-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإسلام واحترام إرادة الشعب

ناصر حمدادوش
  • 443
  • 0
الإسلام واحترام إرادة الشعب

تعدُّ الدولة الحديثة منتَجا تاريخيّا، وقد تشكَّلت وبَنَت سلطتها على قاعدة تحويل وظائف المجتمعات إلى مؤسَّساتٍ إداريةٍ وسياسيةٍ متجذِّرة وعميقة، فهي تستبطن منطق التحكُّم عن طريق الحكم المركزي، وتقنين عمليةِ سيطرتها الشَّاملة على الإنسان عبر السِّيادة العلوية والمطلقة، وفَرْض منطق الخضوع والطاعة لها، إذْ تملك أدوات الإكراه وشرعية استعمال القوة، فبقدر ما هي ظاهرةٌ قانونية بالأساس، هي نظامٌ للهيمنة.

يرى الدكتور “وائل الحلاق” في كتابه “الدولة المستحيلة.. الإسلام والسِّياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” أنه من الخصائص الشَّكلية الخمسة للدولة الحديثة، هي: “احتكار الدولة للتشريع، وما يتعلق بذلك من احتكار ما يُسمَّى العنف المشروع، وتدخُّلها الهيمني في النظام الاجتماعي، وامتلاكها للجهاز البيروقراطي”، “ولا يوجد شيءٌ في إرادة المواطن النموذجي خارجَ إرادةِ الدولة ذات السِّيادة..”.

ومن أهمِّ مكوِّنات الدولة: الشَّعب والسُّلطة، ومن أصعب الأسئلة السِّياسية فيها هي: سؤال شرعية السُّلطة، أي مَن يحكم الدولة؟ وبأي قوَّة يسيِّرها؟

وتعدُّ “الشورى” في النظام السِّياسي الإسلامي من القيَّم السِّياسية التي تجسِّد احترام إرادة الشَّعب؛ إذْ تحقِّق الانسجام بين إرادة الحاكم والمحكوم، وتضمن وَحدة الأمَّة، وحقّ الطاعة والولاء للسُّلطة الحاكمة مقيَّدٌ بشرطيْ الشَّرعية والشَّريعة، فقد قيَّدت النصوصُ طاعةَ السُّلطة بمدى التزامها بالشريعة، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: “لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق”، “إنما الطاعة في المعروف”.

ولا ننكر وجود تجربةٍ تاريخيةٍ في نمط الحكم السِّياسي في التاريخ الإسلامي، والتي تكرَّس فيها منطقُ الخلافة بمعنى “السُّلطان المطلق” أو بعبارة “محمد عابد الجابري” في كتابه “العقل السِّياسي العربي” بـ”التعالي السِّياسي”.

إذا كان الفكرُ السِّياسي المعاصر قد انحاز إلى أولوية الدولة على الأمَّة في القوة، فقد  كرَّس الإسلام أولوية الأمَّة على السُّلطة، إذ أنَّ الإسلام ذو طبيعةٍ دستوريةٍ وقانونية يحترم إرادة الأمة كمصدرٍ للشَّرعية السِّياسية، فيعطي للأمة الحقَّ في الشُّورى، وفي الاختيار الحرِّ، وفي حقِّ ممارسة سلطة الرَّقابة، بل وعزل الحاكم أيضًا.

إنَّ اسم الخليفة يجمع في مفهوم البعض بين الولاية السِّياسية والولاية الدينية، أي أنه لقبٌ لخلافة النبي صلى الله عليه وسلم بنوعٍ من التماهي بينهما، مما يرتقي به إلى المركز الدِّيني بصلاحياتٍ مطلقة، ممَّا سجَّل استهجانًا لهذا التصوُّر الفقهي للخليفة، وإفاضة الموقف التعظيمي له، وهو ما لا يتطابق مع واجبات وحقوق وليِّ الأمر في الإسلام وفق الأحكام السِّياسية الخالصة والخاصَّة به، إذْ أنَّ أصالة القِيم السِّياسية في الإسلام تنبذ الوثنية السِّياسية بعبادة الحاكم، والخضوع المطلق له، وإضفاء القداسة عليه، ومن مقامات التوحيد الخالص هو تجريد الحُكَّام من السُّلطة المطلقة، إذْ قد يتلبَّسون بالألوهية، كما حكى القرآن الكريم: “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي” (القصص: 38)، وهو ما وصل إليه العقلُ المعاصر أيضًا، إذْ عبَّر عنه “أنشتاين” بقوله: “الدولة يجب أن تكون خادمةً لنا، لا أن نكون عبيدًا لها”.

