-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ محمد خير الدين.. شامة الزيبان

الشيخ محمد خير الدين.. شامة الزيبان

اجتمع لأهل الجنوب من الخصال الحميدة ما تفرّق عند غيرهم، أولها أنهم قوم على الطبيعة لا تجد لهم تكلفا في المعاملة ولا تصنعا في العلاقة، وثانيهما أن أحدهم يلتحق بالكتاب لحفظ القرآن في سن مبكرة، وقد ورَّثهم هذا سليقة لغوية تجعل اللغة تنساب على ألسنتهم انسياب الماء في الميزاب. لعلماء الجنوب جهدٌ محمود ودور مشهود في الحركة العلمية في الجزائر، ولكن أقلام المؤرخين والمترجمين أخطأتهم في كل مرة ولا تذكرهم بالمرة، ولذلك أردت أن أكتب عن بعضهم دعما لجهد بعض الخيّرين الذين كشفوا للناس ما عند أهل الجنوب من فضائل وما في الجنوب من رجال عظام تركوا بصمتهم في سجلّ الحركة الإصلاحية والثورة التحريرية.

الشيخ محمد خير الدين هو ابن “فرقار” وهي واحة من واحات الزيبان، طلب العلم ونبغ فيه وهو لم يبلغ العشرين، ولما أتم دراسة العلوم الشرعية الضرورية انتقل إلى قسنطينة وانضمّ إلى مسجد الأربعين شريفا وتتلمذ على الشيخ الطاهر بن زكوطة كما يحكي ذلك الشيخ محمد الحسن فضلاء في كتابه: “من أعلام الإصلاح في الجزائر”. وكانت للشيخ خير الدين على غرار شيوخ الإصلاح في الجزائر رحلة إلى جامع الزيتونة بتونس، وهناك اختمرت في ذهنه فكرة الإصلاح فبدأ ينسق مع إخوانه في الجزائر وخارجها وكانت الحركة الباديسية النشطة في الجزائر أكثر ما استرعى انتباهه وأخذ بلبابه، وقد عرج في طريق عودته من تونس على الشيخ عبد الحميد بن باديس وشاور وتشاور معه بشأن ضرورة وضع خطة للإصلاح التربوي تكون نواتها قسنطينة ويمتد أثرها إلى كل ربوع الجزائر، وعمل على أن يكون لمنطقة الزيبان حظ وافر من هذه الخطة للقضاء على حالة الجمود الفكري التي كانت تعانيها في زمن أحكم فيه الاستعمار الفرنسي قبضته على كل شيء وفرض وصايته وسلطته على المساجد وكتاتيب القرآن وحرص بالاستعانة بجنوده وعيونه على تمييع رسالة المسجد والحيلولة دون قيامها بدورها الإصلاحي.

يذكّرني ارتياد مكتبة الدراسات العليا بجامعة الأمير عبد القادر الشيخ محمد خير الدين الذي أهدى كل محتويات هذه المكتبة بما فيها من مصادر ومخطوطات نفيسة إلى الجامعة، وهي مورد يستفيد منه عدد هائل من المتخرجين والباحثين، ولا تزال المكتبة إلى الآن ينهل منها الباحثون والزوار الذين يأتونها من كل حدب وصوب. في مكتبة الشيخ خير الدين كتب فقهية وتراثية وأدبية وعلمية ما يدل على أن الشيخ رحمه الله كان عالما موسوعيا، جمع بين فقه الشرع وفقه الواقع وبين علوم الدين وعلوم الدنيا.

