-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإعتذار في العلاقات الدولية: وسيلة للتقارب والمصالحة

محمد السعيد
  • 5343
  • 0
الإعتذار في العلاقات الدولية: وسيلة للتقارب والمصالحة

احتد النقاش في السنوات القليلة الماضية على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط حول مكانة الذاكرة في الحقبة المشتركة من التاريخ الجزائري الفرنسي، بين ناكر لجرائم الاستعمار…

وبين منوَه بعمله “الحضاري” وآخر يدعو إلى حكم أقل انحيازا يأخذ في الحسبان طابعه الاستغلالي وينصف آلام الشعب الجزائري طيلة فترة الاحتلال؛ وفي خضم هذا النقاش الذي يكشف عن رواسب حرب أهلية كادت ثورتنا التحريرية أن تفجرها في المجتمع الفرنسي، صدرت عدة قوانين يتراوح مضمونها بين إعادة الاعتبار لبعض رموز منظمة الجيش السري الإجرامية، وتعويض “الأقدام السوداء”، وإقامة نصب تذكاري للجنود الذين قتلوا في شمال إفريقيا، والاعتراف رسميا بأن ما حدث في الجزائر في الفترة ما بين 1954 و1962 ليس مجرد “عمليات لإقرار السلم” كما وصفها الخطاب الرسمي، وإنما كانت حربا حقيقية تستحق أن تنعت بهذا المصطلح.

وفي ظل هذا الجدال الذي يعنينا لكونه يتناول جزءا من تاريخنا المعاصر، برزت دعوة الجزائر للدولة الفرنسية، لتحمُّل مسؤوليتها عما لحق بالبلاد والعباد طيلة 132 سنة من دمار وميز عنصري وتقتيل، وتشريد، وطمس لشخصيتها، حتى ننطلق معا في العمل المشترك، وقد اطمأنت القلوب إلى أن الماضي الأسود قد ولى إلى غير رجعة.                                                            

إن المطلب الجزائري ليس جديدا في حد ذاته أو ردَ فعل عابر عن تصرَف غير مريح، بل إنه قائم منذ استرجاع الاستقلال، ولكنه كان يطفو على السطح أو يخبو وفق مقتضيات الساعة في مسار العلاقات الثنائية؛ وقد جاءت حركة الاعتذار العالمية التي ولدت في أواخر القرن الماضي لتعطيه دفعا كقيمة إنسانية، وتلتقي معه في تجريم الاستعمار حتى لا تبتلى به البشرية مرة أخرى، وتجعل من الاعتراف به من طرف الدول الوارثة لماضيه وسيلة لتحقيق المصالحة بين الشعوب، وأحيانا داخل الشعوب نفسها، وبعبارة أخرى فإن مطلب الجزائر ليس بدعة في العلاقات الدولية.

إن دولا مذنبة كبُرت بتحمُل مسؤولية إرثها الذي شوَّه صورتها في عمليات إجرامية يندى لها جبين الإنسانية، وتكاد فرنسا تكون الوحيدة التي تشّذ عن هذا التيار الجارف، مع أنَها صاحبة ثورة كانت الرائدة في القرن الثامن عشر في الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن؛ فليس من موجب للدهشة إذن أن تتعنت بقايا عقلية استعمارية مؤثّرة في بعض الدوائر الرسمية في رفض الإقرار بأن الجزائريين تخلصوا من سلاسل “الأنديجان”، بعد أن انتزعوا حقهم بالحديد والنار في مساواة أنفسهم بغيرهم، وكذبوا بذلك تلك النظرية التي لقنتها كتبهم المدرسية لستة أجيال متعاقبة، ومؤداها أن الجزائر هي الامتداد الطبيعي لفرنسا.