وقد رفض القرآنُ الكريم تلك الهرَمية الفرعونية، وسعى إلى هدمها، ابتداءً من النُّخبة السِّياسية المرتبطة بفرعون كأداةٍ مباشرةٍ في استعباد الناس والعلوِّ في الأرض، كما قال تعالى: “وقال فرعون يا هامان ابْنِ لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب..” (غافر: 36)، والنُّخبة المالية التي تقتات على الفساد والاستبداد، في تحالفٍ هجينٍ بين المال والسِّياسة ممثَّلةٌ في قارون، في قوله: “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ..” (القصص: 76)، والنُّخبة الثقافية والإعلامية الممثَّلة في السَّحرة الذين يسوِّغون السِّياسات الفرعونية، ويبرِّرون الخيارات الفوقية، مقابل فُتَات على موائد المستبدِّين، كما قال تعالى عنهم: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (الأعراف: 113)، والنُّخبة الأمنية، التي تمثِّل اليد الباطشة بالمعارضين، كما تعالى: “إنَّ فرعونَ وهامان وجنودَهما كانوا خاطئين” (القصص: 08)، ثم تأتي تلك الفئات الجماهيرية المسحوقة، من فقراء الضمائر الذين أهدروا إنسانيتهم، وباعوا ذمَّتهم، واستسلموا للقابلية للاستعباد، بالتسليم بالأمر الواقع أمام سطوة الاستبداد، كما قال تعالى: “فاستخفَّ قومَه فأطاعوه، إنَّهم كانوا قومًا فاسقين” (الزخرف: 54)، وهذا النظامُ الفرعوني الذي تمَّ تشكُّله عبر تمثيلٍ بارعٍ لأدوارٍ متقنةٍ من فرعون وزبانيته، ما كان التأكيدُ القرآني عليه وعلى قصص الجبابرة عبر التاريخ إلا لتأكيد ديمومة الانتباه من تكرار النماذج المماثلة لهم عبر مسيرة الإنسانية.

ومن أجل مواجهة هذا التغوُّل السُّلطوي، فقد اتجه الفقهُ السِّياسي الإسلامي إلى إحداث التوازن بين إرادة الشَّعب وقوة السُّلطة عبر المدافَعة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذْ عالج القرآنُ الكريم ظاهرة التوتُّر بين العدل والظلم، وبين الحرية والاستبداد، وبين الصَّلاح والفساد، وهذا التدافع هو الضامن العاصم من الفساد، كما قال تعالى: “ولولا دَفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض..” (البقرة:251).

ولمنع أيِّ تغوُّلٍ على الحرِّيات وحقوق الإنسان فقد أقرَّ الإسلام مسوِّغات مواجهةَ أيِّ منحى تسلُّطي، وضمان التوازن في القوَّة بين الشَّعب والسُّلطة بما يتجاوز مفهوم المدافعة إلى أدواتٍ أوسع، لتشمل القوَّة المدنية والسِّياسية، وهو ما وصل إليه الفكر السِّياسي الدستوري المعاصر بتطبيق مبدأ المدافعة عبر آلية توزيع السُّلطات، والفصل والتوازن بينها، ومن ذلك أيضًا: الرَّقابة الشَّعبية.

وإذا كان الفكرُ السِّياسي المعاصر قد انحاز إلى أولوية الدولة على الأمَّة في القوة، فقد  كرَّس الإسلام أولوية الأمَّة على السُّلطة، إذ أنَّ الإسلام ذو طبيعةٍ دستوريةٍ وقانونية يحترم إرادة الأمة كمصدرٍ للشَّرعية السِّياسية، فيعطي للأمة الحقَّ في الشُّورى، وفي الاختيار الحرِّ، وفي حقِّ ممارسة سلطة الرَّقابة، بل وعزل الحاكم أيضًا، انطلاقًا من أنَّ المسؤولية في الإسلام عامةٌ في المجتمع، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتجاوز المسؤولية الفردية ليمتدَّ إلى المسؤولية الجماعية في العلاقة مع السُّلطة السِّياسية، ومنعها من الطغيان في ظلِّ مغريات القوة والمال والجاه، ومواجهة ذلك هو من أعظم أنواع الجهاد السِّياسي والمدني، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أعظمُ الجهاد كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر”.           وقد كرَّس سيُّدنا أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه في خطبة تولِّيه الخلافة سنة 11 هجرية قواعد التوازن بين السُّلطة والشّعب في مسؤولية الاختيار الحرِّ للحاكم، وواجب الرقابة عليه، بقوله: “يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُ فلا طاعة لي عليكم”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!