-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رؤية استشرافية من أجل الجزائر

1 ـ الطريق إلى التفكير الخصب

محمد سليم قلالة
  • 3519
  • 19
1 ـ الطريق إلى التفكير الخصب

“الخطاب” العقيم، والمحدود، والضيق، والعدواني الرافض للآخر، هو العامل الرئيس في عجزنا عن إيجاد حلول للمشكلات المتعددة التي نعيشها.

عند تحليلنا للخطاب السياسي والثقافي السائد لدينا منذ عقدين من الزمن على الأقل نكتشف بسهولة أنه خطاب:

ـ يكتفي بالتشخيص دون العلاج،

ـ يغوص في الجزئيات دون التعرف على الأبعاد الكلية والإستراتيجية ناهيك عن الاستشرافية والمستقبلية،

ـ  يدير ظهره للمستقبل ويغرق في  مجابهة الحاضر بالماضي.

لذا فهو “خطاب” بدل أن يمكننا من حلول متعددة نواجه بها ما ينتظرنا من مشكلات، يغوص بنا  أكثر في تعقيدات الحاضر  وتشكيكات الماضي. 

نادرا ما نسمع حديثا عن الآفاق.. عن الغد..

وإذا ما طُرح السؤال الذي ينبغي أن يُطرح: ما العمل؟ وقد حدث ما حدث ويحدث ما يحدث، نادرا ما نجد الجواب.

الخطاب السائد إما هو مُكيف بصيغة الحاضر، أو مطروح في صيغة الماضي، وكل القدرات التعبيرية، وكل الشجاعة الأدبية تجدها تقف عند هذا المستوى.

سياسيون ، برلمانيون، مسؤولو الجهاز التنفيذي، وزراء، رؤساء حكومات، رؤساء دول لم يتمكنوا بعد من الخروج من هذا الطرح الضيق، وقلّما تجدهم يبرعون خارجه. في حين أن العكس هو المطلوب، أو هكذا ينبغي أن يكون.

بدل أن نقف عند حدود الحديث عن ماضي أو حاضر الهيئة التنفيذية الضعيف، ينبغي أن نطرح السؤال: ما السبيل ليصبح أقوى في المستقبل، وكذا الأمر بالنسبة للهيئة التشريعية أو القضائية أو سلطة رئاسة الجمهورية.

إننا سنكتب المجلدات ونحن نتكلم عن ماضي وحاضر العدالة السيئ مثلا، أو ماضي وحاضر التعليم السيئ أو الصحة أو الصناعة أو الدبلوماسية أو غيرها من القطاعات، ولكننا لن نحقق أي تقدم إذا لم تكن لدينا القدرة على تقديم البدائل المثلى للمستقبل، وعادة ما يمكن عجزنا في هذا المستوى، ويتعمق هذا العجز إلى أن يصبح  الخطاب لدينا خال من أية فكرة حية ذات فعالية في المستقبل.

هل عجزنا عن إيجاد نائب أو وزير أو مسؤول تنفيذي أو حتى رئيس دولة غير قادر على النقد، وتشريح الحاضر، والنيل من كل حقيقة طُرحت في الماضي حتى وإن كانت تبدو بديهية لا غبار عليها؟. بالعكس لقد لاحظنا أن مقياس تفوق خطاب هذا أو ذاك هو بقدر ما يستطيع النيل من الماضي والحاضر، وأحيانا يُسعدنا ذلك، بل لا نميل أبدا إلى سماع من يحدثنا عن المستقل عن الآفاق. لقد تم تشكيل “عقلنا” بصيغة أن الأفضل هو الأكثر قدرة على التحطيم لا على البناء. أحيانا سنزهو ونحن نسمع لأشخاص لديهم قدرة فائقة على النقد والتحطيم والسخرية من ماضي وحاضر الآخرين، ولا نكترث إلا قليلا لمن يطرح أفكارا من شأنها أن تهم الغد، بل ونعتبر ذلك نوعا من الهروب إلى الأمام.

