام، ولذلك حينما أنكر بعض النّاس على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أنّها تهتمّ بالحرب على الطرقية ولا تهتمّ بمواجهة الإلحاد، ردّ الإمام الإبراهيميّ قائلا: ” إنّ لفشوّ الخرافات وأضاليل الطّرق بين الأمّة أثرا كبيرا في فشوّ الإلحاد بين أبنائها المتعلّمين تعلّما أوروبيا، الجاهلين بحقائق دينهم، لأنّهم يحملون من الصّغر فكرة أنّ هذه الأضاليل الطّرقية هي الدين، فإذا تقدّم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقا وعدلا وأنكروا معها الدين ظلما وجهلا، وهذه إحدى جنايات الطّرقية على الدّين، أرأيت أنّ القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد في بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!