ولعله من باب الفائدة في هذه الحلقة الأولى ضمن حلقات ستخصص تباعا للعلاقات الجزائرية الفرنسية بأبعادها التاريخية وآفاقها المستقبلية، أن نذكر ببعض الأمثلة لدول تخلص قادتها من تصورات موروثة عن الحقبة البائدة، أو من أخطاء ماض ارتكبت باسم أوطانهم، هؤلاء وجدوا في مخزونهم الحضاري الشجاعة الكافية للتعامل مع هذا الإرث بشكل إيجابي وفق منطق العصر، ووضعوا لذلك صيغا وأشكالا فريدة أشاعت الرضا لدى تلك الأطراف التي أعماها التعصب أو أحرجها تأنيب الضمير، أو بالغت في الغلو حتى تضمن الحد الأدنى من حقها في التعويض. إن أحدث الأمثلة آت من آسيا حيث تركيا وأرمينيا، وهما دولتان مستقلتان تعيشان على عداوة عمرها قرن تقريبا؛ وسبب هذه العداوة أن أرمينيا تتهم تركيا بإبادة عشرات الآلاف من سكانها أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو ما أنكرته على الدوام الحكومات المتتالية في إسطنبول، مما شكل سببا لعدم تطبيع العلاقات بين الجمهوريتين، ولكن الطرفين اختارا منذ عدة أشهر سلوك طريق المصالحة حين وقّعا في العاشر من شهر أكتوبر 2009 اتفاقية تاريخية للشروع في طي هذه الصفحة المؤلمة بينهما.

وإذا كان هذا الحدث التاريخي قد رعته دول كبرى أملت عليها مصالحها العمل على ضمان الاستقرار الإقليمي لتأمين إنتاج الطاقة في جنوب القوقاز، إلا أنه يرتبط بديناميكية تسارعت وتيرتها في ظل حركة العولمة، وغايتها إعادة النظر في صفحات التاريخ الذي دونه القوي عن الضعيف في زمن التوسعات الرأسمالية، ولم يتردد فيه عن تشويه الأحداث، وإنكارها، أو العمل على محوها من ذاكرة الأجيال؛ ويدور الزمن، وإذا بضحايا هذا التاريخ ينتفضون لتحرير ذاكرتهم فيبادرون إلى النهوض بماضي أوطانهم بمقاربة جديدة قوامها البحث عن الحقيقة والعدالة، غير مبالين بما يعترضهم هنا وهناك من مقاومة، أو ما يثيره من تفهم، وعلى سبيل المثال، اضطرت دول عدة في الشمال لتحمل تبعات حقب مؤلمة من ماضيها إن مع جيرانها، أو مستعمراتها القديمة، وإن تجاه رأيها العام، أو سكانها الأصليين، أو الأقليات الإثنية؛ ولم تتخلف أعلى سلطة روحية مسيحية عن هذه الحركة حين استغل البابا يوحنا بولس الثاني أعياد الألفية الثالثة ليقدم اعتذارا علنيا غير مسبوق عن أخطاء الكنيسة في حق المارقين عنها واليهود والنساء والسكان الأصليين… 

وما زلنا نذكر صورة مستشار ألمانيا الغربية “ويلي براندت” يوم 7 ديسمبر 1970، وهو راكع تحت عدسات كاميرات العالم، أمام النصب التذكاري لمحتشد فارصوفيا؛ وقد وصف هذا الموقف في مذكراته قائلا: “في هوة تاريخ ألمانيا العريق، وتحت وطأة الملايين من الرجال والنساء الذين قتلوا، تصرفت كما يتصرف الرجال عندما تنقصهم الكلمات”؛ ترتب عن هذا الموقف الاعتذاري دفع تعويضات لإسرائيل تجاوزت حتى اليوم ستين مليار أورو، كما نجم عنه تدافع الأوروبيين إلى الأخذ به فيما يشبه نوعا من الهرولة لكسب ود اليهود بحكم سيطرتهم على المال ووسائل الاتصال، وهما أقوى سلاحين لصنع السياسيين، وقلب الحقائق؛ ومن بين هذه الدول بولونيا والمجر، بينما اعترفت فرنسا سنة 1995 بالمشاركة تحت نظام فيشي، في مأساة اليهود على أيدي النازيين، وكان رئيسها جاك شيراك حازما حين أقر بهذه المناسبة بأن اليهود الذين شملتهم حملة الاعتقالات في صيف باريس عام 1940، إنما كانوا ضحية “الجنون الإجرامي للمحتل الذي وجد يد العون لدى بعض الفرنسيين، بل لدى الدولة الفرنسية نفسها”؛ ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى خطت فرنسا خطوة ثانية، فبادر برلمانها تحت ضغط المظاهرات في مستعمرات غوادلوب، ومارتينيك إلى وصف تجارة الرقيق التي تعاطتها فرنسا في القرون السابقة، بالجرائم ضد الإنسانية.