إن مزاجنا أصبح أكثر قابلية للانتقام منه إلى الصفح، وطبيعتنا أصبحت أقرب إلى التحطيم منها إلى البناء، وتقييمنا لخطابات الأشخاص إنما يتم في الغالب انطلاقا من قدرتهم على تحطيم بعضهم البعض والكشف عن عورات بعضهم البعض. لا نسعد أحيانا عندما نسمع خطابا خارج هذا اللاتوازن غير الطبيعي، مما يدل أن الخلل بلغ إلى عمق النظام القيمي المتحكم في توازننا العقلي والاجتماعي والسياسي، وعليه لم يعد أمامنا من حلّ سوى أن نطرح المشكلة على هذا المستوى، أي كيف نغير من إدراكنا للواقع ولأبعاد الزمن الثلاثة، وكيف نصحح هذا الخلل الذي تشكل عبر عقود من الزمن كرسته عدة خطابات اعتقدنا أنها هي التي ينبغي أن تسود وشجعناها بكل الوسائل.

لا أزيد عن هذا لإبراز القاعدة التي نريد من خلالها أن ننطلق لبناء المستقبل، لأن كلا منا يعيشه داخله، وربما نادرا ما تساءل مع نفسه لِمَ أنا مشكل بهذه الصفة؟ لِمَ لا يتقبل عقلي إلا هذا الشكل من الخطاب وينأى عن التفكير الخصب القادر على البناء؟

لقد طرحت هذا السؤال على نفسي منذ سنوات خلت، ومنذ سنوات وأنا أبحث عن الإجابة إلى أن وجدتها:

عندما يتحرك مجتمع معين خارج نطاق قيمه، أو عندما يفقد نظام قيمه، يُصبح مولعا بحالة الفوضى القيمية التي يجسدها خطاب النفي، ونفي النفي، أي الخطاب الذي لا يستطيع أن يستمر خارج  نطاق تحطيم الآخرين أو السخرية منهم أو طرح كل اللائمة عليهم، وإذا ما أراد أي مجتمع استعادة قدرته على التفكير الحي الديناميكي الاستشرافي، الذي يمكنه من التقدم فليس أمامه سوى استعادة توازنه القيمي قبل أي توازن آخر اقتصادي أو سياسي أو استراتيجي، ذلك أن كل التوازنات الأخرى إنما هي قائمة ومحكومة بهذا التوازن الدقيق الذي يبرز على مستوى القيم.

ولعل هذا ما يجعلنا نفسر لِمَ استطاعت بعض المجتمعات التي كانت تبدو بدائية من بناء حضارة أو القيام بثورات على الواقع الذي تعيشه، وعجزت أخرى يبدو في الظاهر أن لديها إمكانيات أكبر للتقدم.

إن المجتمعات التي استطاعت أن تستعيد مكانتها بسرعة أو تعيد بناءها من غير تردد هي تلك التي لم يكن مطروحا على مستواها الاجتماعي خلل في التوازن القيمي أو تمكنت بفضل قدرتها العالية على التكيف أو انعزالها أحيانا من استعادة التوازن في هذا المستوى بالسرعة اللازمة.

أما المجتمعات التي طالت وستطول فيها حالة التخلف وحالة الصراع حول الحاضر وحول الماضي هي التي خلاف ذلك لم تتمكن من استعادة هذا التوازن أو مُنعت من ذلك.

والحال الثانية هي التي تنطبق على مجتمعنا: إذ رغم ما لديه من منظومة قيم متماسكة ومتوازنة تم تسخير كافة الوسائل لكي يتحقق بها الاضطراب بعد الاضطراب لتسقط في متاهة البحث عن الذات ثم سب الذات ثم نكران الذات ففقدانها، وهي المرحلة الأخيرة التي تنحط فيها القيم ولا تُصبح هناك أية إمكانية لاستعادتها.

ولعل هذا ما يتوقع ويعمل البعض على أن نصل إليه من خلال اعتماد أكثر من أسلوب أو أكثر من وسيلة تبدو لنا في الكثير من الأحيان محايدة. كالتعليم والإعلام والثقافة والاستهلاك وتكريس ثقافة الغايات تبرر الوسائل…

لذا رأينا أن نتناول، بعد هذه المقدمة، موضوع الرؤية المستقبلية للجزائر من وجهة نظر الدراسات الاستشرافية مستخدمين مناهجها وأدواتها التحليلية لعلنا نصل إلى صوغها بالشكل الذي يهم الأجيال القادمة قبل الحاضرة، ابتداء من الحلقات القادمة إن شاء الله.