وللأمانة، على ذكر مكتبة الشيخ خير الدين، فإن مكتبة جامعة الأمير عبد القادر تضم جناحا خاصا يسمى “مكتبات الشيوخ” ومنها مكتبة الشيخ محمد الطاهر ساحلي الذي سأكتب لاحقا عن سيرته العلمية ومسيرته الإصلاحية. ولا تزال الجامعة تستقبل مزيدا من المكتبات الخاصة سواء بمبادرة من أصحابها أو بمبادرة من أبنائهم وورثتهم لتكون لهم صدقة جارية كما جاء في الحديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم يُنتفع به وولد صالح يدعو له”. إنني أتمنى أن تنتقل هذه السُّنة الحميدة إلى أساتذة الجامعة فيوصوا بمكتباتهم الخاصة لجامعة الأمير عبد القادر، وسأسعى من جانبي لتنفيذ هذا الالتزام الأخلاقي وأرجو أن يجد ندائي هذا آذانا صاغية من زملائي، فنحن ثمرة هذه الجامعة، ونحن ومن سبقنا ومن جاء بعدنا ومن يأتي بعدهم ليس لنا إلا أن نؤدي دورنا ثم يطوينا الزمان كما طوى غيرنا، فنرجو أن يكون الكتاب الذي نقدمه لجامعة الأمير صدقة جارية، تخلد اسمنا وترفع ذكرنا ونثقل ميزاننا يوم القيامة.

وقد كان الشيخ محمد خير الدين رائد الجهادين؛ الجهاد باللسان والجهاد بالسنان، وقد تحدث الشيخ محمد الحسن فضلاء في كتابه: “من أعلام الإصلاح في الجزائر” الذي استعنتُ به كثيرا في تحرير هذا المقال عن إسهام الشيخ خير الدين وإخوانه في حركة الإصلاح في التحريض على مقاومة الاستعمار واعتبر ذلك مهمة مقدسة لاقتناعه بأن من مقاصد الإسلام  تحرير الإنسان والأوطان. يقول الشيخ فضلاء: “.. وحين انطلقت الثورة التحريرية وقف أمام تلاميذ معهد ابن باديس وأساتذته محرّضا على الدخول في خضم الجهاد السياسي والعسكري، فبدأ بنفسه وأخذ يعمل في ميادين جبهة التحرير الوطني مع قادتها إلى أن كلّف بمهمة ومسؤولية في المغرب الأقصى فالتحق بها وظل مكافحا إلى الاستقلال”.

إن نضال الشيخ خير الدين وإخوانه رحمهم الله من رجال الإصلاح في صفوف جبهة التحرير هو رد على بعض الأبواق والأقلام التي تصف الحركة الإصلاحية ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأنها حركة سلبية اهتمت بإصلاح الإنسان ولم تهتم بتحرير الأوطان، وهذه مجرد تخرُّصات وتُرَّهات يفندها العدد الهائل من الدراسات حول  دور الحركة الإصلاحية الجزائرية في الثورة التحريرية. هناك “مذكرات الشيخ خير الدين” التي تلخص مسيرته الإصلاحية والثورية فأتمنى أن يوليها الباحثون في تاريخ الحركة الإصلاحية أقصى ما نستحق من الاهتمام وتقديمها للأجيال للاستفادة منها.

استجاب الشيخ خير الدين وثلة من الشيوخ العائدين من تونس سنة 1928-كما جاء في كتاب محمد الحسن فضلاء سالف الذكر- للنداء الذي وجهه الشيخ بن باديس للتشاور من أجل وضع خطة إصلاحية شاملة، وكانت هذه الخطة تقوم على إنشاء المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية، والقيام بدروس الوعظ والإرشاد للعوام في كل ربوع الوطن، والكتابة في الصحف والمجلات من أجل نشر الوعي في أوساط الشعب الجزائري، وتأسيس النوادي الفكرية والثقافية وفرق الكشافة الإسلامية. إن تنوع الخطة الإصلاحية كان ضرورة ملحة في ظل تزايد وتيرة تشويه التراث الإسلامي التي كانت تنتهجها قوى ظلامية موالية للاستعمار. لقد كان للشيخ خير الدين دور ريادي في العمل الإصلاحي في مسقط رأسه بسكرة وفي كل التراب الوطني لأن الحركة الإصلاحية كانت حركة جزائرية إسلامية شاملة ولم تكن حركة مناطقية، وقد ساعدها عامل الشمول وسِعة الانتشار على بقائها صامدة متحدة في وجه الإدارة الاستعمارية التي سعت بكل الطرق إلى تفكيكها ولكنها مُنيت بالفشل، وهذا ما ينبغي أن تقتدي به الجبهة الوطنية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