– على أن البلد الذي سار بعيدا في هذا المضمار من حيث العمق التاريخي هو إسبانيا إذ اعتذر ملكها سنة 1992 لليهود المنحدرين من أصول أندلسية عما لحق بأجدادهم، قبل خمسة قرون خلت، بعد سقوط غرناطة سنة 1492؛ ولم تصدر عنه إشارة مماثلة لإنصاف المسلمين الأندلسيين (الموريسكوس) الذين تعرضوا آنذاك أيضا للاضطهاد والقمع والتنكيل، وأجبروا بالقوة إما على النزوح إلى شمال إفريقيا أوالتخلي عن دينهم، ولم تنجح سوى قلة قليلة منهم في إخفاء هويتها الحقيقية دفعا للأذى، ولا نجد تفسيرا للموقف الإسباني إلا في سوء وضعنا العربي الإسلامي الممزق الذي مكن غيرنا من الكيل بمكيالين في التعامل مع ذاكرة أمتنا في الأندلس.

– وهنا لا بد من ملاحظة عن هذه الهرولة لليهود، وهي أن التسليم بوقوع المحرقة أثناء الحرب العالمية الثانية، لم يحُل دون ظهور مدرسة فكرية في الغرب تشكك أصلا في وجودها بالشكل الذي روجت له الحركة الصهيونية؛ ولكن سيطرة هذه الحركة على وسائل الإعلام والدوائر المالية(1)، وتسلل أتباعها إلى مفاصل الكثير من المؤسسات جعلها تدفع بدول غربية إلى إصدار تشريعات تقضي بتجريم كل من يشكك في حقيقة هذه المذبحة أو ينفي وجودها؛ وامتدَ هذا التأثير إلى منظمة الأمم المتحدة حيث أصدرت الجمعية العامة في نوفمبر 2005 قرارا بإدانة أي إنكار جزئي أو كلي للمحرقة كحدث تاريخي، وخصصت يوما في السنة لإحياء ذكرى ضحاياها؛ ونتيجة لذلك، تعرضت مجموعة من العلماء والمفكرين للاعتقال والسجن في فرنسا وسويسرا وبلجيكا وبريطانيا وألمانيا منهم روجي غارودي الذي أسلم وألف كتابا عن “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”.

وإذا تركنا المسألة اليهودية جانبا، نجد أن البلدان التالية التي عانت من ويلات الاستعمار، تلقت التعويض المادي أو المعنوي عن الضرر الذي أصابها:   

1-  ليبيا: ظلت مسألة اعتذار إيطاليا لليبيا عن احتلالها لها طيلة ثلاثين 30 سنة، عقبة بين البلدين منذ أن طلبت طرابلس من روما سنة 1970 الاعتذار العلني عن هذا الاحتلال والتعويض عنه، ولم تزل هذه العقبة إلا بالرضوخ للمطالب الليبية في 30 أوت 2008 حين وقع الطرفان معاهدة صداقة بينهما، وبهذه المناسبة انتقل برلوسكوني رئيس الحكومة الإيطالية إلى طرابلس ليعلن أمام الملإ، كما جاء في نص نُشر على موقع حكومته على الإنترنت:

“أشعر بواجب الاعتذار، والتعبير عن الألم لما حدث منذ سنوات عديدة، والذي أثر على الكثير من أسركم”، وتعهد بدفع خمسة ملايير دولار في شكل استثمارات تشمل أساسا شق طريق سريع عبر ليبيا من الحدود التونسية إلى الحدود المصرية، وإزالة الألغام التي زُرعت أثناء الاحتلال الإيطالي…

2- ناميبيا: استولت ألمانيا، في الفترة ما بين 1884 و1915، على ما يسمى اليوم بناميبيا في جنوب غرب إفريقيا؛ واقترفت قواتها ما يُعتبر لدى بعض المؤرخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وهو تصفية ثلاثة أرباع أفراد قبيلة Heréros.

وبعد مرور مئة سنة، اعتذرت ألمانيا رسميا في أوت 2004 عن هذه المجزرة على لسان وزيرة التعاون والتنمية:

“نحن الألمان، نتحمل مسؤوليتنا الأدبية والتاريخية، وأطلب منكم أن تعذرونا”.

3 – كوريا الجنوبية: تعتبر اليابان أكثر الدول في القرن العشرين عرضة لضغوط جيرانها من أجل الاعتذار والتعويض، وظلت هذه الضغوط في تزايد حتى سنة 1998 حين حصلت كوريا الجنوبية على ما تريده بإعراب الوزير الأول الياباني عن الإحساس بالذنب لسيطرة بلاده عليها، واعتذر لها بصفة رسمية، إلا أن الصين الشعبية التي عانت هي الأخرى من الغزو الياباني، لم تعامل كجارتها لأن طوكيو تعتبر أن جيوشها لم تغزها، وإنما اكتسحتها فقط أثناء الحرب العالمية الثانية.

وهناك دول أخرى، قامت في سعيها لتجسيد المصالحة بينها إما إلى تبادل الاعتذار، على أساس أن كل طرف أذنب في حق الآخر، أو الاعتراف من جانب واحد بأخطاء حصلت في الماضي في حق هذه الدولة أو تلك:

1) ألمانيا وتشيكيا:

في بيان مشترك صادر بتاريخ 21 جانفي 1997، أعربت الحكومة الألمانية لجمهورية تشيكيا عن الأسف على ضم السودات في عام 1938، وهي منطقة تقع شمال شرقي بوهيميا، بينما اعتذرت تشيكيا عن طردها ثلاثة ملايين ألماني من هذه المنطنقة عام 1945.

2) كوبا وغواتيمالا:

في 17 فيفري 2009، اعتذر رئيس دولة غواتيمالا للحكومة الكوبية عن إقحام بلاده في مساعدة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1961، على محاولة قلب نظام الحكم في كوبا، وقال الرئيس ألفاروكولوم:

“لم نكن نحن الذين تورطنا، ولكن الأرض التي انطلقت منها العملية المدبرة، هي أرضنا؛ لذلك وجب علي الاعتذار بوصفي رئيسا للدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة”.

وداخل بعض الدول الديمقراطية، استطاعت حكومات أن تضفي مزيدا من الانسجام على مجتمعاتها بإنهاء مرحلة الظلم التي عانت منها فئة من فئاتها في مرحلة ما من تاريخها؛ وعلى سبيل المثال، اعتذر الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” عام 1997 عن استعمال المواطنين السود بدون علمهم لتجريب آثار “داء الزهري” عليهم في ولاية ألاباما، كما اعتذر لهم مجلس الشيوخ لاحقا “عما لحق بهم وبأجدادهم من ألم جراء العبودية، والقوانين العنصرية المعروفة باسم قوانين جيم كراو”.

وفي الإكوادور بأمريكا اللاتينية، استطاع ممثلو السكان المنحدرين من أقلية الشعوب الكولومبية الأصلية، أن يدرجوا في الدستور سنة 1998 مادة تنص على أن الدولة “مؤلفة من شعوب أصلية، وسود، أو الآفرو إكوادورية”.