 

من خلال هذا الفضاء الذي اقترحته عليّ هيئة تحرير الشروق سأحاول تقديم العناصر الأساسية لأجل بلورة رؤية مستقبلية لجزائر الغد، في انتظار أن يصلني المدد الفكري من العمق الشعبي بمختلف مستوياته باعتباره هو العمق الاستراتيجي لأية رؤية والمنطلق الأول لأية أفكار..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
19
  • عبد الرزاق

    الحلول لأي مشكلة كثيرة و متعددة، منها الجيد و منها الرديء، و الصحيح و السقيم، و لكي نجتمع على الحلول الجيدة الصحيحة يجب أن نجتمع على مجموعة من المبادئ التي نغربل بها تلك الحلول. بل حتى أن المبادئ هي من تقيد وضعنا لإطار دراسة مشكلة من تحديد طبيعتها و أبعادها و أسباب حدوثها.

    أما تحديد الاختيارات بين الحلول فيتوقف بالدرجة الأولى على مدى صدقنا، فلو نظرنا مثلا في مشكلاتنا في الجزائر نجد أن حل الكثير منها يكمن في تغيير أنفسنا، لكن غالبنا يتكلم في الغير بكل سوء و لا يتكلم في نفسه بسوء واحد.

  • خالد

    تنتشر ببلدنا البيروقراطية والمحسوبية بشكل كبير للغاية الى درجة لايمكنك ان تحقق ايا من امور حياتك مالم تتوفر فيك شروط هي كالاتي / المعريفة القوة المالية والبنية المورفولوجية واستعمال القوة في كل مرة لكي تحقق مصالحك وماربك صار امرا محتوما لانهم اقصد الطبقة الحقيرة والمنتنة من طالبي الرشاوى والمزايا اكثر طبقة في هذا البلد تهدد امنه واستقراره ولولا ضبط النفس في بعض الاحيان لانتهت هذه البلد الى غير رجعة انا بصدد حكايت تجربتي في مع العلم اني في الثالثة والعشرين من عمري فقط تبا لكل ماهو قائم على منصب

  • حرنان ابو ايمن

    هذه بداية صحيحة لجعل العربة وراء الحصان-المطلوب من كل الغيورين ان يساهموا في إثراء الموضوع لعلنا نعثر على مخرجا لأزمتنا التي طالت شكرا الاستاذ سليم

  • رشيد علي

    حمى الله هذه البلد من كل سوء وسدد الله خطى امثالك من الغيورين على مستقبل الوطن فلتتكاثف الجهود فى هذه المرحله الدقيقه والخطيره من عمر امتنا العربيه وتكالب قوي الشر لتمزيق ما تبقى من بقايا الاوطان فمن قدم مليون ونصف المليون شهيد غير مسموح له ان يقفز عن الدماء ويلعن القدر اتمنى ان اري هذا البلد ليس فقط امنا بل امينا على مستقبل الامه وجازاك الله خيرا استاذنا والى الامام

  • قادة

    بارك الله فيك دكتور ونرجو من الله ان يوفقك في تحقيق نتاج ايجابية بهذه المبادرة التي اقترحهاعليك هيئةتحريرالشروق والتي مهمايقال فيهاو عليها تبقى جريدةوطنية تنشغل بمشاكله الوطن و المواطن في كل المجالات.نعم نريد ان نخرج من التفكيرالعقيم الذي افسدالبلادوالعباد الى التفكير الخصب الذي نامل ان يكون هو العامل الرئيس لخروجنا من الوضع الراهن الذي جعل الجزائرعلى شفى الهاويةكمايرى الكثير من المحللين وبانها تتجه للمجهول لقدر الله. فلن يكون لناتفكيرخصب حتى نحددمشروع مجتمعناوالزام احترام ثوابتنا بقوة القانون..

  • seif

    يا أستاذ سوف أخاطبك على أساس أنك تعيش في الجزائر و تحب لها الخير على ما يبدو.....
    اذا كنت تتكلم عن الاقصاء فيبدو انك تعلم مصدره ...
    ثم عن أي برلمان تتكلم ؟؟ هل أنت جاد ؟
    ثم عن أي وزراء ...ألا تعلم كيف يتم تعيين الوزراء عندنا؟
    الكفاءة أم الولاء ؟ و أشياء أخرى و حسابات جهوية
    أتعلم أن من الوزراء من لا يملك باكالوريا؟
    لا تتعب نفسك لن يتحسن أداء الجهاز التنفيدي ....تقول أنه يتم التشخيص و لا يؤتى بالحل ! من أين لك هذا ؟
    الذي يريد الحل إن وجد.. لا يريد أن يرى أحدا غيره في الحكم و تلك هي المشكلة!

  • ع. بلعسل

    الاهتمام الجاد بالمستقبل يدفعنا دفعا لترتيب البيت جيدا و حسن الاستفادة من الوقت.

