-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (10): جمع النّصوص مهمّ وفقهها أهمّ

أبو جرة سلطاني
  • 145
  • 0
الحلقة (10): جمع النّصوص مهمّ وفقهها أهمّ

خلاصة ما أمكن جمْعه من كلّ المذاكرات التي يسّرها الله لنا هي: أنّ السّابقين قد حرصوا حرْصَ وعْي مقصود على جمْع النّصوص والآثار وأقوال السّلف وتدوينها على هيئة “مادّة خام” على أمل أن تنهض الأجيال اللاّحقة بواجب التّوثيق والتّدقيق والغربلة والتّنقيح وتخليص التّراث مما علق به من شوائب. وقد أحسنوا الفعل والفهم وأمدّونا بمادّة علميّة دسمة فيها قليل من الغثّ وكثير من السّمين. ووضعوا جملة من الشّروط العلميّة والضّوابط الفقهيّة والمحدّدات الشّرعيّة التي تَوسّد الخلفُ طريقَها في تتبّع خطوات “المنهج الإيماني” الذي هو كلام الله تعالى للإنس والجنّ الحامل للتّكاليف الشّرعيّة كلّها من خلال نصوص القرآن المجيد، وما سُخّر لخدمته من علوم السنّة والعلوم المكمّلة لها والآثار التّابعة لها والاجتهادات الخادمة لهذا الغرض النّبيل. كون القرآن الكريم كتاب هداية: ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)) (البقرة: 2) في مقاصده الكبرى. ولأنّه كتاب هداية فإنه حوى كلّ ما يرشد البشريّة إلى التي هي أقوم في دينها ودنياها وعاقبة أمرها في ثلاث جمل مفيدة:

  • المعبود واحد لا يتعدّد ولا يقبل أن يُعبد إلاّ وحده بلا شريك.
  • ولا تصحّ عبادته إلاّ بما شرَع.
  • ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

ولأنّ البشريّة تعيش فوق هذه الأرض، وهي مأمورة باستخلافها وعمارتها وفق شرْعة الله ومنهاجه بالمتاح لها من الوسائل والوُسع، فإنّ شؤونها -بعد عقيدة التّوحيد- تتغيّر وتتجدّد حاجاتها ومطالبها بما يطرأ عليها من أحوال، وتتبدّل ظروف معيشة النّاس في الأرض بعد كلّ جيل أو جيليْن إلى خمسة أجيال. فحركة الحياة تتيح للإنسانيّة المزيد من التّطوّر والاكتشاف والاختراع وتفتح لها آفاقًا واسعة رحبة للعيش المشترك الذي يتطلّب اجتهادًا جديدًا بأدوات متنوّعة وبلغة يفهما أهل كلّ عصر. وهو ما يفرض على العالم الإسلامي تجديدَ فهمه للإسلام بقراءة جديدة لتراثه وبإعادة النّظر في كثير من المفردات القديمة التي تسبّبت في سـوء فهم الإسلام وفي اتّهامه بما لا يليق به كدين عالمي وعد الله أنْ يتمّ نوره ولو كره الكافرون. ومن المؤسف أنْ نجد في كثير من التّفاسير القديمة، وفي تفاسير بعض من سلكوا مسلكهم، كلاما لا يملك علماء الإسلام عليه دليلا سوى القول: هذه آثار السّلف!

ومن المؤلم أنّ في بعضه ما يسيء إلى كلام الله ويزرع الحقد والضّغينة في صدور المخالفين ولو كانوا مسلمين، ويجعل “الرّأي” دينًا والعرف شريعة يتمّ على أساسهما الولاء لهذه الفرقة والبراء مما سواها، فيتوسّع الخلاف ويستشري النّزاع ويدبّ الشّقاق بين ساكنة هذه المعمورة بسبب تفسير خاطئ لكلام الله يظنّه النّاس من الدّين وما هو من الدّين، إنما هو من فهم البشر لكتاب الله بغير سند، أو هو من أهواء الذين لا يعلمون. وكلّه وصْف لسان يظنّ المتعصّبون له أنهم ينافحون به عن دين الله ولكنْ في بعضه فتنة للذين آمنوا بتضييق متّسع، وللذّين كفروا بسوء العرض وبضعف الدّفاع عن قضايا الإسلام في المحافل الدّوليّة عندما يصير الرّأي دينا والذّوق فقها وعادة الناس مصدرا للتّحليل والتّحريم، وكلّه كلام لسان ووصف كاذب لدين الله: ((وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون)) (النّحل: 116). ولكلّ زمان علماؤه وروّاده وفقهاؤه ومجدّدو حركته، دون تنكّر للقديم ولا انبهار بالجديد.

  • فليس كلّ قديم أصيلا ولا كلّ جديد دخيلا.
  • والرّأي يبقى رأيا حتّى لو قاله السّلف.
  • والحقّ ما قام عليه الدّليل ولو لم يهتدِ إليه السّلف.

والبدعة ليست في المأكل والمشرب والملبس والمركب، ما لم يكن قد نزل بشأنها تشريع محكوم بضوابط الحلال والحرام. إنما البدعة في الدّين الذي هو التّوحيد والعبادة وكلّيات التّشريع وكلّ ما ثبت بنصّ من أنّه من الدّين، وليس من أعراف النّاس وعاداتهم وتقاليده؛ فلباس رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكن واحدا، وكذا مأكله ومشربه ومرْكبه وطريقة عيشه.. فالدّين أوصى بالسّتر وجعل للزّينة ثلاثة مستويات كلّها ستر ولكنْ في بعضها -مع السّتر والعفّة- جمالٌ وذوق وزينة غير متبرّجة: لباس يواري السّوأة، ولباس يزيّن الهيئة، ولباس يستكمل به المؤمن ظاهر التّقوى: ((يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)) (الأعراف: 26)، وحتّى لباس المرأة المسلمة الذي نزل بشأنه وحيٌ في سورتيْ النّور: 31، والأحزاب: 59، ليس “زيّا عسكريّا” موحّدا من طنجة إلى جاكارتا ومن رأس الرّجاء الصالح إلى الفيليبين؛ فلباس المسلمة في الهند ليس كلباس أختها في الخليج، واللّباسان غير متناظريْن مع لباس المسلمة في إفريقيا وفي المغرب وإندونيسيا وروسيا وبلاد الإسكيمو…

الله -جل جلاله- أمر رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- بأنْ يحثّ المسلمات على السّتر بإدناء الجلباب لتُعرف أنها مسلمة: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) (الأحزاب: 59)، وأمرها بالضّرب على نحرها بطرف الخمار حتّى لا يظهر من بشرتها شيء: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) (النّور: 31). فالفريضة الأدنى السّتر بنيّة الطّاعة، والنّافلة الشّكل الخارجي للباس الشّرعي، والقاعدة الضّابطة هي: أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. والتّفاصيل يحدّدها الفقه الإسلامي -وفق ما يتحقّق به المقصد- بعيدًا عن الغلوّ والميوعة. فلا ينشب بين أبناء الدّين الواحد نزاعٌ في الفروع إذا احتُرمت الأصول والتُزم بها، ولا في الجزئيّات إذا رُوعيت الكليّات وتحقّق بالعبادة عموم الصّلاح حتّى لا تحار الأمّة بين عجز علمائها وجهل أبنائها. ولا تتصدّع مؤسّساتها بتنازع الفرق فتفشل وتذهب ريحُها، فلا تنجو منها فرقة ولا ينتشر بتنازعها دينٌ بينما الإسلام يُنتقص من أطرافه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!