-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإصلاح في ظل التدرُّج

الإصلاح في ظل التدرُّج
ح.م

تحدثنا – للتذكير – في المقالين السابقين عن شرطين أساسيين على الأولوية والترتيب لنجاح عملية الإصلاح التي ينشدها الجميع وهما: الإصلاح في ظل الاستقرار والإصلاح في ظل التنمية.

غير أن قادة الإصلاح ومنظّريه والعاملين في حقوله الميدانية وجب أن يأخذوا بعين الاعتبار عاملا مهما آخر لا يقل أهمية عن العاملين السابقين وهو: “التدرج” في الإصلاح، وهو المنطق الذي يتناسب مع الفطرة البشرية المجبولة أصلا على ثقافة المراحل ومنطق الخطوات المتدرجة والمتتابعة والمتسلسلة.

و”التدرج” يعني فيما يعنيه السير وفق خطط قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى في تحقيق أهداف الإصلاح المرجوة، ويعتبر عاملا مهما في نجاح المشاريع وعكسه “التسرع” و”العجلة” و”التهوّر” التي تشعرك بالمتعة في البداية والثوران المؤقت ونشوة الانتصار الوهمي الأولي، في حين أنك مع العجلة لا تمتلك طول النفس والتركيز والحكمة والتوازن فتنهار وسط الطريق وينهار معك المشروع، والتاريخ بشواهده العديدة يخبرنا بعديد مشاريع الإصلاح التي أنجحها التدرّج ومشاريع الإصلاح في المقابل التي أنهاها التسرع وقضت عليها العجلة.

يعتبر التدرج في عملية الإصلاح، أيا كان شكله أو مجاله أو محيطه، ضروريا وذلك للأسباب المهمة التالية:
– التدرج يتناسب مع منطق ومسار المشاريع الكبيرة التي تحتاج إلى التريث وعدم العجلة، بالإضافة إلى أنه شرطٌ أساسي لنجاح المشاريع الجادة التي تحمل أهدافا واقعية ومهمة ورؤى استراتيجية وعميقة.

– التدرج عكسه التسرع والعجلة والتهور، فكم من مشاريع الإصلاح الكبيرة والجادة والمهمة التي فشلت لأنها وقعت في هذا المطب الخطير، وكان الضحية فشل عملية الإصلاح، بل وتأجيلها سنوات طويلة أخرى والشواهد كثيرة في هذا المجال.

– التدرج يتناسب مع منطق خلق الكون وتسييره، فالله عز وجل رغم قدرته وعظمته التي لا يستوعبها عقلُ البشر المحدود، ومع ذلك خلق الكون بكل تنوعاته في تدرُّج محسوب وليس دفعة واحدة وهو القادر على كل شيء، وأضفى هذا المنطق على كل مخلوقاته ونظام الحياة الذي نحن فيه وجعل لكل شيء قدرا وموعدا وتوقيتا وفترة حياة، فما بالك بمشاريع الإصلاح التي للإنسان والمحيط دورٌ كبير فيها وفي إنجاحها.

– كل الأنبياء من دون استثناء تأسست مشاريع الإصلاح في قناعاتهم وسلوكياتهم ونضالهم المستمر والطويل على فكرة التدرج بالرغم من البيئات الصعبة والمعادية التي عملوا فيها، إلا أنهم أدركوا بأن عملية الإصلاح تحتاج إلى صبر وتحمّل وتدرّج، ولا تجد في مشاريع الإصلاح عند الأنبياء منطق الانتفاضات أو الثورات العنيفة أبدا إلا التي فُرضت عليهم أو كانت دفاعا عن النفس.

– الإصلاح مسارٌ طويل ونبغي أن لا يكون ردة فعل عاجلة أو قرارات مزاجية أو محطات انتقام حول أوضاع سائدة، هذه لا تُسمى مشاريع إصلاح وإنما مشاريع للفوضى والارتجال والفعل والفعل المضاد، والذي يضبطها حقيقة هو التدرج المدروس الذي يوفر لها بيئة النضج الحقيقية المفضية إلى النجاح أو على الأقل المؤدية إلى صناعة بيئة ممهدة للنجاح.

– التدرج يحمي المشاريع من أكبر أعدائها وهو “الغلو” و”التطرف” و”التشدد” الذي يمتاز أصحابُه عادة بعدم الصبر والتعقل ويدعون دوما إلى إلغاء الأوضاع القائمة ومسح كل الموجود، وهذا الذي ينعكس دوما في صور للعنف والحروب الأهلية فتضيع المشاريع ويغتنم المستبدُّون الفرصة للتضييق أكثر على ما من شأنه أن يغيِّر واقعهم ويهدِّد وجودهم ومصالحهم.

– التدرج يمنح لأصحابه وقادته والعاملين في حقله القدرة الكبيرة على التخطيط والحكمة والتوازن والتبصُّر والخبرة الكبيرة والتجربة الواسعة، حتى إذا ما رمت بهم الأقدار والسنن الكونية إلى سدة الحكم والإمارة فيمكنهم تحقيق النجاح بما اكتسبوه سنوات طويلة من العمل والتدرج والصبر والسقوط تارة والنهوض تارة أخرى، فطبع المتسرع والعجول أنه يفتقد دوما للحكمة والتبصر والتعقل فيرهن مشاريع الإصلاح التي يتم وأدها بسهولة غالبا.

لكن في هذا المقام وعلى أهمية ما قيل حول التدرج في الإصلاح وجبت الإشارة والحذر والانتباه إلى تصحيح مهم مفاده أن التدرج لا يعني:
– غياب أو تغييب المغامرة، وأن بعض المواقف ضمن عملية الإصلاح تحتاج إلى قرارات سريعة ومواقف جريئة.
– التدرج لا يعني البطء أو التقاعس، وإنما هو تخطيطٌ قائم على رؤية واضحة وخارطة طريق مضبوطة.

– لا يعني التدرج عدم التصحيح أو المراجعة أو إغفال الأحداث المتسارعة والتي قد تؤثر إما سلبا أو إيجابا على عملية الإصلاح.
– التدرج لا يعني الانبطاح والمبالغة في لعب دور “الحكمة والتوازن” المفضيين إلى التأخر والدوران في حلقة مفرغة، خاصة إذا كنا نتعامل مع بيئات بها مشاريع منافسة وقوية.

– ينبغي أن لا يتحول التدرج إلى فوبيا وخوف من الأوضاع المحيطة، وهذا سيكون لا محالة مدعاة للتأخر وضياع البوصلة.
– لا إفراط ولا تفريط في تطبيق مبدأ التدرج، وإنما يتوقف الأمر على ما تملكه من قابلية وإرادة وما لديك من إمكانات ومقدرات بشرية ومادية، بها تسير وعليها تخطط وبها تنفذ وتنجح.

مختصر القول: أيها المصلحون أن إغفال التدرج قد يكون قاتلا لأحلام الكثيرين فقد تؤتى مشاريعكم من هذه الزاوية، فاحذروا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!