  • نزار

    قبل انشغال الفرد المفعم بالتأمل و التجرد و النظر من أعلى يتوجب التفكير الجاد في ضرورة مراعاة توفير عنصر الصلة بالواهب من خلال التأهل ليصير ذلكم الشخص محلا لتنزلها إذ لا فائدة لا فائدة في محاولة التفتيش بين طبقات رماد بالي بارد منذ مئات السنين محاولين البحث عن جذوة متقدة لاستعادة الضوء و الدفء إن الأمل و التفاؤل لا ينفع هاهنا إذا كنا نسير في الاتجاه الخطأ و نفكر بالطريقة الخطأ بل ينفع الرب المنقطعة صلتنا به .
    أعطر التحيات و صادق الدعاء بالتوفيق لكل مريد خير لهذه الأمة .

  • الحاج حميد

    الى الاستاذ نا الكريم سليم امضى بنا الى هذا الصرح المتميز لعلى الله العظيم إن ينفع بك هذا البلد المحروس من رب العالمين فمضى بنا و نحن جنود من خلفك لنرفع من هذا البلد إلى مصاف الدول المتقدمة ولا ابلغ إن قلت بان بلدي متميز في مساحته الشاسعة فيه أربعة فصول في أن واحد كثافة سكانية 80/ شباب تقطن الساحل الذي يمتد على 1400كلم حباه الله بجميع خيرات الأرض بل هو متميز بثلاثة أشياء غير موجود ألا في بلدي الغالي في الكون التمر والتين والزيتون وهى مباركة من رب العالمين عروس جميلة جدا تبحث عن عريس في المزاد

  • سليمان

    من أروع ما قرأت بارك الله فيك دكتورنا .

  • عبدالرزاق

    - ان واقع سياستنا العامة مند الاستقلال , هي سياسة العرض كما هو معروف في طرائق بداغوجية التعليم , وهده الطريقة هي السائدة في الوطن العربي املاءات قرارات اوامر ومناهج مفروضة , كل سياسة مطبقة في جميع القطاعات فوقية ومفروضة رغم ما فيها من عيوب ومن ثغرات , لا تعدل ولا تغير الا بقرارات فوقية مفروضة , انتجت مشاكل في مختلف الميادين , بدلك ارغمت الامة ومثقفيها يركزون على السلبيات فقط اما الحلول والبدائل فمن اختصاص السلطة الحاكمة , انها انتاج السياسات الديكتاتورية اما قلمنا لو تحرر ... عدر استاد....

  • مودع

    لقد تجنبت الاختيار لما اخترت الطريق السهل

  • saad

    الحريه اساس الابداع الحوار منبر الفكر الاخلاق عماد الدين العلم روح التطور العداله مفتاح الحكم الكفاءة جاه المنصب الصدق مؤشر الوطنية المروؤة تاج الرجولة اين هي سلطات الجزائر من هاته القيم لنحقق الحكم الراشد الذي دوخنا به بو تفليقه???

  • بدون اسم

    education . health and justice without them there is no hope

  • محمد السعيد

    حدثنا يا فضيلة الأستاذ عن اي شيء - عن الماضي ، عن مشكلات الحاضر في اي مجال ، عن الفساد الاقتصادي و الاخلاقي و السياسي ... -ستجد و لا شك من يتواصل معك اما ان تتحدث عن الرؤى المستقبلية فذلك مما لم يستقر بعد في الاذهان ، و سبب ذلك انما يعود الى الاستغراق في الماضي ومن زمن بعيد و قد مضى على الاستقلال ازيد من خمسين سنة و نحن لم نبرح الحديث عن الماضي تعيد و نكرر و نمجد . الذهنية المشكلة على هذا النحو او هكذا تم تشكيلها يستحيل عليها الخروج من هذه الدائرة لانها تجد فيها المتع و الملذات . نترك الماضي و

  • A. Belacel

    Je suis d'accord avec vous, il faut voir l'avenir.

  • بدون اسم

    حسنا فعلت
    bonne continuation

  • مخلوف

    شكرا أستاذ على بداية وضع اليد على الجرح في انتظار همة التداوي الجماعي

  • مخلوف

    الحمد لله أنه مازال في القوم رجل رشيد ، ولعل أول خطوة قبل الرؤية المستقبلية للجزائر هي إحداث الوعي بالذات للجزائري الذي هو محور كل عملية