إن وطنية الشيخ خير الدين حقيقة أكدها عمله الإصلاحي ونضاله الوطني، ولعل كلمته التأبينية للإمام محمد البشير الإبراهيمي في 1965 تلخّص ذلك: “بلّغ أيها الراحل العزيز، شهداء الجزائر العربية المسلمة، من عبد القادر إلى عبد الحميد بن باديس، وابن بولعيد، أن الجزائر باقية على المبدأ، محافِظة على العهد، عربية مسلمة إلى يوم الدين”.

لا يزال في حي “بئر خادم” الذي استقر به الشيخ خير الدين ما يشهد على العمل الإصلاحي والنضال الثوري البطولي الذي قام به الشيخ خدمة للدين وللوطن وإنني أهيب ببلدية “بئر خادم” أن تنشئ في إطار نشاطاتها الثقافية والعلمية جائزة باسم الشيخ محمد خير الدين اعترافا بجميل صنعه وجليل نضاله في سبيل الله والوطن، كما أهيب بولاية بسكرة أن تؤسس تقليدا سنويا يتمثل في ملتقى الشيخ محمد خير الدين تخليدا لأعماله وإكبارا لجهوده وليكن ذلك في ذكرى وفاته في العاشر من ديسمبر ملتقى يحتفي بالشيخ ويستذكر تضحيات الشعب الجزائري في مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر 1960، فتاريخها الوطني واحد بشقيه الإصلاحي والثوري.

كتب محمد بغداد مقالا في “الحوار” بعنوان (محمد خير الدين.. منعرج في الإصلاح)، ومما يُستشفّ من هذا المقال أن محمد بغداد يميل قليلا إلى فكرة احتكار القيادة داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ إذ أنه ينظر إلى دور الشيخ خير الدين داخل هياكل الجمعية بأنه دورٌ لا يضاهي كفاءته الإصلاحية وأنه كان يستحق مكانة أكبر من تلك التي تقلدها، ولكن “هيمنة” الصف الأول من جمعية العلماء حال دون ذلك، يقول محمد بغداد: “إن مسيرة الشيخ محمد خير الدين، ارتبطت في المخيال الجماعي، بجمعية العلماء المسلمين، ولكنّ تلك المسيرة تجسدت بعيدا عنها في الواقع العملي، فالرجل بالرغم من كونه من المشاركين في اجتماع الرواد، إلا أنه لم يصل إلى مستوى القيادة بعد تأسيس الجمعية، الأمر الذي جعل الشيخ محمد خير الدين، ينتظر حتى انسحاب الصف الأول من قيادة الجمعية ليقود المرحلة الجديدة من تاريخها، ويُدخل الكثير من الإصلاحات على عملها وطريقة اشتغالها”. أحترم رأي محمد بغداد ولكنني لا أوافقه على ما ذهب إليه لأن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت جمعية إصلاحية بعيدة عن كل هذه الشبهات والحسابات وكان هناك بشهادة من أرَّخوا لها تلاحم وانسجام بين أعضائها بدليل أننا لم نقرأ في مذكرات محمد خير الدين ولا غيره من رواد الجمعية  ما يدينها أو يجعل هذه الفرضيات ولا أقول الاتهامات تنطلي عليها.

إن وطنية الشيخ خير الدين حقيقة أكدها عمله الإصلاحي ونضاله الوطني، ولعل كلمته التأبينية للإمام محمد البشير الإبراهيمي في 1965 تلخّص ذلك: “بلّغ أيها الراحل العزيز، شهداء الجزائر العربية المسلمة، من عبد القادر إلى عبد الحميد بن باديس، وابن بولعيد، أن الجزائر باقية على المبدأ، محافِظة على العهد، عربية مسلمة إلى يوم الدين”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!