وفي أستراليا، اعتذرت الحكومة في السنة الماضية للسكان الأصليين عما عانوه من ظلم طيلة القرنين الماضيين من طرف الحكومات والبرلمانات المتعاقبة، ومهدت لذلك بالاعتراف بصحة العقود العرفية لملكية 40٪ من أراضي البلاد.

وحملت سنة 1995، حلا للخلاف المزمن القائم منذ قرن بين التاج الملكي البريطاني والسكان الأصليين في نيوزيلاندا (Maoris) الذين انتزعت منهم أراضيهم في القرن التاسع عشر من طرف المستوطنين البريطانيين، وكان ذلك بإقرار الملكة بأن “ممثليها ومستشاريها تصرفوا بشكل غير عادل إما عندما أرسلوا قواتها الى إقليم الماغوا في جويلية 1893 أو بتسمية الثائرين من أجل حقوقهم بالمتمردين تعسفا؛ كما أقرت بأن مصادرة الأراضي والثروات التي تلتها على أساس قانون نيوزيلاندا، غير مبرر”، وهكذا، أنصف الماوريس معنويا وماديا، وفي ذات  المسار، خطت الحكومة الكندية تجاه ضحايا الإبادة الثقافية”، وقصة ذلك أن أكثر من 150 ألف من أبناء الهنود الحمر فصلوا عن أهاليهم، ووضعوا في مدارس داخلية دينية قصد إدماجهم قسرا في الثقافة الكندية، حتى أنهم كانوا ممنوعين من الحديث بلغتهم الأصلية؛ وقد شرح أحد الضحايا الأحياء معاناته حين قال:

“بما أنهم عجزوا عن القضاء على جميع الهنود الحمر، لجؤوا إلى قتل الإنسان الهندي في الطفل”.

وطيا لهذه الصفحة، طلبت الحكومة الاتحادية الصفح من الأحياء، وواجه الوزير الأول البرلمان بقوله:

“كان إنكار ما حدث عائقا لتضميد الجراح، وعليه أقف أمامكم معتذرا عن دور المدارس الداخلية الهندية،  وطالبا العفو”.

وفي بعض الأحيان، يتحكم عاملا التدخلات الأجنبية ووزن الرأي العام في العملية؛ فالحكومة الكمبودية لم توفق في إحالة قادة حركة “الخمير الحمر” الشيوعية على محكمة دولية بتهمة إبادة مئات الآلاف من المواطنين، مباشرة عقب استيلائهم على الحكم في 1975 بالمباركة الأمريكية التي استفادت منها أيضا حركة طالبان في الزحف إلى السلطة في أفغانستان.

وفي جنوب إفريقيا، قبل الجلادون البيض المثول أمام العدالة، مع ضحاياهم من الوطنيين ممن اتهموا بالتجاوزات في كفاحهم ضد الميز العنصري “مما حسن الأجواء بين الأقلية البيضاء، والشعوب الإفريقية.”؛ وإذا كان الرئيس الأسبق بوتا تجاهل لجنة الحقيقة والمصالحة، حتى لو انجر عن ذلك صدور حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، فإن خليفته “فريديريك دوكلارك” الحائز على جائزة نوبل مناصفة مع “مانديلا” سنة 1993، كانت له الشجاعة للاعتراف أمام اللجنة بأن “الميز العنصري إنما كان خطأ”.

وفي بلجيكا، تشنُ “مجموعة الذاكرات الاستعمارية” التي تأسست سنة 2008، حملة من أجل فتح نقاش عام حول الجوانب السلبية والإيجابية للاستعمار، وتطالب الحكومة بالاعتذار للشعب الكنغولي، وإجراء تحقيق حول ظروف اغتيال زعيمه باتريس لوممبا.

وهناك دول تجاوزت الجانب الاستعماري لتاريخها بتحقيق نتائج مختلفة:

فالحكومة الإيطالية أدرجت المسألة الاستعمارية في تاريخها الوطني باعتماد خطة مزدوجة تقوم في شقها الأول على سن يوم للذكرى لفائدة اليهود المبعدين، وتقوم في شقها الثاني على التنويه بالجنود الإيطاليين الذين سقطوا في معركة العلمين أثناء الحرب العالمية الثانية، أي في الوقت الذي كانت فيه إيطاليا الفاشية حليفة لألمانيا النازية.

وعلى العكس من ذلك، فإن الحكومة اليابانية لم تنجح في تهدئة حملة الاحتجاجات لدى جيرانها، وحتى في جزء من رأيها العام الداخلي، وهي الحملة التي نشأت عن بناء تمثال “يازوكوني” تخليدا لذاكرة الجنود اليابانيين الذين قتلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ وفي روسيا أقامت الحكومة جنازة رسمية لإعادة دفن رفات القيصر نيكولا الثاني وعائلته الذين أعدموا سنة 1917 من طرف البلاشفة، وصرح الرئيس بوريس يلتسين بهذه المناسبة:

“نحن جميعا مذنبون؛ ولا داعي للكذب على أنفسنا بمحاولة شرح وحشية حمقاء بأهداف سياسية”.

وفي حالات عدة، يكون الاعتذار مصحوبا بتعويضات مالية للضحايا أو ذويهم؛ فإيطاليا تعهدت، كما رأينا، بدفع خمسة ملايير دولار لليبيا، وألمانيا ضاعفت مساعداتها المالية لناميبيا، وكذلك فعل اليابان بمنح مساعدة إضافية بقيمة ثلاثة ملايير دولار إلى كوريا الجنوبية، تتمة لتحويل سابق بمبلغ 500 مليون دولار كتعويض عن استغلال آلاف النساء للترفيه عن الجنود اليابانيين أثناء احتلالهم لهذه البلاد؛ كما أن الحكومة الاتحادية الكندية خصصت مبلغ خمسة ملايير دولار لتعويض ضحايا المدارس الداخلية الدينية من أبناء الهنود الحمر…

وهناك حالات، لا يكون فيها الاعتذار شرطا مسبقا للتقارب بين الدول كمعاهدة السلم والصداقة المبرمة سنة  1978 بين جمهورية الصين الشعبية واليابان، والحال أن الصين متمسكة بطلبها حتى اليوم؛ أو التعاون الإفريقي الأوروبي القائم بالرغم من رفض دول أوروبية الاعتذار أو دفع التعويضات عن تجارة الرقيق في القرون السابقة، وأخيرا تبادل الزيارات في السنة الماضية بين رئيسي تركيا وأرمينيا قبل تسوية مسألة القتلى الأرمن.

إن هذا التذكير ببعض الوقائع في العلاقات الدولية يؤكد وجود وعي دولي متزايد بضرورة تجريم الاستعمار، والتكفير عن أخطاء الماضي من أجل فتح صفحة جديدة في تاريخ البشرية عنوانها المساواة والإذعان للحق وليس لشريعة الغاب؛ وتعتبر الجزائر التي كانت قبل الاحتلال دولة ذات هيبة عالمية أطبقت الآفاق، أكثر الدول تضررا من الظاهرة الاستعمارية إلى درجة أن شعبها كاد ينقرض كما انقرض الهنود الحمر في القارة الأمريكية (2)، فحق لأبنائها انتزاع الضمانات حتى لا يتكرر ما حدث لوطنهم ولأجدادهم، وذلك بإذن الله، هو موضوع الحلقة القادمة.      

 ـــــــــــــــــ

*الأمين العام لحزب الحرية والعدالة “غير المعتمد”                             

1) من الحجج على هذه السيطرة أن الحديث سلبا عن الشخصية اليهودية وتاريخها يعتبر من المحرمات في الإعلام الغربي.

2) “إنها لمعجزة أننا لم نلق مصير الهنود الحمر” هذه الجملة للمرحوم فرحات عباس، أول رئيس للحكومة المؤقتة، وردت في كتابه “لبل الاستعمار”.       

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!